أما بعد: أيها المسلمون، في هذه الأيام يقترب موسم بيع ثمر النخل، ومن شكر نعمة الله علينا أن نسير في بيعها وشرائها وفق شرعنا المطهر؛ امتثالاً لأمر الله تعالى واتباعًا لسنة رسوله وطلبًا لثواب الله ورجاءً للخير والبركة وشفقة من عقاب الله وعذابه.
لقد بين رسول الله متى تباع هذه الثمار وكيف تباع، فقال: ((لا تتبايعوا هذه الثمار حتى يبدو صلاحها، ولا تبيعوا التمر بالتمر)). فنهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها؛ لأنها قبل صلاحها تكون أكثر عرضة للآفات وأزيد نموًا. ونهى عن بيع التمر بالتمر؛ لأن ذلك ربًا أو سيلة إليه. وعلامة صلاح ثمر النخل أن يحمر أو يصفر.
ولا يجوز إبدال ثمرة نخلة بثمرة نخلة أخرى، سواء كانت من نوعها أو لا، وسواء كانت أقل منها أم أكثر، وسواء كان مع أحدهما زيادة دراهم أم لا؛ لأنه لا يجوز بيع التمر بالتمر خرصًا.
وإذا حدث عيب في الثمرة بعد بيعها؛ فإن كان بسبب من المشتري فلا ضمان على البائع، مثل أن يكون المشتري غير عارفٍ بالخرف، فيخرفها فتموت ثمرتها، أو يؤخر جَدَّها عن وقته فيصيبها مطر أو غيره، فلا ضمان على البائع. فإن كان العيب مجرد قضاء وقدر لا يد ولا سبب للعبد فيه كالغبير والموت الحاصل من شدة الحر فضمان نقصها على البائع؛ لقوله : ((إذا بعت من أخيك ثمرة فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟!)). فيقوم النقص على البائع ويسقط من الثمن.
وإذا حدث العيب في الثمرة وأحب المشتري أن يردها ويأخذ الثمن فله ذلك، إلا أن يكون قد شُرط عليه عند العقد أنه إن حدث بها عيب تثمّن بدون ردٍّ، فحينئذٍ يثمن له ولا يردها؛ لأن المسلمين على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً. وإذا كان العيب موجودًا عند البيع ورضي به المشتري فلا شيء له على البائع، ولو زاد العيب فيما بعد؛ لأن المشتري دخل على بصيرة، وإذا كانت الثمرة سليمة عند البيع فشرطَ على المشتري أنه إن حدث بها عيب فالبائع بريء منه فالشرط باطل ولا تبرأ ذمة البائع به؛ لأن هذا الشرط غرر وجهالة، ومصادم للنص الشرعي.
معاشر المسلمين، اعملوا أن لله سبحانه حقًا في ثمرتكم، أوجب عليكم إخراجه لمستحقيه حين جذاذ الثمرة؛ فمن كان عنده نخل في بيته أو استراحته أو مزرعته وبلغ النصاب وجب عليه إخراج الزكاة، والنصاب ما يعادل ستمائة كليو جرام، فمن كان مجموع ثمرة نخلة ستمائة كليو جرام فأكثر وجبت عليه الزكاة، حتى لو كان ثمره للادخار ولاستهلاك البيت. ومقدار الزكاة نصف العشر في مثل حالنا بهذه البلاد التي تسقى الزراعة فيها بمؤنة وليست من المطر. ولا يجزي إخراج الزكاة من الرديء ولا من الرخيص، بل من أوسطه وصفًا وثمنًا.
أيها الإخوة، مسألة من مسائل المعاملات المالية اختلف أهل العلم فيها، والصحيح جوازها كما قرر ذلك العلماء المحققون؛ وهي المصالحة عن المؤجل ببعضه حالاً، كما لو كان لرجل عند آخر ألف ريالٍ مؤجلة بعد سنة، وبعد مضي ستة أشهر قال: أعطني تسعمائة الآن وأُسقط عنك الباقي، فلا بأس في ذلك.
واستمعوا إلى ما قاله الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: "الصحيح جواز الصلح عن المؤجل ببعضه حالاً؛ لأنه لا دليل على المنع، ولا محذور في هذا، بل في ذلك مصلحة للقاضي والمقتضي؛ فقد يحتاج من عليه الحق إلى الوفاء قبل حلوله، وقد يحتاج صاحب الحق إلى حقه لعذر من الأعذار، وفي جواز هذا مصلحة ظاهرة. وقد ورد أن يهود بني النضير في المدينة لما أراد النبي أن يجليهم عنها ذكر له الصحابة أن بين اليهود وبين الناس ديونًا، فأمرهم النبي أن يضعوا ويتعجلوا. وأما قياس المانعين لهذه المسألة بمسألة قلب الدين بالربا فهذا القياس بعيد، وبين الأمرين من الفرق كما بين الظلم المحض والعدل الصريح".
وقال ابن قاسم رحمه الله: "قال بهذا ـ أي: بالمصالحة عن المؤجل ببعضه حالاً ـ ابن عباس، ورواية عن أحمد وأحد قولي الشافعي، وقال به الإمام ابن تيمية وابن القيم رحم الله الجميع".
ومعلوم أن ديننا مبني على اليسر والسهولة، والأصل في المعاملات الحلّ، وفي هذا العمل تيسير للناس وإبراء لذمة الغريم وتعجيل بالمال لصاحبه، وكل هذه مصالح يسعى الشرع إليها، وليس ثمة دليل يحرم هذا أو يمنع منه.
أيها الإخوة، وملحظ مهم يتعين التنبيه عليه في هذا الأمر؛ وهو أن النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها لا يقتصر على التمر والعنب فقط، بل يشمل كافة الثمار من فواكه وخضار ونحوها.
|