أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله، وأطيعوه، وراقبوا أمره، ولا تعصوه، واشكروه على جميع نعمه. إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ [الزمر:7].
عباد الله: اعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، واجتهدوا في إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة للدين، واحذروا النزاع وأسباب التفرق، وَلاَ تَنَـٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [الأنفال:46].
ومن أسباب التفرق، وتمزيق القلوب: الحسد والتباغض والتدابر، وفعل ما يسخط الآخر كالنجش، وهو أن يزيد في ثمن السلعة بعد أن يَرْضى صاحبها ببيعها للسائم الأول، أما ما دامت في الحراج وصاحبها يطلب الزيادة، فلا بأس. وبيعه على بيع أخيه، وشرائه على شراء أخيه.
والتفرق من أمور الجاهلية.
واعلموا أن الله أمر ولاة أمور المسلمين بأن يؤدوا ما بأعناقهم من الأمانة للرعية، وأن يحكموا بالعدل، فيقيموا الحدود والتعزيرات، ويردعوا العصاة عن المعاصي، وأن يرفقوا بهم، فلا يكلفوهم ما يشق عليهم، قال تعالى: وَٱخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215].
وأمر الرعية بأن يسمعوا لهم، يطيعوهم فيما أمروهم أو نهوهم، ما لم يكن في معصية الخالق، قال تعالى : يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59].
فوجوب طاعة ولي أمر المسلمين عقيدة دينية، يدين بها المسلم لربه، فإن أمره أميره أو مديره بأمر، وجب عليه تنفيذه، ما لم يكن معصية لله، وإن نهاه عن فعل شيء وجب الانتهاء عنه.
وولاة الأمور هم العلماء والأمراء، فطاعة هؤلاء فيها مصلحة الدين والدنيا، ومخالفتهم فيها فساد الدين والدنيا، فولي الأمر جُنَّة ـ أي: ستر وحجاب ـ ونعمة على المجتمع الإسلامي يقودهم للجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأعراض والأموال، ويقودهم من له الولاية على الحرمين في الحج، ويولي من هو أهل للولاية على مصالح قطع الطريق والتعرض للمسلمين ويأخذ أموالهم أو يقتلهم أو ينتهك أعراضهم، ويضرب على يد من يريد الإخلال بالأمن.
فلهذه المصالح وغيرها قال العلماء: تجب طاعة الأمير ولو كان فاسقًا بنفسه، فإن صلى بالناس إمامًا وجب أن يصلوا معه.
وكما تجب طاعة ولاة الأمور يجب النصح لهم، وإظهار محاسنهم وإخفاء مساوئهم، ويحرم الكلام بما يوقع بغضهم في القلوب، أو ينفروا عنهم، ومن لم يقدر على النصح دعا لهم.
قال الأمام أحمد: لو علمت أن لي دعوة مستجابة لصرفتها لولي الأمر؛ لأن في صلاح ولي الأمر صلاح الرعية. وهذا من فقه الإمام أحمد، وثبت في الحديث : ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تجتمعوا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم)).
ويقول الشاعر:
نصح الإمام على الأنام فريضة ولأهلـه كـفارة وطـهور
ويشترط لنصح ولي الأمر صلاح نية الناصح وصدقها، ويعرف ذلك بألا يرى منه الافتخار بأنه يصل إلى الأمراء والحكام، بل يخفي نصيحته، فإن صادفت قبولاً كان دالاً على الخير، والدال على الخير كفاعله، وإن صادفت ردًا فقد برئت ذمته، ففي احترام ولاة الأمور من الأمراء والعلماء عز المجتمع. فوحدة الكلمة لها روعتها، وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ [ آل عمران:103]، فلا يوقع بهم في الكلام ولاسيما مع الصغار والعوام، والذين لا يعرفون العواقب، فالكتاب والسنة مملوءان بهذا المعنى، وإليكم قول بعض العلماء في تفسير الآية الكريمة : أطيعوا السلطان في ضرب الدراهم والدنانير والمكاييل والموازين والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد.
قال بعض المفسرين : لو نهى السطان العالم عن الفتوى، فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاص؛ لأن الفتوى علاج للقلوب فلابد أن ينظر السلطان في طبيب القلوب فهو أولى بالنظر من طبيب الأجسام ومثله المعلم!!
ومن أمثلة ما يطاعون به سائر الأنظمة، التي فيها مصلحة للمجتمع ولا تخالف نصًا من الكتاب والسنة، وكما تجب الطاعة لولاة الأمور من المواطنين تجب أيضًا على المتعاقدين المستقدمين، فيجب عليهم أن ينفذوا ما التزموا به من شروط الاستقدام، التي وضعتها الدولة، فلا يعثون في الأرض فسادًا، ولا يبثون كلامًا مسمومًا، ولا يغشون في أعمالهم، فمن خالف ما التزم به من الشروط، أو أعان على المخالفة، فهو عاص لولاة الأمور، ففي الحديث الشريف: ((من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني))، وفي الحديث الآخر: ((أن سَلَمة بن يزيد سأل رسول الله قال: يا نبي الله! أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألون حقهم ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، حتى سأله الثانية والثالثة، فجذبه الأشعت بن قيس، فقال: اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم)).
وفي الحديث الآخر: ((إنها ستكون بعدي أثرة، وأمور تنكرونها، قالوا : يا رسول الله ! كيف تأمر من أدرك ذلك منا؟ قال: تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم))، وفي رواية: ((وتسألون لهم0))، وفي الحديث الآخر: ((خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم . قالوا: يا رسول الله ! ألا ننابذهم عند ذلك؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. لا ما أقاموا فيكم الصلاة)).
وفي الحديث الآخر: ((ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية الله، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدًا من طاعة)).
وفي الحديث الآخر: ((على المرء السمع والطاعة فيما أحب أو كره، إلا أن يؤمر بمعصية،فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة))، أي: لا ينفذ ما أمر به من المعصية، أما ما أمر به من الطاعات فعليه تنفيذه.
ولهذه النصوص ولغيرها قال بعض العلماء: لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء. فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، ومن تعظيم العلماء والحكام ألا ينشر الإنسان أو يذيع أمرًا أو حدثًا رآه، بل يرده لهاتين الفئتين، قال تعالى: وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مّنَ ٱلاْمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِلاَّ قَلِيلاً [النساء:83].
قال القرطبي في أحكام القرآن (5/291): (والمعنى أنهم إذا سمعوا شيئًا من الأمور فيه أمن نحو ظفر المسلمين وقتل عدوهم، أَوِ ٱلْخَوْفِ، وهو ضد هذا أَذَاعُواْ بِهِ، أي: أفشوه وأظهروه وتحدثوا به قبل أن يقفوا على حقيقته).
ولا يصدر هذا من أقوياء المسلمين وأهل العقول السليمة؛ ولهذا قال بعض المفسرين: (إنه يصدر من ضعفة المسلمين؛ لأنهم كانوا يفشون أمر النبي ويظنون أنهم لا شيء عليهم في ذلك).
ذكره القرطبي في أحكام القرآن (5/291).
كما نقل عن الضحاك: أنهم المنافقون، فنهوا عن ذلك لما يلحقهم من الكذب في الإرجاف. وقال القرطبي أيضًا: قوله تعالى:وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْهُمْ [النساء :8]، أي: لم يحدثوا به ولم يفشوه، حتى يكون النبي هو الذي يحدث به ويفشيه. أو أولو الأمر وهم أهل العلم والفقه.
كما نقل عن بضع التابعين: أن المراد بولي الأمر: الولاة، وقيل أمراء السرايا، ولا يمنع أن تشمل الآية العلماء، وولاة المؤمنين العاملين بشرع الله.
ولا مانع أن يكون الإخبار للمسؤول المباشر أو المسؤول العام حسب الحال والمصلحة. قوله تعالى: لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، قال القرطبي: (أي: لعلموا ما ينبغي أن يفشى منه، وما ينبغي أن يكتم)، فلو تأدب المسلمون بآداب القرآن، وتخلقوا بأخلاقه ؛ لسلمت صدورهم، واجتمعت كلمتهم، وانتصروا على عدوهم.
ولولاة الأمور والرعايا الأسوة الحسنة في رسول الله وأصحابه حينما جاءه خبر بني قريظة بنقضهم للعهد، بعد انهزام الأحزاب في غزوة الخندق، ندب أحد الصحابة ليتثبت عن نقض بني قريظة، ثم قال له: إذا وجدتهم لم ينقضوا فارفع صوتك بالخبر إذا أقبلت علينا، وإن وجدتهم قد نقضوا فأعطني الإشارة من دون أن يسمع الصحابة.
فالرسول أراد منه أن يرفع صوته بعدم نقضهم العهد؛ لما في ذلك من تقوية لنفوس المسلمين ورفع لمعنوياتهم.
وكذا الإشارة حالة نقضهم العهد ؛ لما في ذلك من تشجيع للمنافقين، وليكون الإخبار من جهة الرسول حسب الطريقة التي يراها.
ولهذا خطب الرسول بالصحابة بعد صلاة الظهر، وأمرهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فما كان منهم رضي الله عنهم إلا السمع والطاعة.
فالمسلم حقًا يعمل بما سمع من كتاب الله سنة نبيه، ولو خالفهما الكثير من الناس.
قال تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِى ٱلأرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ [الأنعام :116] وقال: وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ ٱلشَّكُورُ [ سبأ:13].
فالعبرة – أيها المسلمون – بمن نجا، كيف نجا؟! وليس العبرة بمن هلك، كيف هلك؟
فلا تستوحشوا من الطريق ؛ لقلة السالكين، ولا تغتروا بكثرة الهالكين.
نسأل الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة، كما نسأله السلامة من حقوق خلقه، والإعانة على أداء حقه، وأن يجعلنا من المتعاونين مع ولاة أمورنا على البر والتقوى، وألا يجعلنا من المتعاونين على الإثم والعدوان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلاْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلاْخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [ النساء:59].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|