أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله حق التقوى، وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فالأعمار تُطوى، والأجيال تفنى، والآجال تقضى، كم من الناس من عاش معنا بالأمس، عاجله أجله قبل اليوم، وكم من الناس من يعيش معنا اليوم لن يمهله أجله إلى الغد.
عباد الله، ها نحن هذا اليوم نستقبل عامًا هجريًا جديدًا بعد أن ودعنا عامًا مضى بالأمس، فماذا ادخرنا فيما مضى؟ وماذا أعددنا لما نستقبل؟ هل ادخرنا في صحفنا ما يسرنا أن نراه فيها غدًا أم ادخرنا غير ذلك؟!
في استقبال عام وتوديع آخر لا بد أن يعلم كل إنسان ويستقر في قلبه أن الدنيا دول، يوم لك ويوم عليك، وأن الأعمار بيد الله عز وجل، وأن الإنسان لا يعلم ما في القدر، قُل لاَ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَ اللَّهُ.
ولئن كان الكافر يعيش حياته كالبهيمة، يحيا لدنياه ويموت لها، لا يرجو جنة ولا نارًا ولا جزاء ولا شكورًا، فإن المسلم يحيا لآخرته، ودنياه تبع لأخراه، وأمله متعلق بالله عز وجل: مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا كُلاً نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً.
وليعلم الإنسان أن الدنيا دار عمل، وأن الآخرة دار الجزاء ولا عمل فيها، فليخلص لله عز وجل، والعمر قصير والأيام تطوى، وعمله سيلاقيه عند لقاء ربه، يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ، أي: إنك ساعٍ إلى ربك سعيًا، وعامل عملاً، فملاقيه، ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر، فيجازيك الله على عملك ويكافئك على سعيك، في الحديث عن جابر قال: قال رسول الله : ((قال جبريل: يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه)) رواه أبو داود الطيالسي.
أيها المسلمون، إن السعيد من حاسب نفسه قبل الموت على أعماله في هذه الحياة، هل سلك بأعماله طريق الجنة أم زاغت به نفسه الأمارة بالسوء إلى طريق الجحيم، هل قدّم مراد الله على مراد النفس والهوى أم قدم هوى نفسه على أوامر الله ورسوله، يقول عمر بن الخطاب : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر)، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ، وقال ميمون بن مهران: "لا يكون الرجل تقيًا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه".
عباد الله، ها أنتم الآن في دار المهلة، فماذا أعددتم لما بعدها؟ وهل حاسبتم أنفسكم على أعمالها؟ وهل وقفتم معها موقف الناقد المحاسب الذي يسأل عن كل ما أمامه؟ فإن رأى خيرًا أمضاه، وإن رأى غير ذلك رجع إليه وأصلحه، لنقف مع أنفسنا هذه الوقفات القليلة؛ لعل الله أن يصلح حالنا ومآلنا ويسعدنا في دنيانا وأخرانا.
الوقفة الأولى: إنه يجب على المسلم أن يكون متجهًا إلى ربه في كل عمل يعمله، فهو الذي يجازي الناس بأعمالهم، وهو الفعال لما يريد، والله سبحانه لا يجازي الناس بصورهم وأجسامهم، وإنما يجازيهم بأعمالهم، في الحديث: ((إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)). وإذا علم الله من عبده حب الخير والحرص عليه وفقه له وقواه عليه ويسره له. ثم اعلم أن طاعة الله سبحانه وتعالى مقدمة على طاعة كل أحد، ورضاه مقدم على رضا كل أحد، وفي الحديث عن النبي : ((من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس))، والناس عبيد الله، والعبد لا ينفك عن طاعة مولاه وامتثال أمره واجتناب نهيه.
الوقفة الثانية: إنه ينبغي لكل عاقل أن ينظر في أقرانه وأحبائه وأهل بلده كيف اختطفهم الموت من بين يديه، لم تغنهم أموالهم ولا قوتهم ولا كثرة أولادهم، ولو جُعل الخلد لأحد لكان لرسول الله ، يقول الله عنه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، ويقول: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ، وليحرص الشاب على هذه النظرة؛ فالشاب يغره شبابه وقوته، ويطول به الأمل حتى يأخذه الموت على غرة، يقول ابن الجوزي رحمه الله: عجبت للشاب كيف يطول به الأمل، أوما علم أن من يأخذه الموت من الشباب أكثر ممن يأخذه من الشيوخ؟! قال: وانظر إلى من حولك، كم فيهم من معمِّر؟ أين البقية؟ لقد ماتوا شبابًا، ولئن عشت وطال بك العمر وهرمت فلن تكون في هرمك كشبابك، ستضعف القوة وتكثر الأمراض، وتشغلك الأعمال وكثرة الأولاد، ولهذا قال النبي : ((اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وغناك قبل فقرك، وصحتك قبل مرضك، وفراغك قبل شغلك)). والسعيد ـ يا عباد الله ـ من استعد لما أمامه وجعل حياته ذخرًا لمماته واعتبر بالماضين ونظر في أحوال السابقين.
الوقفة الثالثة: الوقت هو رأس المال، وهو ميدان العمل ومرتع الطاعة والمعصية، فحافظ على وقتك، واقضه في طاعة الله عز وجل، فما مضى لن يعود، والغد غائب لا تدري أتدركه أم لا. وإن خير ما قضيت به الأوقات الإيمان بالله سبحانه والعمل الصالح، فهو الذخر والباقي لابن آدم، ولقد حثنا الله على استغلال هذا الزمان لما يقرب إليه فقال: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، قال الشافعي رحمه الله: "لو لم ينزل الله على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم". وإن أعظم ما يفقده المسلم في هذه الأزمان المحافظة على الوقت واستغلاله في طاعة الله عز وجل، يقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعًا عجيبًا، إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو قراءة كتاب لا يفيد، وإن طال النهار فبالنوم، وهم في أطراف النهار في الأسواق، قال: فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبر".
فاتقوا الله عباد الله، والزموا طريق السلف الصالح في المحاسبة والعمل، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
|