أيّها المسلمون، مِنَ المبادئِ التي قرَّرَها الإسلامُ أنَّ الرّاعيَ والرعيَّةَ يَدانِ يتعاوَنان على جلب الخيرِ للأمة وعلى رعاية مصالحها، ولا يستقيم أمرُ الأمّة ولا تتّسقُ شؤونها إلاّ إذا قام كلٌّ بمسؤوليّاته عدلاً وإنصافًا، نزاهة وإنجازًا، أداءً للواجب ووفاءً بالأمانة.
أيّها الإخوة، ومِن هنا جاء الإسلام بكلِّ المقوِّمات الأساسيّة التي تحفظ مقاصِدَ المسؤولية وتدرَأ أسباب الانحراف عنها، ولتصونَ المسؤولَ عمّا يخلّ بواجب عمله ويهزّ ميزان العدلِ عنده.
ومِن هذه المقوِّمات النهيُ الأكيد والزجرُ الشديد عن جريمة الرشوة أخذًا وإعطاءً وتوسُّطًا، فالرشوة ـ يا عباد الله ـ مَغضَبَة للرّبّ مجلَبَة للعذاب، في الحديث الصحيح أنَّ النبيّ لعن الراشي والمرتشي، وفي حديث أبي هريرةَ قال: لعن رسولُ الله الراشي والمرتشي في الحكم. حسَّنه الترمذيّ وصحَّحه ابن حبان. وروى الطبرانيّ بسندٍ جيِّد عن النبيِّ أنّه قال: ((الراشي والمرتشي في النّار)).
وتأسِيسًا على هذهِ النّصوص وغيرِها عدَّ أهلُ العلم كابنِ حَجَر الهيتَميّ وكالذّهبيّ، عدَّا الرِّشوةَ كبِيرةً من كبائِرِ الذّنوب.
أيُّها المسلِمون، الرشوةُ أكلٌ للأموال بالباطل وتناوُل للسُّحت، والله جلّ وعلا يقول: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188]، ويقول في شأنِ اليَهودِ: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة: 42].
أمّةَ محمَّدٍ ، الرِّشوةُ في دينِكم داءٌ وَبيل ومرض خطير ،فما يقَع فيها امرُؤٌ إلاّ ومحِقَت منه البركة في صحَّته ووقتِه ورِزقه وعياله وعمرِه، وما تدنّس بها أحدٌ إلاّ وحجِبَت دعوته وذهبت مروءَته وفسدَت أخلاقه ونزِعَ حياؤه وساءَ منبتُه، فالنّبيّ الذي لا ينطِق عن الهوى يقول: ((كلُّ لحمٍ نبَت من سحتٍ فالنّار أولى به))، قيل: ما السحت يا رسول الله؟ قال: ((الرِّشوةُ في الحكم)) رواه ابن جرير وغيره.
الرشوةُ ـ أيها الفضلاء ـ خطرُها عظيم وفسادُها كبير، تسبِّب الهلاكَ والخسران للمجتمعات، تفسِد أحوالها، وتنشر الظلمَ فيها، بل وما تفشَّت في مجتمعٍ إلاّ وغابت منه الفضيلةُ، وحلَّت فيه الرذيلة والكراهيةُ والأحقاد، وما وَقعَت الرّشاوى في أمّة إلاّ وحلَّ بها الغشُّ محلَّ النصيحة، والخيانة محلَّ الأمانة، والظلم محلَّ العدل، والخوف محلَّ الأمن. في المسند مرفوعًا وله شواهد: ((ما مِن قوم يظهر فيهم الرِّشا إلا أُخذوا بالرعب)).
أيُّها المسلمون، وحقيقةُ الرِّشوة وصورَتها كلُّ ما يَدفَعُه المرءُ لمن تولَّى عمَلاً من أعمال المسلمين ليتوصَّل به إلى ما لا يحلُّ له. ومِن أعظم أنواعِها ما يُعطى لإبطالِ حقٍّ أو إحقاقِ بَاطِلٍ أو لظلمِ أحدٍ.
ومن الرِّشوة ـ أيها المسلمون ـ دَفعُ المال في مقابِلِ قَضاء مصلحةٍ يجب على المسؤولِ عنها قضاؤها بدون هذا المالِ، أو ما يُؤخَذ عمّا وجب على الشَّخص فِعلُه، فكلُّ موظَّف يأخُذ مالاً من أحدٍ من المسلمين على عملٍ من الأعمال التي في دائِرَةِ وظيفَتِه فهي رِشوةٌ مَلعونٌ صاحبُها على لسانِ رَسول الله .
ومِن صوَرِ الرشوة ـ يا عباد الله ـ مَن رشَى ليُعطَى ما ليس لَه أو ليدفَعَ حقًّا قد لَزِمَه، أو رَشى ليُفَضَّل على غيرِه من المسلمين أو يُقدَّم على سواه من المستحقِّين.
أيّها المسلمون، الرشوة في دين محمّدٍ محرَّمة بأيِّ صورة كانت، وبأيِّ اسمٍ سُمِّيت، سواء سمِّيت هديّة أو مكافأة أو كرامة، فالأسماء في شريعةِ الإسلام لا تغيِّرُ في الحقائق شيئًا، والعبرةُ للحقائق والمعاني لا للصُّوَر والمباني.
ومِن مقرَّراتِ دينِ الإسلام أنَّ هدايا العُمّال غلول، والمرادُ بالعمّال كلّ من تولَّى عملاً للمسلمين، وهذا يشمَل السّلطانَ ونوّابَه وموظّفيه، أيًّا كانت مراتِبُهم ودَرَجَاتهم. رَوَى البخاريّ ومسلمٌ عن أبي حُمَيد السّاعديّ قال: استعمَل النبيُّ رجلاً من الأزدِ، فلمّا قَدم قال: هذا لكم وهذا أُهدِيَ لي، فلمّا عَلِم النبيُّ قامَ خطيبًا على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ((ما بالُ عاملٍ أبعثُه فيقول: هذا لكم وهذا أُهدِيَ لي؟! أفلا قعَد في بيتِ أبيه أو أمِّه حتى يَنظُر أيُهدَى إليه أم لا؟! والّذي نفسي بيدِه، لا ينالُ أحدٌ مِنكم منها شيئًا إلاّ جاء يومَ القيامة يحمِله على عُنُقه)) الحديث. قاعِدَةٌ لا تقبَل التأويل، يجِب تطبيقُها، وهو قولُه لكلِّ مُوظَّفٍ في أمّة الإسلام: ((أفلا قعَدَ في بيتِ أبيه أو في بيتِ أمّه حتى ينظرَ أيُهدَى إليه أم لا؟!)).
وهذا الفهمُ هو الذي فَهِمَه محقِّقو أهلِ العلم، قال الخطّابي رحمه الله: "في هذا الحديثِ بَيانٌ أنَّ هدايا العُمّال سُحتٌ، وأنّه ليس سَبيلُها سبيلَ سائر الهدايا المباحَة، إنما يُهدَى إليه للمحاباة، وليخفِّفَ عن المُهدِي ويسوِّغَ له بعضَ الواجِبِ عليه استيفاؤُه لأهله".
ومن معلَّقاتِ البخاريِّ الموصولةِ عند غيره ما جاء أنَّ عمر بنَ عبد العزيز رحمه الله الذي سارَ على نهج محمّدٍ اشتهَى التّفّاحَ، فلم يجده في بيته ولا ما يَشتَرِي به، فخرج وهو الخليفةُ، فتلقَّاه غلمَانٌ بأطباقِ التفّاح، فتناول واحدةً فشمَّها، ثم ردَّ الأطباق، فقيل له في ذلك، فقال: لا حاجةَ لي فيها، فقيلَ له: أَلم يكن رسول الله وأبو بكرٍ وعمَر يقبَلونَ الهدِيَّة؟! فقال: إنها لأولئك هدّيّة، وإنها للعمّال بعده رشوة.
فاتقوا الله أيّها المسلمون، واستجيبوا لنداء ربِّكم، وأطيعوا أمره، واجتنبوا نهيَه، واحذروا أسبابَ غضبِه؛ تسعدوا في الدنيا والآخرة.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|