أمّا بعد: اتقوا الله، وكلوا من الطيبات لعلكم تفلحون، واحذروا أكل السحت والرشا، فبه أُهلكت القرون.
أيها الكرماء، سأحدثكم عن أمر سار وطار سعاره، واشتد أوار ناره، تعس مقترفوه، ولعن فاعلوه، شياطين بؤساء، لم يؤمنوا بيوم الدين، ولم يصدقوا المرسلين، يصلي وهو ملعون، يقرأ القرآن وهو ملعون، يضحك وهو ملعون، لعنه جاء في الشريعة، الخسّة والدناءة صَريعُه، والفقر ضجيعه.
أيها الفضلاء الأجلاء، بل سأحدثكم عن شجرة أصلها في الخبث ثابت، وفرعها في الإجرام قائم، طلعها كأنه رؤوس الشياطين، شجرة زقوم، يستظل بظلها ويأكل من طلعها أفاكون خونة من بني جلدتنا، نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر: 19].
استحوذ عليهم إبليس والهوى والرجس والإثم بما كانوا يصنعون، يدعون ولا يستجاب لهم، أغلق دونهم باب السماء، ولعنتهم ملائكة الرب، ولهم عذاب الهون. ناقتهم التي يحلبون ضرعها جرباء سائبة ترعى حشائش المكر والبذاءة، طعامها كل نجس وخسيس، وشرابها جحيم الفجور، وحليبها أسود منتن، لا يذوقه سوى قتلة الأحلام وسراق الحقوق وبائعو الذمم.
أيها الأخيار، هل حدثتكم عن أي بحر يركبون؟! إنهم يركبون سفينة المقت والرذيلة، لتجري بهم على بحر النار، تدفعها رياح السحت، وتحركها مجاديف الأمن من مكر الله، لبئس ما كانوا يفعلون. أشبه الناس باليهود، وأقرب الناس حالاً إلى النصارى؛ حينما يتركون تعاليم شرعهم ويتصفون بصفات أولئك الكفار.
أتدرون من هؤلاء ولا كرامة لهم؟! إنهم أكلةُ الرشوة ودافعوها ـ بلا ضرورة شرعية يقدرها أهل العلم الذين يحددون قدر الضرر ـ وكاتبوها وشاهدوها.
أما الذين يأكلونها وهم يعلمون حرمتها فليس لنا حديث معهم؛ لأنهم اتخذوا آيات الله هزوا، ولن يجدي حديثنا معهم بجنب ما في كتاب الله من الزواجر عن هذا الإثم النجس، وما لجرح ميت إيلام.
سوى أن حديثنا منصب إلى الذين يفعلون، فنقرع أسماعهم لعلهم يعون، كما أن حديثنا شديد على من يدفع الرشوة للوصول إلى أهدافه ومصالحه على حساب المجتمع، فإنه ملعون على لسان محمد . وأما الوسطاء كمن يهيئ الأجساد لنشر هذا السرطان الخبيث في مجتمع الإسلام فهم ملعونون أيضا، كمن يشهد أو يكتب بين الدفع والأخذ.
إخوة الإسلام، قال الباري سبحانه: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 42]. قال ابن مسعود: (السحت الرشوة)، وقال عمر بن الخطاب: (رشوة الحاكم من السحت). وقال بعض أهل العلم: من السحت أن يأكل الرجل بجاهه؛ وذلك أن يكون له جاه عند السلطان فيسأله إنسان حاجة فلا يقضيها إلا برشوة يأخذها، ولا خلاف بين السلف على أن أخذ الرشوة على إبطال حق أو ما لا يجوز سُحت حرام.
وقال تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188]. قال الذهبي رحمه الله تعالى: "لا تُدلوا بأموالكم إلى الحكام أي: لا تصانعوهم بها ولا ترشوهم؛ ليقتطعوا لكم حقا لغيركم وأنتم تعلمون أن ذلك لا يحل لكم".
والأدلة على حرمة المسلم وماله كثيرة، منها قول الله تعالى: وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة: 188]، وقال تعالى: مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة: 32]، وقال جلَّ شأنه: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل: 35، 36]. قال ابن كثير: "قوله تعالى: أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ أي: الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود خير مما أنتم فيه، وأنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف، وأما أنا فلا أقبل منكم إلا الإسلام أو السيف".
وقد جاءت السنة ـ يا عباد الله ـ في وصف هؤلاء الأنجاس بأنهم ملعونون، يعني مطرودون ومبعدون عن رحمة الله، فوا أسفاه على من باع أخراه بفاني دنياه. فعن عبد الله بن عمرو قال: لعن رسول الله الراشي والمرتشي. أخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجه وصححه الألباني. وفي رواية: ولعن الرائش، وهو الساعي بينهما. وعن أبي حميد الساعدي قال: استعمل النبي رجلا من الأزد يقال له: ابن الأتبية على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي، فخطب النبي فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((أما بعد: فإني استعمل رجالا منكم على أمور مما ولاني الله، فيأتي أحدكم فيقول: هذا لكم وهذا هدية أهديت لي، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده، لا يأخذ أحد منه شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيرا له رغاء، أو بقرا له خوار، أو شاة تيعر))، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: ((اللهم هل بلغت، اللهم هل بلغت)) متفق عليه.
قال الخطابي: "وفي قوله: ((هلا جلس في بيت أمه أو أبيه فينظر أيهدى إليه أم لا؟!)) دليل على أن كل أمر يتذرع به إلى محظور فهو محظور، وكل دخل في العقود ينظر هل يكون حكمه عند الانفراد كحكمه عند الاقتران أم لا؟".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)) رواه مسلم. وعن السائب بن يزيد عن أبيه قال: قال رسول الله : ((لا يأخذنّ أحدكم متاع أخيه جادًا ولا لاعبًا، وإذا أخذ عصا أخيه فليردها عليه)) رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي قال: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه)) رواه الدارقطني وغيره.
وقد بعث رسول الله عبد الله بن رواحة إلى اليهود ليقدّر ما يجب عليهم في نخيلهم من خراج، فعرضوا عليه شيئا من المال يبذلونه له، فقال لهم: فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سحت، وإنا لا نأكلها. وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (الرشوة في الحكم كفر، وهي بين الناس سحت) رواه الطبراني موقوفا بإسناد صحيح وقال الألباني: "صحيح لغيره موقوف".
وقال ابن قدامة رحمه الله في المغني: إذا قبل القاضي الرشوة بلغت به الكفر؛ لأنه مستعد للحكم بغير ما أنزل الله، وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة: 44]، وهذا معنى قوله: كفر.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي قال: ((كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به))، قيل: وما السحت؟ قال: ((الرشوة في الحكم)). وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: ((ما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب)).
أيها المسلمون، لقد أجمع الصحابة والتابعون وعلماء الأمة على تحريم الرشوة بجميع صورها، كما أن الأعذار لمن يحتج بفتوى بعض أهل العلم من المحققين ويجعلها متكأً لأكله الرشوة وأن هذه الفتوى صحيحة وقد بنيت على أسس علمية، لكنها مختصة في حالة واحدة أوضحها في كلمات قليلة حتى لا تُنسى: "يجوز دفع الرشوة من الدافع وذلك في حالة الضرورة الشرعية التي يقدرها أهل العلم عند الرجوع إليهم، ولا تجوز مطلقا للأخذ". هكذا قال أهل العلم.
وممن قال بجوازها عند الضرورة ابن الأثير رحمه الله حيث يقول في كتابه النهاية (2/226): "فأمّا ما يُعطى توصلاً إلى أخذ حق أو دفع ظلم فغير داخل فيه... وروى عن جماعة من أئمة التابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم". وقال الخطابي رحمه الله في المعالم (5/207): "إذا أَعطى ليتوصل به إلى حقه أو يدفع عن نفسه ظلمًا فإنه غير داخل في هذا الوعيد". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (31/187): "ويجوز للمهدي أن يبذل في ذلك ما يتوصل به إلى أخذ حقه أو دفع الظلم عنه، هذا هو المنقول عن السلف والأئمة الكبار. وهذا من دقائق فقه السلف وعظيم علمهم، فهذا الباب فيه حاجة من جهة، وصعوبة الاجتناب من جهة أخرى، فاستدعى النظر تجويز ذلك مراعاة لمصالح العباد ودفع الضرر عنهم، والصبر في مثل هذه المسائل فيه خير كثير وفضل عظيم".
والظاهر من الأدلة الصريحة أن الرشوة حرام بجميع ضروبها وأشكالها وألوانها إذا كان يتوصل بها إلى إبطال حق أو إقرار ظلم؛ لما يترتب على ذلك من المفاسد والأضرار، وهذا حرام شرعًا.
والإسلام راعى أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والتسامح بجواز الرشوة يعوّد الناس على أكل الحرام وعدم الشعور بالمسؤولية، لما يترتب على ذلك من تعطيل مصالح المسلمين وتأخير أعمالهم وعدم إنجازها إلا بالرشوة، فتنعدم الثقة بين الناس، وتقل أواصر المودة والمحبة بينهم، وهذا مما حذر منه القرآن الكريم ونهى عنه النبي الأمين صلوات الله وسلامه عليه.
وفي هذه الحالة حالةِ الضرورة لا بد من ملاحظة أمور:
أولاً: أن لا يدفعها إلا إذا كانت في حالة ضرورة متحققة يقدرها أهل العلم.
ثانيًا: أن لا تدفع إلا بعد استقصاء كافة السبل واستنفادها، ولا ينبغي عندها إلا أن يدفعها.
ثالثًا: يجب عليه أن يبين لآخذ الرشوة حرمتها ويعظه ويزجره عن فعلته، ولا يجوز السكوت أبدا.
رابعًا: يسعى سعيا حثيثا إلى تبليغ ولي الأمر عنه، ويكون قصده هو كفّ شره عن الناس لا أن يكون انتقاما لما أخذه منه من شيء.
أيها الرجال النزهاء، أضحت ظاهرة الرشوة مستشرية في العديد من المجالات، لتصبح سرطانا ينخر دواليب الاقتصاد والإدارة ومختلف الهيئات والمؤسسات، ولو أردنا أن نوضح بشكل دقيق معنى الرشوة فإننا نقول: الرشوة هي ما يُعطى لإبطال حق أو إحقاق باطل، سواء كان مالاً أو تسهيلات أو أي مصلحة تستفاد أو تدفع شيئًا عن المرتشي، والراشي من يُعطي المال لإبطال حق أو إحقاق باطل، والمرتشي الآخذ، وقد شمله اللعن؛ لأنه شريك للراشي ومعين على الظلم والفساد.
ولعل من المهم ذكر الطرف الثالث في جريمة الرشوة وهو الرائش، وهو الوسيط والساعي بين الراشي والمرتشي.
والرشوة ـ أيها الفضلاء ـ من الأمراض الموروثة عن المفسدين في الأرض، وقد لعن النبي الراشي والمرتشي. صححه الترمذي (1337) من حديث عبد الله بن عمرو، وصححه ابن حبان والحاكم وغيرهما.
وقد تأخذ الرشوة أشكالاً ووجوهًا عدة، كلها على صورة إبليس، يجمعها أكل أموال الناس بالباطل، فتارة تكون بالمال، وتارة تكون بالوجاهة، وتارة تكون بتقديم أي نفع كان أو وعد بدفع ضر، فإذا كان لا يستطيع أن يصل إلى حقه ويمنع منه حتى يدفع أو يقدم شيئًا فحينئذ تحقق جرم الرشوة إذا تمت، ولا تتم إلا في الظلام الدامس وفي الخفاء، وقد تكون علنا كما في بعض البلدان التي انتشرت فيها في جميع مناحي الحياة.
عباد الله، ولعله من الأجدى أن نذكر الفرق بين الرشوة والهدية، وذلك لما يتطلبه المقام من توضيح الأمر وتجليته، فهما وإن اشتبها في الصورة فالفرق راجعٌ أساسا إلى القصد، إذ إن القصد في الرشوة هو التوصل إلى إبطال حق أو تحقيق باطل، أما المُهدي فقصده استجلاب المودة والمعرفة والإحسان.
وتدخل الرشوة في مجالات شتى؛ فقد تكون الرشوة في الحكم كي يقضي له القاضي أو يحكم له، أو ينهي له عملاً أو يقدمه على غيره، أو يخالف أمرًا لا يمكن تجاوزه من أجل الرشوة. وقد تكون الرشوة في الوظائف أيضًا، حيث يقوم الشخص بدفع الرشوة للمسؤول عن الوظيفة فيعينه رغم استحقاق غيره، وهذا بالإضافة إلى أنه أكلٌ للحرام والسحت فإنه كذلك خيانة للأمانة؛ حيث ينبغي أن يوظف الأصلح والأكفأ، وكذلك تكون الرشوة في التعليم، وفي مجالات البناء والتشييد، أو لدى شركات الكهرباء أو الاتصالات أو البلديات وغيرها من المجالات التي يطول المقام بذكرها، واللبيب بالإشارة يفهم.
أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم...
|