عباد الله، في هذه الأيام وما سبقها وما يتلوها أهلَّ على المجتمع موسم التحصيل الدراسي وما يكون فيه من أمور المذاكرة والتحصيل وما يتبع ذلك من استنفار أهل البيوت في الوقوف بجانب أبنائهم الذين يغرقون إلى آذانهم في زحمة الاختبارات وخضم الامتحانات، ويعيشون أيامًا لو سألتهم عنها لزعموا أنها أبغض أيامهم إليهم، إنهم ليستبطئون أيامها ويستطيلون ساعتها، حتى لكأن ساعتها يوم، ولكأن يومها شهر.
والفرد ـ عباد الله ـ حري أن لا يمر به شيء دون أن ينفذ فيه ببصره وبصيرته ليرى ما وراءه، وليستنبط الدرس والعبرة، والاختبارات الدراسية برغم عنائها وجهدها مدرسة حقيقية لو تأملنا فيها وفهمنا ما ترشدنا إليه. وفيما يلي بعض الوقفات مع موسم الاختبارات.
الوقفة الأولى:
في مثل هذه الأيام من كل عام تُرتَكب بعض الأخطاء وترسخ في الأذهان حتى تغدو كأنها من الأمور المسلّم بها، ومن ذلك ما يرتكبه البعض من جعل نجاح الطالب أو الطالبة أو إخفاقه في الامتحان علامة على نجاح المرء في حياته أو فشله، فإذا نجح الولد كال له أبواه أنواع المديح والثناء، وتغاضيا عن أمور شرعية قد تمثل بها ذلك الولد فأحسن في أدائها، ومع ذلك لا يجد من والديه شطر ما يجده من الثناء عليه عند تفوّقه في امتحانه. وعلى النقيض من ذلك إذا أخفَق الولد في امتحانه وباء بالفشل عاتبه أبوه وأنّبه تأنيبًا شديدًا، حتى يكون ذلك التأنيب حاجبًا لأمور شرعية واجبة قصّر الولد في أدائها. ومن هنا تظهر فداحة ذلك الخطأ حيث يبالغ في العتاب والتأنيب في موضع لا يستحق هذا كله، وألغي التأنيب في موضع يستحقه وزيادة، والوسط ـ عباد الله ـ في كلّ الأمور نعمة ربانية موفَّق من منَّ الله بها عليه.
عباد الله، هناك أمر يمارس مع الأبناء في مثل هذه المواسم من كل عام، والدافع له هو الحرص عليهم بلا شك، ولكنه يعود في الغالب بالضرر عليهم، ألا وهو تهويل وتضخيم الامتحانات وزرع الرهبة في صدور الأبناء بسبب قدوم موسمها، حيث أصبحت عند كثير من الطلاب والطالبات شبحًا وكابوسًا يراد له أن ينتهي بأية صورة وكيفما كانت النتيجة، فنجد البعض من الآباء ديدنه صباح مساء التشديد على الأبناء بأمر المذاكرة والمبادرة إلى ذلك، وربما صاحب ذلك شدة في القول وأحيانًا شدة في العمل، مما يولد ردة فعل سلبية لدى الولد، بل تجعل البعض يكره الدراسة لأجل ذلك، وقد يصحب ذلك عقدة مستديمة نتيجة ذلك الأسلوب التربوي الخاطئ، وكان الأولى بالوالدين الحكمة في التعامل، فلا إفراط في الشدة ولا تفريط في الإهمال، بل تقدر الأمور بقدرها، وليحرص الوالدان على ما يلي:
1- أن يرسّخا في أذهان الأبناء أن هذه الامتحانات أمرها هين، وأنها مرحلة عادية كغيرها من المراحل، وبقدر جهد الطالب يجني ويحصد ذلك الجهد بكل سهولة.
2- على الوالدين أيضًا أن يبينا لأولادهما أن هذه الامتحانات ليست المحطة النهائية ولا الرئيسية في حياة المسلم، وكم من ناجح في الحياة لم يكتب له التفوّق في الدراسة واجتياز المرحلة الابتدائية، إنما الخسارة الحقيقية هي في ترك مرضاة الله والتعرض لسخطه وخسران الآخرة والجنة كما قال سبحانه: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر: 15].
3- على الوالدين أن يجعلا جانب التوفيق الإلهي والدّعاء نصب عيني أولادهما، وأن يرسّخا ذلك في نفوسهم، ففي ذلك خير عظيم في الآخرة والأولى.
عباد الله، إن أيام الاختبارات والامتحانات كثيرًا ما يخرج الطالب فيها من المدرسة مبكرًا، وهنا مكمن الخطر، حيث يستغل هذا الوقت الضائع الذي يمتدّ إلى أكثر من ثلاث ساعات أحيانًا في إفساد ما بناه الوالدان في المنزل في الأيام الماضية. ألا فاتقوا الله أيها الآباء، واحفظوا أبناءكم من الضياع ومما لا يليق بكم ولا بهم.
الوقفة الثانية عباد الله:
كثيرًا ما يطلب من إنسان أن ينجز بعض الأعمال ويقوم ببعض المهمات فيعتذر بأن هذا فوق الطاقة، وربما يدخل تحت المستحيل الذي لا يمكن تحقيقه، فحين ترجو من شخص أن يقرأ كتابًا أو يسهر قليلاً في عمل خير أو يبذل جهدًا في صلاة أو عبادة أو عمل صالح يخدم الدين والدنيا يحتج بأن وقته وإمكاناته تقعد به عن ذلك، وتجيء الامتحانات وإذا بذلك الشخص نفسه يقرأ في اليوم الواحد مئات الصفحات، ويسهر إلى الفجر، ويحفظ عشرات المعلومات، وينجز أشقّ المهمات. فهل تغير الإنسان في يوم وليلة؟! أماذا حصل؟! كل ما في الأمر ـ عباد الله ـ أن المرء في أيام الاختبارات يستثير همته الكامنة، ويبرز مواهبه المدفونة، ويخرج طاقته التي غطّاها ركام الكسل والفتور والتواني.
عباد الله، إن عند كل واحد منا من الطاقات والملكات والقدرات ما لا يمكن الاستهانة به، وما نستطيع به لو استثمرناه أن نحقق أقصى درجات النجاح. تصور ـ أخي الطالب ـ لو أنك بذلت في حياتك مثل الجهد الذي تبذله في الاختبارات أو نصفه إلى أين كنت ستصل؟! وماذا ستحقق من الطموحات؟!
عباد الله، إن ما يعانيه الطالب من المشقة والنصب لتحصيل قدر محدود من العلم ولمدة محدودة لا تتجاوز الاختبار، إن هذا يشعرنا ويذكرنا أن طلب العلم ليس أحلامًا ولا أماني، إنما هو بذل واجتهاد، والراغب فيه لا بد أن يتنازل عن كثير من مرغوباته ومحبوباته، ولئن كان هذا هو شأن العلم ـ عباد الله ـ فإنه أيضًا شأن كل شيء سام في الحياة، فلا تحقق الأهداف والآمال إلا بالبذل والجهد والنصب، ومن يظن أنه يحقق ما يريد بدون أن يقدم ثمنًا فهو واهم. رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً يلعب بالحصى ويقول: اللهم زوّجني من الحور العين، فقال له: يا هذا، لقد أعظمت الخطبة وأسأت المهر.
فيا أيها الراغبون في الجنة، ويا أيها الراغبون في العلم، ويا أيها الراغبون في النجاح والتفوق، لن تبلغوا آمالكم إلا بالجهد والنصب، فهل أنتم باذلون؟!
دببت للمجد والسـاعون قد بلغوا جهـد النفوس وألقـوا دونه الأزرا
وكـابدوا المجد حتى مـلّ أكثرهم وعـانق المَجـد من أوفى ومن صَبَرا
لا تحسبن المجـد تَمرًا أنـت آكله لن تبلغ المَجـد حتَّى تعلـق الصّبِرا
أخي الطالب الموفق، هذه بعض النصائح على وجه الاختصار؛ علّها أن تجد حيزًا في قلبك وعقلك:
أولاً: احرص على بر والديك وطلب الدعاء منهم قبل الامتحان وأثناء الذهاب إليه وبعده.
ثانيًا: إياك والقلقَ وعدم الثقة بالنفس، ولا تجعل لوساوس الشيطان عليك سبيلا، وليكن التفاؤل حاديك في كل أعمالك.
ثالثًا: احذر من مصاحبة البطالين والكسالى، واربأ بنفسك عن مجالسهم، وخاصة أهل المعاصي والموبقات، واعلم أن من أقلّ أضرار المعاصي عدم التوفيق في شؤون الحياة.
رابعًا: أخي الطالب، احذر من الغشّ، واعلم أنه حيلة العاجزين وطريق الفاشلين وصفة ذميمة لا تليق بالمؤمنين، كيف والنبي قال: ((من غش فليس منا))؟! فكيف ترجو السداد والنجاح ونبيك يتبرأ من عمل ترتكبه؟!
خامسًا: إذا دخلت صالة الامتحان فأكثر من ذكر التبرؤ من حولك وقوتك، ولا تغتر بحافظتك أو جهدك، وتوكل على الله، والجأ إليه، فإن الله يحب من عبده كثرة الدعاء والإلحاح عليه في ذلك، وقد وعدك ربك الإجابة إن أنت أقبلت إليه بصدق، قال سبحانه: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.
سادسًا: تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وليكن إقبالك إلى الله وحرصك على طاعته في هذه الأيام دافعًا لك للاستمرار والثبات عليها إلى يوم تلقاه.
يروى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (إن العبد إذا كان يدعو الله في الرخاء ثم نزلت به شدة فدعا الله قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت معروف، فيشفعون فيه، فإذا كان لا يدعو من قبل ودعا زمن الشدة قالت الملائكة: يا رب، هذا صوت غير مألوف، لا يشفعون فيه).
فاحذر ـ أخي ـ أن تكون ممن يدعو الله في شدته وينساه عند رخائه، وكن كما قال تعالى: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا الآية.
إخواني الطلاب، إن تكونوا صغارَ قومِ اليوم فغدًا أنتم كباره، وبقدر تحصيلكم وتفوقكم الدراسي توكّل إليكم المسؤوليات وتناط بكم الأمور والإدارات، وعندئذ تنصرون دينكم وتخدمون بلدكم وتحققون طموحاتكم.
إن الأمة الخاملة صِفر من الأصفار، لكن إن بعث الله لها واحدًا مؤمنًا صادق الإيمان داعيًا إلى الله صار صفر الأصفار مع الواحد مائة مليون، والتاريخ مليء بالشواهد، فحري بكم الاجتهاد في التحصيل والمذاكرة وإخلاص النية لله سبحانه حتى تنالوا أعلى الدرجات وتحوزوا على أسمى الجوائز والتكريمات، وليعلم العالم أنكم ـ يا أحفاد الصحابة ـ أهلٌ للتفوق والابتكارات والاختراعات، وليعلموا أيضًا أن ديننا الذي اتُّهِمنا من أجله هو مصدر تفوّقنا وتميّزنا، فلا تعارض بين الاستقامة والتفوّق، ولا تناقض بين الحجاب والاختراعات العلمية، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: 69].
ياشبابَ اليومِ يا رَكبَ العُلا حقِّقوا للدّين آمـالَ الطّلابِ
بِكُمُ أمّتكـم قد علَّقـت كلَّ آمال لهـا بعد ارتِقـاب
أنتم آمالُهـا لا تصبِحـوا أنتم آلامَهـا مِن كلّ بـابِ
جدَّ إبليس الهوَى في غيِّـه يملأ الأفـقَ بشـرٍّ وتَبـابِ
ملأَ الشرُّ الدُّنا من حولِكم فاملؤوا الكونَ بخيرٍ مُستطابِ
إن سَعَـى قوم إلَى لذّاتِهم فانفِروا للَّهِ كالأُسدِ الغِضابِ
كم شَبـابٍ في فَراغ فُتنوا ضيَّعوه بيْن لَهـوٍ وتَصَـاب
وسعى في مَركَباتٍ بعضُهم يَقطَع الآفاقَ فِي لمحِ الشِّهابِ
فِي فضائِيّات لَهو مـاجنٍ أدمَنَ البَعضُ كآفاتِ الشَّراب
بَيْن أسفارٍ وَحِلٍّ مَن مَضَى يقنُص اللَّذاتِ نهشًا كالذّئابِ
أَوَيدري غـافلٌ في لهـوِه أيَّ وقتٍ ينتَهي عُمرُ الشبابِ
بَيْن فتحِ العين أو إغماضها يَنفَد العمر كإدبـارِ السراب
يا شبابَ الخير يا كلَّ المنَى لِغدٍ يُرجِع أمجـادَ الطِّـلاب
أَقبِلوا لله في صِـدق تَرَوا كلَّ سَعدٍ في حَياة و حِسابِ
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي غفور رحيم.
|