أما بعد: فإنَّ أعظمَ وخيرَ ما يُوصى به السائرون إلى الله تعالى والعاملون الذين يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا تقوى الله، فإنها وصية ُاللهِ لمن سبق من الأمم، وهي وصية ُ اللهِ لمن بعدهم أن يتقوه ويهتدوا بهداه، قال عز من قائل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131].
أيها المؤمنون، انشغلَ كثيرٌ من أبناء المسلمين اليوم بعلومٍ أحسنُ ما يقالُ عنها أنها من فروض الكفاية، إن لم يكن طلبُ بعضِها مكروهًا أو محرَّمًا، وبعضهم يشتغلُ بتحصيل ِعلمٍ ضرره أرجحُ من نفعه، أو بعلم العلمُ به لا ينفع والجهلُ به لا يضرّ، مع جهلهم التام والفاضح بأبجديات الإسلام وما أوجب الله عليهم معرفتَه من الإيمان باللهِ وبرسولهِ وما فرضَه اللهُ على عباده.
معاشر المسلمين، في القرآنِ العظيم والسنةِ المطهرة حثٌ على طلب العلم وبيانٌ لفضلِهِ ومكانتِهِ وعلوِ مرتبتِهِ وشرفِ حملَتِهِ والسائرين في طريقه، وبيانُ أن العلمَ المرادُ طلبُهُ والمرغوبُ فيه والمحثوثُ عليه هو العلمُ الشرعي، من معرفةِ الإيمانِ والإسلام ومعرفةِ الحلالِ والحرام والبدعةِ والسنة ونحوها، وكلُ علم يدلُّ على اللهِ تعالى ويزيدُ في الإيمان فهو علمٌ شريفٌ، يمتدحُ حامله وتُشكَرُ مساعيه.
ولقد حثَّ الربُ تبارك وتعالى على العلم والتزود منه، فقال جلَّ شأنه: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ [محمد: 19]، فهنا أمر اللهُ سبحانه بالعلم وأوجبه قبل القول والعمل. وقال عز وجل: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11]، فبيَّن أن المؤمنين العالمين أفضلُ وفي كلٍ خير.
ولم يأمر الله ُسبحانه وتعالى نبيَّه وخليلَه محمدًا بالاستزادةِ من شيء غيرَ العلم، فقال عز وجل: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]. ومدحَ الله ُسبحانه وتعالى العلماءَ بالعقل والفهم الصحيحين، فقال جل شأنه: وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العنكبوت: 43]. وأخبرَ سبحانه أنَّ استواءَ أهلِ العلم الشرعي العاملين بعلمهم مع الجهلةِ والغوغاءِ أمرٌ يستحيل، فقال جلَّ ثناؤه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9]. وامتنَّ الله ُعلى رسوله محمدٍ بتعليمه له ما لم يكن يعلم من قبلُ، فقال: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [النساء: 113]. وجعلَ الله ُ تفقهَ بعض ِالمسلمين وتخصّصهم في علوم ِالشريعة ِالمختلفة فرضَ كفايةٍ يأثمون بتركه جميعًا، فقال: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122]. وقصرَ سبحانه خشيته والخوفَ منه على العلماء ِالربانيين، فقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28]، وقال عز وجل: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ [القصص: 80]. وخصَّ الله ُالعلماءَ بالتفكرِ والتدبر، فقال: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم: 22].
ومن إكرام اللهِ تعالى واجلاله للعلماء استشهاده بهم على أجلِّ مشهودٍ به وهو توحيده، وقَرَنَ شهادتهم بشهادته وشهادةِ ملائكته الكرام، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران: 18]. فمما يستفادُ من هذه الآية: تعديلُ اللهِ تعالى لأهل العلم، فأيُّ فضيلةٍ للعلماء بعد هذا؟! وقال عز وجل في معرِضِ المدح للعلماء في سرعةِ استجابتهم وتسليمهم لله وما جاءَ عنه مما علموا صفته وكيفيته، ومما لم يعلموا يؤمنون به كما جاء من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ ولا تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، قال تعالى: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [آل عمران: 7]. وبيَّن تعالى عن المكان الذي يضعُ فيهِ آياتهِ وبيناتهِ، فقال: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت: 49]، وقال عز وجل: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: 269]. قيل: إن الحكمة هي السُنَّة، وقيل: هيَ العلم.
وثمرةُ العلمِ العمل، فأسرعُ الناس إلى العمل بما عَلِم وأولاهم هم العلماءُ؛ فلذا نعى الله على قوم ٍمن أهل الكتاب أنهم أوتوا العلم ولكنهم لم ينتفعوا به، فهذا علمٌ نافعٌ ولكنَّ صاحبه لم ينتفع به، فدلَّ على أن ثمرة َالعلمِ العملُ والانتفاعُ به في الدنيا والآخرة، فقال جل ثناؤه: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الجمعة: 5]. ولقد ذمَّ الله قومًا تعلموا علمًا يضرُّهم ولا ينفعهم كما كان من السحرة،؛ تحذيرًا من مشابهتهم في تعلم ما لا ينفعُ صاحبه ولا يقرِّبُه إلى الله والدار الآخرة، قال تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة: 102].
أيها الأحبة، إنَّ الفقه في الدين ومعرفة الحلال والحرام مكرمةٌ ربانية، ومن يؤتاها يتحلى بالخيرية، ففي صحيح البخاري عن معاوية بن أبي سفيان قال: سمعتُ النبي يقول: ((من يُردِ الله به خيرًا يُفقهه في الدِّين، وإنما أنا قاسمٌ واللهُ معطي، ولن تزالَ هذه الأمةُ على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيَ أمرُ الله)).
وبشَّرَ النبيُ طلابَ العلم ِ بالجنةِ ما داموا على طريق الطلبِ سائرين، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من نفَّسَ عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا نفَّسَ اللهُ عنه كربةً من كرب يوم القيامة، ومن يسَّرَ على معسرٍ يسَّر اللهُ عليه في الدنيا والآخرة، واللهُ في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه، ومن سلك طريقًا يلتمسُ فيه علمًا سهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنة، وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوت الله يتلون كتابَ الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله ُ فيمن عنده، ومن بطأَ به عمله لم يسرع به نسبه)) رواه مسلم. وعن كثير بن قيس قال: كنتُ مع أبي الدرداء في مسجد دمشق، فجاءَ رجلٌ فقال: يا أبا الدرداء، إني جئتك من مدينة الرسول في حديثٍ بلغني أنك تحدثُ عن رسول الله ، قال: ما كانت لكَ حاجةٌ غيره؟ قال: لا، قال: ولا جئتَ لتجارة؟ قال: لا، قال: ولا جئتَ إلا فيه؟ قال: نعم، قال: فإني سمعتُ رسولَ الله يقول: ((من سلك طريقَ علم سهَّلَ اللهُ له طريقًا من الجنة، وإنَّ الملائكةَ لتضعُ أجنحتها رضًا لطالبِ العلم، وإنَّ السمواتِ والأرضَ والحوتَ في الماء لتدعو له، وإنَّ فضلَ العالم على العابد كفضلِ القمر على سائر الكواكب ليلة َالبدر، العلماءُ هم ورثةُ الأنبياء، وإنَّ الأنبياءَ لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظٍ وافر)) رواه أبوداود والترمذي وابن ماجه والدارمي، وصححه الحاكمُ وابنُ حبان وله شواهدُ تقويه.
وحثَّ النبيُّ الناسَ على التعلم، فعن معاوية بن أبي سفيان عن النبي قال: ((يا أيها الناسُ، تعلموا، إنما العلمُ بالتعلم، والفقهُ بالتفقه، ومن يردِ اللهُ به خيرًا يفقهه في الدين)) رواه الطبراني وابنُ أبي عاصم وقال الحافظُ ابنُ حجر: "إسناده حسن".
ودعا النبيُ بالنضارة ِوالبهاءِ في الوجه لطالب العلم، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله يقول: ((نضرَ الله امرأ سمعَ منَّا شيئًا فبلَّغه كما سمعه، فرُبَّ مبلغٍ أوعى له من سامع)) رواه الترمذي وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيح". وقال الإمامُ الورعُ سفيانُ الثوري رحمه الله: "ليس عملٌ بعد الفرائض أفضلُ من طلب العلم"، وقال أيضًا: ما أعلمُ اليومَ شيئًا أفضلُ من طلب العلم، قيل له: ليس لهم نية؟ قال: طلبهم له نية.
وقال ابن القيم رحمه الله في مدح الفقهاء والعلماء: "فقهاءُ الإسلام ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام الذين خُصّوا باستنباط الأحكام وعُنوا بضبط قواعد الحلال من الحرام، فهم في الأرض بمنزلة النجوم من السماء، بهم يُتهدى في الظلماء، حاجةُ الناس إليهم أعظمُ من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أفرضُ عليهم من طاعة الأمهات والآباء بنص الكتاب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ [النساء: 59]، قال ابنُ عباس رضي الله عنه في إحدى الروايتين عنه وجابرُ بن عبد الله والحسنُ البصري وأبوالعالية وعطاءُ والضحاك ومجاهدُ في إحدى الروايتين عنه: أولو الأمر هم العلماءُ، وقال أبوهريرة رضي الله عنه: هم الأمراءُ، وهي الرواية الأخرى عن ابن عباس. والتحقيقُ أن الأمراءَ إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبعٌ لطاعة العلماء".
اللهم إنا نسألك علمًا نافعًا ورزقًا واسعًا وشفاءً من كل داء.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسُنة، ونفعنا بما فيهما من البينات والحكمة. أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|