.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الثانية/‏1446هـ

 
 

 

المخاطر الأربعة

5419

الأسرة والمجتمع, الرقاق والأخلاق والآداب

الكبائر والمعاصي, قضايا المجتمع

عبد الرحمن بن علي العسكر

الرياض

عبد الله بن عمر

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- كمال شريعة الإسلام وشمولية أحكامها. 2- في تطبيق أوامر الله واجتناب نواهيه من المنافع والفوائد ما يبهر العقول. 3- خطورة شرب الدخان وتعدي ضرره إلى غير متعاطيه. 4- الأمر بإعفاء اللحية وحف الشارب. 5- التحذير من إسبال الثياب. 6- التحذير من الغناء وبيان مفاسده. 7- الدعوة إلى إنكار المنكرات وعدم السكوت عنها.

الخطبة الأولى

أمَّا بَعدُ: فَإِنَّ أَصدَقَ الحدِيثِ كَلامُ اللهِ تَعَالَى، وخيرَ الهديِ هَديُ محمَّدٍ ، وَشَرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وَكُلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وَكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ، وكُلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.

أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى الَّذِي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، اتَّقُوهُ واعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ كَمَا أَمَرَكُمْ تَفُوزُوا بِخَيرَي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

عِبادَ اللهِ، إِنَّ مِنَ المُسَلَّمَاتِ عِندَ المسلِمينَ جَميِعًا أَنَّ هَذَا الدِّينَ دِينٌ كَامِلٌ، كَامِلٌ بِأَفْعَالِهِ وَأَوَامِرِهِ، كَامِلٌ بِصَفَاتِهِ وَمُمَيِّزَاتِهِ، لاَ نَقْصَ فِيهِ بَأَيِّ وَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وَمَنِ ادَّعَى خِلاَفَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ أَمرًا عَظِيمًا واجَتَرَأَ عَلَى كَلاَمٍ قَدْ يُؤَدِّي بِهِ إِلى الزَّيغِ، يَقُولَ اللهُ سُبْحَانه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3]. وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لاَ يَعْرِفُ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالنِّعْمَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا رَسُولُ اللهِ إِلاَّ صورَ تَكَالِيفَ وَمَشَاقٍ وَأَوَامِرَ مُخَالِفَةٍ لِلهَوَى وَنَوَاهٍ مُعَارِضَةٍ لَهُ، أَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النّعِيمِ نَعِيمِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَمَا نَفَذَت إِليهِ بَصِيرَتهُ؛ لِجَهْلِهِ وَلكَثَافَةِ حِجَابِ الذُّنُوبِ عَلَى قَلْبِهِ.

إِنَّ مِثْلَ هَذَا ـ عِبادَ اللهِ ـ يَسْتَثْقِلُ الطَّاعَةَ وَيَسْتَمْرِئُ المَعْصِيَةَ، وَلاَ تَسْأَلْ عَنْ قَسْوةِ قَلْبِهِ وَضِيقِ صَدْرِِهِ وَطُولِ هَمِّهِ وَحُزْنِهِ؛ لأَنَّهُ لَمْ يَرْفَعْ رَأسًا بِمَا خُلِقَ مِنْ أَجْلِهِ، فَهُو مُنْحَرِفُ المِزَاجِ، فِطرَتُهُ مُجْتَالَةٌ، وَاخْتِيَارُهُ لِنَفْسِهِ أَسْوَأُ اخْتِيَارٍ.

إِنَّ فِي أَوَامِر اللهِ وَنَوَاهِيهِ مِنَ الحِكَمِ مَا يَبْهَرُ وَلاَ يُحِيطُ بِهِ عِلْمُ عالِمٍ، كَذَلِكَ فِيهَا مِنَ الرَّحْمَةِ وَالإِحْسَانِ مَا لا يُحَاطُ بِهِ. إنَّ مَنْفَعَةَ قَلْبِ الإِنْسَانِ وَرُوحِهِ بامْتِثَالِهِ أَمْرَ رَبِّهِ أَعْظَمُ مِنَ انْتفَاعِ بَدَنِهِ بِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ الأَغْذِيَةِ الطَيِّبَةِ المُنَاسِبَةِ وَاحْتِمَائِهِ عَمَّا يَضُرُّهُ مِنَ الأَخْلاَطِ الرَّدِيِئَةِ، بَلْ أَجَلُّ وَأعْظَمُ مِنْ هَذَا، فَإِنَّ غَايةَ مَا يُصِيبُهُ بِسَبَبِ فَقْدِ الطَّعَامِ المُنَاسبِ أَوِ الإِكْثَارِ مِنْ أَكلٍ مُعَيَّنٍ هُوَ المَوتُ، وَالمَوتُ لاَ بُدَّ مِنهُ إِذ هُوَ غَايَةُ كُلِّ حَيٍّ، أَمَّا فَقْدُ رُوحِ العَبْدِ وَقَلْبِهِ لِغَذَائِهِ الَّذِي خُلِقَ لَهُ وَخَلْطُه بالذُّنُوبِ فَهَذَا لاَ عِلاَجَ لَه إِلاَّ تَوبَةٌ تَمحُو الذَّنْبَ وَتُصْلِحُ القَلْبَ، أَو هَلاَكٌ وَعَذَابٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ الإِنْسَانَ لَمْ يُخْلَقْ سُدى وَلَمْ يُتْرَكْ هَمَلاً، إِنَّهُ مُمتَحَنٌ مُبْتَلى فِي صُورَةِ حُرٍّ طَلِيقٍ، فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129]، لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود: 7]، وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [محمد: 31]، لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123]، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت: 46]، ويجمعُ هذهِ الآياتِ كلِّها قولُ اللهِ سبحانَهُ: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14]. يَقُولُ الحَسَنُ البَصْرِيُّ رحمَهُ اللهُ: "قَدْ أَنْصَفَكَ ـ واللهِ ـ مَنْ جَعَلَكَ حَسِيبَ نفْسِكَ".

إنَّ الأمرَ ـ أيُّها النَّاسُ ـ شديدٌ، لكننا عنهُ في غفْلَةٍ، وقدْ قَالَ اللهُ: لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ [الأنبياء: 3]. أَلاَ فَلْتَعْلَمُوا جَميعًا ـ أيُّها النَّاسُ ـ أَنَّ مُحَاسبَةَ النَّفْسِ اليومَ أَيْسَرُ مِنْ مُفَاجَأَتِهَا غَدًا بِالفَجِيعَةِ وَالأمُورِ المَهُولَةِ الفَظِيعَةِ.

لَما ضَعُفَتْ أَو عُدِمَتْ عِنْدَنَا المَعْرِفَةُ بِمَنفَعَةِ الطَّاعَةِ فِي العَاجِلِ وَالآجِلِ هَانَ عَلَينَا ارْتِكَابُ المَحظُورِ وَتَرْكُ المَأْمُورِ.

أَرْبَعَةُ أُمُورٍ هِيَ مَخَاطِرُ كَبيرَةٌ وَأُمُورٌ عَظِيمَةٌ تُرتَكَبُ مُجَاهَرَةً وَلاَ يُمْكِنُ إخْفَاؤُهَا مِنْ صَاحِبِهَا، كَثُرَتْ بَينَ أَفْرَادِ المُجْتَمَعِ، لاَ لِشَيءٍ إِلاَّ لِضَعْفِ الوَازِعِ الدِّينِيِّ عِندَ النَّاسِ، وَلَيسَ عَيبًا أَنْ يَتَكَلَّمَ الإِنْسَانُ عَنْ هَذِهِ الأُمورِ، وَلَكِنَّ العَيبَ ومَحَلَّ العَجَبِ أَنَّ النَاصِحِينَ سَكَتُوا عِنِ الحَدِيثِ عَنْهَا.

أَمَّا الخَطَرُ الأَوَّلُ ـ عِبادَ الله ـ فَهُوَ شُرْبُ الدُّخَانِ، وَإِنِّمَا بَدأْنَا بِهِ لأَنَّ ضَرَرَهُ يَعُمُّ صَاحِبَهُ وَغيرَهُ. نَعمْ، الدُّخَانُ قَدْ يُخْفِيهِ شَارِبُهُ، وَلَكِنَّ آثَارَه تُنْبئُ عَنْ أَسْرَارِه، إِنَّهُ مِنَ الخَبَائِثِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا مُجتَمعُ المُسْلِمِينَ اليَومَ. هَذَا الدُّخَانُ فَشَا شُرْبُهُ بَينَ الصِّغَارِ وَالكِبَارِ، وَصَارَ شُرَّابُه يُضَايِقُونَ بِهِ النَّاسَ وَيُؤْذُونَ بِهِ الأَبْرِيَاءَ مِنْ غَيرِ خَجَلٍ وَلاَ حَيَاءٍ، وَلَوْ أَنَّ إنْسَانًا تَنَفَّسَ فِي وَجْهِ هَذَا المُدَخِّنِ أَو بَصَقَ أَو امْتَخَطَ كَمْ يَكُونُ تَألُّمُهُ بِهَذَا الفِعْلِ، وَهُوَ يَفْعَلَ أَقْبَحَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِن إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ.

عِبادَ اللهِ، كَمْ تَعَالَتْ مِنْ أَصوَاتٍ فِي إِنْكَارِ شُرْبِ الدُّخَانِ، وَكَمْ صَدَرتْ مِن تَحْذِيرَاتٍ مِنْ أَهْلِ الطِّبِّ، وَكَمْ صَدَرَ مِنْ فَتَاوَى شَرْعِيَّةِ بِتَحْرِيمِهِ، وَكَمْ أُلِّفَ مِنْ كُتُبٍ وَرَسَائِلَ فِي بَيَانِ مَفَاسِدِهِ، وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ فَشَارِبُوهُ لاَ يُجيبُونَ دَاعِيًا، وَلاَ يُصْغُونَ لِنَاصِحٍ؛ لأَنَّهُ قَدْ أَسَرَهُمْ وَأَحْكَمَ أَسْرَهُمْ، فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ مِنهُ خَلاَصًا إِلاَّ بِالإِيمَانِ وَصِدْقِ العَزِيمَةِ وَشَهَامَةِ الرُّجُولَةِ، وَهَذِهِ صِفَاتٌ يَفْقِدُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.

وَاسْمَعُوا هذَا الحَدِيثَ الَّذِي رُوِيَ فِي الصَّحِيحَينِ حَتَّى تَعْلَمُوا آثَارَ الذُّنُوبِ وَمَاذَا تَفْعَلُ؛ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((منْ أكلَ ثومًا أو بَصلاً فلْيَعْتَزِلْنا))، وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: ((فإنَّ الملائِكَةَ تَتَأَذَّى ممَّا يتأَذَّى مِنهُ النَّاسُ)). فَانْظُرُوا إِذَا ابتعَدَتِ المَلاَئِكَةُ عَنِ الشَّخَصِ فَمَنْ يَحْضُرُ مَعَهُ إِلاَّ الشَّيَاطِين، فَتَأمُّلْوا آثَارَ الذُّنُوبِ وَمَا يَتَفرَّعُ عَنْهَا مِنَ الفَسادِ، إِنَّ البَصَلَ وَهُوَ حَلاَلٌ تَتَأذَى مِنْ رَائِحَتِهِ المَلاَئِكَةُ، فَكَيفَ بالدُّخَانِ؟!

عِبَادَ اللهِ، أمَّا الخَطَرُ الثَّانِي وَالمُنْكَرُ الآخَرُ فَهُوَ حَلقُ اللِّحيَةِ، حَلقُ اللِّحيَةِ ارْتِكَابُ مَعْصِيَةِ الإِلَهِ وَتَغْييرُ خَلقِهِ، إِنَّ الخَالِقَ حَكيمٌ عَلِيمٌ، زَيَّنَ الرَّجُلَ باللِّحْيَةِ، وَمَنْعَهَا المرأَةَ؛ لأَنَّ مِنْ صِفَاتِ الرَّجُلِ الخُشُونَةُ وَهِيَ مِنْ كَمَالِه، والمرْأَةُ لأَنَّهَا مَحلُّ مُتعَةٍ للرَّجُلِ خَلَقها اللهُ بِوَجهٍ لا شَعَرَ بهِ، فهيَ تتطلَّبُ الخشُونَةَ منَ الرجُلِ، كما يَتَطَلَّبُ هُوَ مِنْهَا النُّعُومَةَ.

مَا أكْثَرَ مَا يَقُولُ الخُطَبَاءُ وَالوعَّاظُ فِي كَلاَمِهم تِلكَ الجُمْلَةَ العَظِيمَةَ المُخْتَصَرةَ: إِنَّ خَيرَ الهديِ هَدي مُحمدٍ ، وَلقدْ صَدَقَ رَسُولُ اللهِ ، فَهَدْيهُ الكَامِلُ فِي كُلِّ شَيءٍ، وَمِنْ هَدْيِهِ إِعْفَاءُ لحيَتِهِ وَإحْفَاءُ شَارِبِهُ، يَقُولُ جَابرُ بنُ سَمُرَةَ: لَقدْ كَانَ النَّبِيُّ كَثيرَ شَعَرِ اللِّحيَةِ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ. بَلْ إنَّ الأَنْبِيَاءَ مِنْ قَبْلهِ كَانُوا أَصْحَابَ لِحى، بَلْ إنَّ حَلْقَهَا مِنْ صِفَاتِ اليَهْودِ، يَقُولَ : ((خَالِفُوا المُشْركِينَ؛ وَفِّرُوا الِّلحَى وَاحْفُوا الشَّوَارِبَ)) مُتَّفقٌ عَلَيه.

إِنَّ اللِّحيَةَ ـ أَيُّهَا الإخْوَةُ ـ عَلاَمة عَلَى الرُّجُولَةِ، واسْمَعُوا مَا جَاءَ فِي تَرجَمَةِ قَيسِ بِنِ سَعْدِ بِنِ عُبَادَةَ ، فَقَد كَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ، وَكَانَ مَوصُوفًا بِالكَرَمِ وَالسَّخَاءِ وَالجُودِ بحدٍّ لا يوصفُ، إلا أنَّ فيهِ أمرًا تمنَّى قومُه منَ الأنصارِ زَوَالَهُ عنهُ، وهو أنَّهُ كانَ لا ينبُتُ في لحيتِهِ شَعَرٌ، فَقَالُوا: وَدِدْنَا أَنَّنَا دَفَعْنَا أَمْوَالَنَا وَاشْتَرَينَا لِقَيسٍ لِحْيَةً. يَا لَيتَ قَومِي يَعْلَمُونَ مَا فِي اللّحْيَةِ مِنَ الرُّجُولَةِ وَصِفَاتِ الكَمَالِ.

أَمَّا الخَطَرُ الثَّالِثُ ـ عِبَاد اللهِ ـ فَهُوَ كَبِيرَةٌ مِنَ الكَبَائرِ وَذَنْبٌ عَظيمٌ، إنَّه إِسْبَال الثِّيابِ وَجَرّهَا، منكَرٌ عَظِيمٌ وَرَدتْ فِي الزَّجْرِ عَنهُ الأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ، لَكنَّ البَعْضَ مِنَ الناسِ يَسْمَعُهَا وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَى مَا هُو عَلَيهِ مِنْ إسْبَالِ ثَيَابِهِ عَلنًا دُونَ مُبَالاَةٍ أَو حَيَاءٍ.

كَيفَ يُسْبِلُ الرَّجُلُ ثَوبَهُ أَو قَمِيصهُ أَو إِزَارَهُ وَقَدْ قَالَ : ((ثَلاَثَةٌ لاَ يُكِلِّمُهُم اللهُ يَومَ القِيَامَةِ وَلاَ يَنظُرُ إليهم وَلاَ يُزَكِّيهمَ وَلَهمْ عذابٌ أليمٌ))، قَالهَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَقَالَ أبو ذَرٍّ: مَنْ هم يَا رَسُولَ اللهِ، خَابُوا وَخَسِرُوا، قَالَ: ((المُسبِلُ إِزَارَهُ، وَالمنَّانُ، وَالمُنْفِقُ سِلْعَتهُ بِالحَلِفِ الكَاذبِ)) رَوَاهُ مُسلمٌ، وَقَولُهُ : ((مَا أسْفَلَ مِنَ الكَعْبَينِ مِنَ الإزَارِ فَهو فِي النَّارِ)) رَوَاهُ البُخَاريُّ؟! كَيفَ يَجرؤُ النَّاسُ عَلَى إِسْبَالِ الثِّيَابِ وَقدْ قَالَ : ((يا جابرُ، إياكَ وإسْبَالَ الإزارِ؛ فإنها مِنَ المَخيلَةِ، وإِنَّ اللهَ لا يُحبُّ المَخِيلَةَ)) رواهُ أبُو داودَ والترمذيُّ وابنُ حِبَّانَ بسندٍ صحيحٍ، وَفِي الصَّحِيحَينِ أَنَّ رَسُولُ اللهِ قَالَ: ((بينما رجلٌ يمشي في حُلَّةٍ تُعْجِبهُ نفسُهُ مُرَجِّلٌ رأسَهُ يخْتَالُ فيِ مشْيتِهِ إذْ خَسَفَ اللهُ بهِ، فَهُو يتَجَلْجَلُ في الأرْضِ إلى يومِ القِيامَةِ))؟!

أَمَّا الخَطَرُ الرَّابعُ ـ عِبادَ اللهِ ـ فَهُوَ أَمرٌ تَضْحكُ مِنهُ العُقُولُ السَّلِيمَةُ وَالفِطَر المُسْتَقِيمَة، هُوَ الغِنَاءُ، وَهُوَ وَاللهِ الشَّقَاءُ وَالعَنَاءُ، إِنِّهُ الصَّادُّ عَنِ الهُدَى وَالفَاتِحُ لأَبوابِ الرَّدَى، مَبنَاهُ على مَتَاهاتِ الخيالِ، بل ويُفضِي بصاحبِهِ إلى الضلالِ والخبالِ، به تفتحُ أبوابُ الأَمَانِي، وَلاَ تَسألْ المشْغُوفَ فِيهِ عَمَّا يَجِدُ وَيُعَانِي، إِنَّهُ طَنْطَنَةٌ وَدَنْدَنَةٌ وَلَيسَ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيء مِنَ المَعَانِي، يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [لقمان: 6، 7]، يَقُولُ أَكثرُ المُفسِّرِينَ: إِنَّ لَهْوَ الحَدِيثِ هُوَ الغِنَاءُ، وَيَقُولُ عَبد اللهِ بن مَسْعُودٍ: (وَاللهِ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ، هُوَ الغِنَاءُ) رَوَاهُ ابنُ أبي شَيْبَةَ وابنُ جريرٍ بِسَندٍ صَحِيحٍ. وَرَوىَ البُخَاريُّ فِي صَحِيحِه مِنْ حديثِ أَبِي مالكٍ الأشعرِيِّ أنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: ((لَيَكُونَنَّ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعازِفَ)).

إِنَّ الغِنَاءَ ـ عِبادَ اللهِ ـ هُوَ رُقْيَةُ الزِّنَا كَمَا جَاءَ فِي الأَثَرِ، يَقُولُ ابنُ القَيِّمِ: "وَالَّذِي شَاهَدْنَاهُ نَحنُ وَغَيرُنَا وََعَرَفْنَاهُ بالتَّجَارُبِ أَنَّهُ مَا ظَهَرتِ المَعَازِفُ وَآلاتُ اللَّهوِ فِي قَومٍ وَفَشَتْ فِيهم وَاشْتَغَلُوا بِهَا إِلاَّ سَلَّطَ اللهُ عَلَيهمْ العَدوَّ وَبُلُوا بالقحْطِ وَالجَدْبِ وَوُلاَةِ السُّوءِ".

عِبادَ اللهِ، هذِهِ مَخَاطِرُ أَربَعةٌ قَدْ تَجْتَمِعُ فِي شَخْصٍ وَمَا أَكْثَرُهُم، وَقَدْ يَكْتَفِي البَعْضُ بِبَعْضِهَا، وَلَقَدْ ظَهَرَتِ اليَومَ ظُهُورًا يَبْعثُ عَلَى الخَوفِ مِنَ العُقُوبَةِ، فَاتَّقُوا اللهَ أيُّها النَّاسُ.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ العَظِيمِ، أَقُولُ هَذَا القَولَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ.

 

الخطبة الثانية

أمَّا بعدُ: فَإِنَّ المُنْكرَ إِذَا خَفِيَ لاَ يَضُرُّ إِلاَ مُرْتَكِبَهُ وَمَنْ اطَّلَعَ عَلَيهِ، أَمَّا المُجَاهَرةُ بِالمُنْكَرِ فَهِيَ دَليِلُ الوَقَاحَةِ وَعَدمِ المُبَالاَةِ، وَتَدْلُّ عَلَى أَنَّ عِندَ فَاعِلِهَا أُخَيَّاتٍ لَهَا.

عِبادَ اللهِ، إِنَّ هَذِهِ الأُمُورَ الأربَعةَ صَارَتِ اليَومَ مِنَ المُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ الَّتي يَجِبُ إَنْكَارُهَا، فَمَنْ أَنْكَر بَرِئتَ ذِمَّتُهُ، وَمَنْ سَكَتَ فَهْوَ شَرِيكٌ للعَاصِي فِي وِزْرِهِ. إِنَّهُ لاَ يَسَعُ المُسْلِمَ السُّكُوتُ، فَأَصْحَابُ هَذِهِ المَعَاصِي تَرَاهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فِي الشَّارِع وَالسُّوقِ، بَلْ حَتَّى فِي البَيتِ. وَإِنَّ هَذِه الأمورَ الأَرْبَعَةَ وَغَيرَهَا مِنَ المُنْكَراتِ لا تَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ كَمَا قِيلَ: أَلْسُنٌ تَصِفُ وَقُلُوبٌ تَعْرِفُ وَأَعْمَالٌ تُخَالِفُ.

لاَ تَجْتَرِئوا ـ عِبادَ اللهِ ـ عَلَى حُدُودِ اللهِ، فَإِنَّ اللهَ أَنْزَلَ عَذَابَه عَلَى أَهْلِ السَّبْتِ بِذَنْبٍ وَاحِدٍ، وَمَا نَجَا إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِالمَعْرَوفِ وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ، أَمَّا نَحنُ اليَومَ فَالمْنكَرَاتُ بَينَنَا لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى، فَإِلى اللهِ المُشْتَكَى.

أَيُّهَا النَّاسُ، عُودُوا إِلَى رَبِّكمَ وَارْجِعُوا إِليهِ، فَإِلى المَتَابِ قَبلَ التَحَوُّلِ وَالاْنقِلاَبِ، ارْجِعُوا إِلى رَبِّكمْ فَإِنَّهُ وَاللهِ لَيسَ دُونَهُ حُجَّابٌ وَلاَ حَرَسٌ، مَا أَقْرَبَ الرَّحْمَةَ إِذَا أَبْدَى النَّاسُ التَّوبَةَ، فَيومُ القِيَامةِ مَوعِدُ الخَلاَئق لِفَصلِ القَضَاءِ، وَهُنَاكَ تَتَجَلَّى العِزَّةُ وَيَظْهَرُ العَدْلُ: حِسَابٌ وَمِيزَانٌ وَصِرَاطٌ وَنِيرَانٌ، هُنَاكَ تَبدُو الفَضَائحُ وَتَظْهَرُ القَبَائِحُ، يُحَاسَبُ الإِنْسَانُ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء: 47].

وَاسْتَمِعَوا ـ عِبادَ اللهِ ـ إِلى قَولِ اللهِ سُبْحَانَهُ: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79].

إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً