أما بعدُ: فاتقوا الله عبادَ الله، فإنها وصيةُ الله إليكم وإلى من كان قبلكم إذ قال: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131]. وأهلُ التقوى هم خيرُ الناس، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13]. مَن رامَ عزًا وفلاحًا وطلب خيرًا وصلاحًا وابتغى رشدًا ونجاحًا فعليه بتقوى الله، فتقوى الله خروجٌ من المضايق ونجاةٌ من المآزق، تقوى الله أمانٌ من الرزايا وسلامةٌ من البلايا، تقوى الله عصمةٌ من الفتن ونجاةٌ من المحن.
معاشر المسلمين، لقد خلقكم الله تبارك وتعالى لهدفٍ عظيم وأمرٍ جسيم، ألا وهو تحقيقُ العبودية له سبحانه، يقول تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]. فمَن الذي خلقكم غيرُ الله؟! ومَن الذي رزقكم غيرُ الله؟! ومَن الذي يكلؤكم بالليل والنهار غيرُ الله؟!
أيها المسلمون، إن الله تعالى نوَّعَ سُبُلَ العبادات وطرقَ الخيرات، وفضَّل بعضها على بعض، وكان بعضُها أعظمَ أجرًا من بعض، وكان منها ما يجمعُ الخيرَ كله. من ذلك ما قاله مطرِّفُ بن عبد الله: "تفكرتُ في جماع الخير فإذا الخيرُ كثير، صيامٌ وصلاةٌ وغيرُها، وكلُ ذلك بيد الله، وأنت لا تقدرُ على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك، فإذا جماعُ الخير الدعاء".
والدعاءُ نعمةٌ كبرى ومنحةٌ جُلَّى، جاد بها المولى تبارك وتعالى وامتنَّ بها على عباده، حيثُ أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة والإثابة، فشأنُ الدعاء عظيم ونفعه عميم ومكانته عاليةٌ في الدِّين، فما استجلبت النعم بمثله، ولا استدفعت النقم بمثله؛ ذلك أنه يتضمنُ توحيدَ الله وافرادَه بالعبادة دون سواه، وهذا رأسُ الأمر وأصلُ الدين، فما أشدَّ حاجةَ العباد إلى الدعاء، بل ما أعظمَ ضرورتهم إليه، فالمسلمُ في هذه الدنيا لا يستغني عن الدعاء بحالٍ من الأحوال، بل ومن في الأرض كلهم جميعًا بأمس الحاجة للدعاء وإخلاصه لرب الأرض والسماء، ليصلوا بذلك إلى خيري الدنيا والآخرة، فإذا كان الدعاءُ بتلك المنزلة العالية والمكانة الرفيعة فما أجدر بالعبد أن يتفقه فيه، ويُلِمّ بشيء من أحكامه ولو على سبيل الإجمال، حتى يدعو ربه على بصيرةٍ وهدى، بعيدًا عن الخطأ والاعتداء، فذلك أرجى لقبول دعائه وإجابة مسألته.
وإن عبدًا يجيدُ فنَّ الدعاء حريٌ أن لا يهتمّ ولا يغتمّ ولا يقلق، كلُ الحبال تتصرمُ إلا حبله، وكلُ الأبواب توصدُ إلا بابه، وهو قريبٌ سميعٌ مجيب، يجيبُ المضطر إذا دعاه، يأمرك وأنت الفقيرُ الضعيفُ المحتاج وهو الغني القوي الواحد بأن تدعوه: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60].
أيها المسلمون، إن دعاء الله عز وجل إما أن يكون دعاءَ مسألة، وإما أن يكون دعاءَ عبادة، قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: "كلُ ما ورد في القرآن من الأمر بالدعاء والنهي عن دعاء غير الله والثناء على الداعين يتناولُ دعاءَ المسألة ودعاء العبادة، وهذه قاعدةٌ نافعة، فإن أكثر الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة دعاء المسألة فقط، ولا يظنون دخولَ جميع العبادات في الدعاء، وهذا خطأٌ جرَّهم إلى ما هو شرٌ منه، فإن الآيات صريحةٌ في شموله لدعاء المسألة والعبادة".
ودعاءُ المسألة: أن يطلب الداعي من الله تعالى ما يحتاجه وينفعه وما يكشف عنه ضرره وبلواه؛ كأن يقول: اللهم أعطني وأكرمني وارحمني واغفر لي. وأما دعاءُ العبادة: فهو شاملٌ لجميع القربات الظاهرة والباطنة من صلاة وصيام وحج وغير ذلك.
وللدعاء ـ عبادَ الله ـ فضائلُ عظيمة وثمراتٌ جليلة وأسرارٌ بديعةٌ عجيبة، فمن ذلك:
1- أن الدعاءَ طاعةٌ لله تعالى وامتثالٌ لأمره عز وجل، فقد أمرَ بذلك عبادَه بأن يدعوه ويطلبوا منه حوائجهم ويسألوه مقاصدهم ويرفعوا أكفهم إليه، ووعدهم أن يجيبهم ويعطيهم سؤلهم ويدفع عنهم ما يضرهم، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [الزمر: 60]، وقال تعالى: وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [الأعراف: 29]. فمَن دعاه فقد أطاعَ اللهَ واستجابَ لأمرِ مولاه.
2- أن الدعاءَ سلامةٌ من الكبر؛ لأن الذي لا يدعو الله متكبرٌ متغطرسٌ، متعالٍ على الله تعالى، مظهرٌ الغنى وعدم الحاجة لربه جل وعلا، ولهذا قال في الآية السابقة: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي أي: دعائي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ، فالدعاءُ تواضعٌ لله وتذللٌ له سبحانه.
3- الدعاءُ أكرمُ شيء على الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي أنه قال: ((ليس شيء أكرمَ على الله عز وجل من الدعاء)) رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
4- الدعاءُ محبوبٌ لله تعالى، فيحبُ من عبده أن يدعوه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: ((سلوا الله من فضله، فإن الله يحبُ أن يُسأل)) رواه الترمذي وضعفه، ومعناه صحيح وله شواهد.
5- أن الدعاءَ سببٌ لانشراح الصدر وتفريج الهموم وزوال الغموم وتيسير الأمور، دخل النبيُ المسجد ذات يوم فرأى فيه رجلاً من الأنصار يقال له: أبو أمامة، فقال النبيُ : ((ما لي أراك جالسًا في المسجد في غير وقت الصلاة؟)) قال: همومٌ لزمتني وديونٌ أثقلتني يارسولَ الله، فقال: ((أفلا أعلمك كلامًا إذا قلته أذهبَ الله همك وقضى دينك؟)) قلت: بلى يا رسول الله، قال: ((قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذُ بك من الهم والحزن، وأعوذُ بك من العجز والكسل، وأعوذُ بك من الجبن والبخل، وأعوذُ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال))، قال: ففعلتُ ذلك فأذهبَ الله همي وغمي وقضى ديني. رواه أبو داود
6- أن الدعاءَ سببٌ لدفع غضب الله تبارك وتعالى، فقد صحّ عن رسول الله أنه قال: ((من لم يسأل اللهَ يغضب عليه)) رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وذلك أن العباد فقراءُ محتاجون إلى الله مهما كان لبعضهم مالٌ ومنصبٌ وجاه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر: 15].
7- الدعاءُ دليلٌ على التوكل على الله والاستعانة به وتفويضُ الأمر إليه.
8- الدعاءُ دليلٌ على كبر النفس وعلو الهمة، فعلم الداعي أن الخلقَ ضعفاءُ فقراءُ وأن الذي بيده مقاليدُ الأمور يصرفها كيف يشاء وبيده قلوبُ العباد يقلبها متى يشاء هو الله جل جلاله، وبهذا يقطع الطمع مما في أيدي الناس، فيتخلص من أسرهم، ويتحرر من رقهم، ويسلم من منتهم، وهذا رأسُ الفلاح وأسُّ النجاح.
9- الدعاءُ سلامةٌ من العجز ودليلٌ على الكياسة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((أعجزُ الناس من عجز عن الدعاء، وأبخلُ الناس من بخل بالسلام)) رواه ابن حبان وقال الألباني: "صحيح".
10- أن الدعاءَ ثمرته مضمونةٌ بإذن الله تعالى إذا جاء العبدُ بشرائطه.، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((ما من مسلم يدعو ليس بإثم ولا بقطيعة ِرحم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها))، قال: إذًا نُكثر؟ قال: ((اللهُ أكثر)) رواه البخاري في الأدب المفرد وقال الألباني: "صحيح".
11- الدعاءُ سببٌ لدفع البلاء قبل نزوله ورفعه بعد نزوله، قال : ((لا يردُّ القدرَ إلا الدعاء)) رواه أحمد وابن ماجه وحسنه الألباني، وقال : ((لا يغني حذرٌ من قدر، والدعاءُ ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن الدعاءَ ليلقى البلاء فيعتلجان إلى يوم القيامة)) أخرجه الطبراني وحسنه الألباني.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من البينات والحكمة. أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ الله.
|