.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

العبر من وفاة سيد البشر

5244

الرقاق والأخلاق والآداب, سيرة وتاريخ

السيرة النبوية, الموت والحشر

صالح بن محمد آل طالب

مكة المكرمة

24/2/1427

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- ضرورة دراسة السيرة النبوية. 2- أعظم مصيبة نزلت بالمسلمين. 3- إشارة النبي إلى دنو أجله. 4- توديع النبي لأهل البقيع وشهداء أحد. 5- حرص النبي على الصلاة واهتمامه بها. 6- اشتداد المرض بالنبي . 7- تأكيده على التوحيد وسد أبواب الشرك. 8- وصاياه في آخر حياته. 9- ذهول الصحابة واضطرابهم لموت النبي . 10- ثبات أبي بكر رضي الله عنه. 11- مبايعة الصحابة لأبي بكر. 12- انتشار الإسلام في الآفاق.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتَّقوا الله تعالى أيّها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71]

أيّها المسلمون، دِراسَةُ سِيرةِ النَّبيِّ حَتمٌ لاَزِم لِكلِّ مَن أَرادَ تَرميمَ أمّتِه والعودةَ بها إلى نَبعِها الأصيل والّذي لن تقومَ إلاّ بِهِ، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب: 21]، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [آل عمران: 164]. وإنَّ في كلِّ جانب من جوانب حياتِه عِلمًا وحِكمةً وهدًى ورحمة ودَرسًا وعبرة.

عبادَ الله، لما أشرَقَتِ الدَّنيا برسالة النبيِّ ضياءً وابتهاجًا ودَخَل الناس في دين الله أفواجًا وسَارَت دَعوتُه مسيرَ الشمس في الأقطار وليبلُغ دينه القويم ما بلَغ الليل والنهار، بعد أن بلَّغ رسول الله الرسالَةَ وأدَّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغمّةَ وأصبح الناس على المحجّة البيضاء ليلها كنهارِها لا يزيغُ عنها إلا هالك، بعد أن قضى ثلاثًا وعشرين سنَة في عبادة ربِّه وتلقّي وحيه والجهاد في سبيله وهداية الخلق، بعد أن أحبَّه الناس وخالَطَ حبُّه شغافَ قلوبهم، وقد كان لهم أشفَقَ مِنَ الوَالِدِ وأرحَمَ من الوالِدَة، عندها نزَلَت بالمسلمين أعظمُ مصيبة أكبر فَاجعة، وذلك حين أذِن الله تعالى لنبيِّه بفراقِ هذا العالَم وأنزَلَ عليه سورةَ النصر إشعارًا له بأنه فرَغ من مهَمَّتِه في الدّنيا، وأنّه سيودِّع أصحابَه قريبًا، وأنه مُفارق لهذا العالم الفاني وراجعٌ إلى الله ولاحِق بالرفيقِ الأعلى ليجزيَه الجزاء الأوفى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النّصر]. وهكذا الأعمالُ الكِبارُ تختَم بالتّسبيح والاستغفار.

عبادَ الله، إنَّ الحديث عن وفاة سيِّد البشر لأجل ما فيها من العظات والعبر، لا للتَّحزُّن واستدرارِ العواطف، وكما كانت حياته دعوةً وجهادًا، فكذلك وفاتُه كانت هدايةً وإرشادًا.

ولقد أشار النبيّ إلى اقتراب أجله بما أعلَمَه الله من قربه كما في صحيح مسلمٍ أنَّ النبيَّ كان يقول في حجة الوداع: ((خذُوا عني مناسككم؛ لعلّي لا ألقاكم بعدَ عامي هذا))، وفي لفظ: ((فإني لا أَدري لعلّي لا أحجُّ بعد حجّتي هذه))، وطفِق يودّع الناس؛ لذا سميت حجّة الوداع. ولما نزلت: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3] بكَى عمر رضي الله عنه وقال: ليس بعد الكمالِ إلا النقص؛ مستشعرًا قُربَ أجل النبي بانتهاء مهمّته. وفي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها المخرَّج في الصحيحَين قالت: أقبلَت فاطمة رضي الله عنها تمشِي كأنَّ مشيتَها مشيُ النبيِّ فقال: ((مرحبًا بابنَتي)) الحديث، إلى أن قالت فاطمة رضي الله عنها: أَسرَّ لي : ((إنَّ جبريلَ كان يعارضني القرآن كلَّ سنة مرةً، وإنه عارَضني العامَ مرتين، ولا أُراه إلاّ حَضَر أجلي، وإنك أوّلُ أهل بيتي لحاقًا بي)) فبكيتُ، فقال: ((أمَا ترضين أن تكوني سيدةَ نساء أهل الجنة أو نساء المؤمنين؟!)) فضحكتُ لذلك.

أيّها المسلمون، في آخرِ شهر صفر خرج النبي إلى البقيع مِن جوف الليل فدعا لهم واستغفَر، وقال: ((ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناسُ فيه، أقبلتِ الفتن كقِطَع الليل المظلم، يتبع آخرُها أوَّلَها، الآخرة شرٌّ من الأولى)) رواه الإمام أحمد والطبراني والحاكم. كما دَعَا لشهداءِ أحُد كالمودِّع لهم. ثم أخذتِ النبيَّ حمّى شديدةٌ وصُداع شديد، وكان يطوف على نسائِه وقد ثقُل واشتدَّ به المرض، فدعاهنّ واستَأذنهمّ أن يمرَّض في بيت عائشة، فأذِنَّ له. فانظر إلى عدلِه وحِرصه على جَبر الخواطر والعشرة الحسنة حتى في الحالِ التي يُعذر فيها.

ومع ما كان به من شدة المرض إلاّ أنه كان يصلّي بالناس، فلما عَجز يومًا عن الخروج ـ كما في الصحيحين ـ قال: ((أصَلَّى الناس؟)) قيل: لا؛ هم ينتظرونَك يا رسولَ الله، قال: ((ضَعوا لي ماءً في المخضب))، ففعلوا فاغتسل، ثم ذهب لينوب ـ أي: لينهض ـ فأغمِيَ عليه، ثم أفاق فقال: ((أصلَّى الناس؟)) قيل: لا؛ هم ينتظرُونك، فاغتسل ثانية ثم أغمِيَ عليه، وثالثة كذلك، وفي كلِّ مرّةٍ يسأل عن الصلاةِ، فأرسل إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يصلّيَ بالناس، فصلّى بهم أيّامًا، ثم إنَّ النبيَّ وجد في نفسِه خفّةً، فخرج يُهادى بين رجلين هما العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فلمَّا رآه أبو بكرٍ رضي لله عنه ذهَب ليتأخّر، فأومأ إليه النبي بأن لا يتأخّر، وأُجلِسَ إلى جنبه، وأُتِمَّت الصلاة. وفي هذا إشارةٌ إلى فضلِ أبي بكر رضي الله عنه وأحقّيَّته بالإمامة بعدَ النبيِّ ، وكذا حرصُ النبي على صلاة الجماعة، واهتمامُه بصلاة أصحابه واجتماعهم على إمام واحد.

وفي الصحيحين عن أبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله عنه قال: خرَج علينا رسولُ الله في مرضه الذي مَاتَ فيه ونحن في المسجِد عاصبًا رأسه بخرقة، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ((إنَّ الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عندَ الله))، فبكَى أبو بكر الصدّيق وقال: فدَيناك بآبائِنا وأمّهاتنا يا رسول الله، فقال النبيُّ : ((يا أبا بكر، لا تبكِ؛ إنَّ أمنَّ الناسِ عليَّ في صحبتِه ومالِه أبو بكر، ولو كنتُ متّخِذًا خليلاً من أمتي لاتَّخذتُ أبا بكر، ولكن أخوّةُ الإسلام ومودَّته، لا يبقَى في المسجد بابٌ إلاّ سُدَّ إلا بابَ أبي بكر)).

وفي الصحيحين أيضًا عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان يُصلّي لهم في وجَع النبي الذي تُوفِّيَ فيه، حتى إذا كان يومُ الاثنين وهم صفوفٌ في الصلاة فكشَف النبيُّ سِترَ الحجرة ينظرُ إلينا وهو قائمٌ كأنَّ وجهَه ورَقَة محصَف، ثم تبسَّم يضحَك، فهَممنا أن نفتَتِن من الفرح برؤيةِ النبيِّ ، فنكَص أبو بكر على عقِبَيه ليصِلَ الصفّ، وظنَّ أن النبيَّ خارج إلى الصلاة، فأشارَ إلينا النبيُّ أن أتِمّوا صلاتَكم، وأرخى السّترَ، فتوفِّيَ من يومِه.

وقد كان فرَحُهم رضي الله عنهم ظنًّا أنّه شُفيَ ، وما علِموا أنها نظرةُ الوداع الأخيرة. لقد تبَسّم النبي حين اطمَأنّ عليهم ورآهم متراصِّين في الصلاة خلفَ إمامهم أبي بكرٍ رضي الله عنه، وملأَ عينَه وقلبه برؤيتهم.

هممتُّ بتوديـع الْحبيب فلم أطِق        فودّعتُه بالقلب والعينُ تدمـع

وكانت هذه آخِرَ ابتسامةٍ له في الدنيا؛ حيث فرِح بحال أمّتِه المستقيمة المجتمِعة المتراصّة خلف إمامها. ولقد شاء الله تعالى أن تكونَ لحظةُ الوداع تلك في مشهدِ الصلاة.

وكان يقول في مرضه الذي مات فيه: ((يا عائشةُ، ما أزال أجِد ألَمَ الطعام الذي أكلتُ بخيبر، فهذا أوان وجدتُ انقطاعَ أبهري من ذلك السمّ)). وهكذا رُزِق النبيُّ الشهادةَ بسبب سُمّ اليهودِ الخوَنَة نقَضَةِ العهود قَتَلَةِ الأنبياء عليهم من الله مل يستحقون، فهم أخبثُ الأمَم طويَّةً، وأردَاهم سَجِيّة، وأبعدُهم من الرحمة، وأقربهم من النِّقمة، عادَتُهم البغضاء، وديدنهم العداوةُ والشحناء، بيتُ السّحر والكذب والحِيَل، لا يرونَ لنبيٍّ حرمةً، ولا يرقُبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة.

ولما اشتدَّ الوجعُ على النبيِّ كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: دَخلتُ على رسولِ الله وهو يوعَك، فحسَستُه بيدي، فقلت: يا رسول الله، إنك تُوعَك وَعكًا شديدًا! فقال : ((أجل، إني أوعُك كما يُوعَك رَجُلان منكم))، قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ قال : ((أجل، ذلك كذَلك، ما مِن مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاتِه وحُطّت عنه ذنوبه كما تحطُّ الشجرةُ ورقها)). وفي هذا تعزية لأهل المصائب والابتلاءات والأسقامِ والأمراض.

أيّها المسلمون، ومع مقاساةِ النبي الشدائدَ ومعاناته آلامَ الموت إلاَّ أنه لم يَغفَل عن توجيهِ أمّتِه ولم يَتَوَقَّف عَن أداء رسالتِه، بل عاد يؤكّد على القضيِّة الكبرى والتي بدأ بها دعوتَه وسايَرته طولَ حياته، إنها قضيةُ التوحيد وسدِّ أبواب الشرك، عن عائشةَ وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نُزل برسول الله طفِق يطرَح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتمّ كشَفَها عن وجهِه، وهو كذلك يقول: ((لعنَةُ الله على اليهودِ والنصارى؛ اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ))؛ يحذِّر ما صعنوا. رواه البخاري ومسلم.

إنَّ النبيَّ وهو في الكرب العظيم يعرِف مصائدَ الشيطان وما يُمكِن أن يسوِّل به للأمّةِ إذا جرّها إلى الجاهليةِ الأولى؛ إذ إنهم حين يصِلون إلى حالِ عبادتهم للقبور والطوافِ بها ودعائها فقد فقَدوا دينهم وهم لا يعلمون.

وفي الصحيحين أنَّ النبي أوصى عند موته بقوله: ((أخرِجوا المشركين من جزيرة العرب))، وكان آخر ما أوصى به وكرَّره مرارًا الصلاة، ففي حديث أنس بنِ مالك رضي الله عنه قال: كانَت عامّة وصية رسول الله حين حضَرَه الموت: ((الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم، الصلاةَ الصلاةَ وما ملكت أيمانكم))، حتى جعل يغَرغِر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانُه. رواه النسائيّ وابن ماجه بسند صحيح. وصدَقَ الله: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]. فليس لمتهاون عذرٌ وهو يسمَع وصيّةَ النبيّ ، والتي جاد بها وهو يجود بنفسِه، ألا يسمَعُ مَن يَتَكَاسَل عَنِ الصَّلاةِ؟! ألا يَسمَع من يظلِمُ العاملَ والخادم والأجيرَ فينتَقِص أجرَه ويهضِم حقَّه ويؤذِيهم بالكلام وبالفِعال؟! فليتّق الله كلُّ من ولاّه الله أمرَ ضعيف.

وفي الصحيحَين أيضًا أنَّ النبيَّ رأى السواك وأخذه، واستنّ به أحسنَ ما يكون استنانًا، وبين يديه ركوةٌ فيها ماء، فجعل يدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهَه يقول: ((لا إلهَ إلا الله، إنَّ للموت سكراتٍ))، ثم نصب يدَه فجعل يقول: ((اللهم في الرفيق الأعلى))، يردِّدها حتى قبِض ومالت يده.

وتسرّب الخبرُ بين الصحابة في لحظاتٍ، فضجّوا بالبكاء، وأظلَمَت عليهم الدنيا، واشتدّت الرزيّة، وعظم الخطبُ، وأخذوا يبكون، لا يدرون ما يصنَعون، وحُقَّ لهم؛ لقد غابَ الحبيبُ المصطفى وماتَ، لقد افتقدوا مهجةَ قلوبهم ومن كانَ ملءَ أسماعهم وأبصارهم، ولكنّ قدَرَ الله نفذ وحكمه نزل، والله غالب على أمره.

بارك الله لي ولكم في الوحيَين، ورزقنا مرافقةَ سيِّد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله تعالى لي ولَكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ربّ العالمين.

أيّها المسلمون، إنَّ الصحابةَ رضي الله عنهم لم يكادوا أن يصدِّقوا خبَرَ الوفاة، ولم يستَوعِب بعضُهم هذه الفاجعةَ لِعِظَم المصيبة وهول الصدمة، حتى كان عمر رضي الله عنه يهدِّد من يقول: إنَّ رسولَ الله قد مات. يقول أنسٌ رضي الله عنه: لما ماتَ رسول الله كُنّا كالغَنَم المطيرةِ في الليلةِ الشاتِية، فما زالَ أبو بكر يشجِّعنا حتى كنّا كالأسودِ المتنمِّرة، وكان أبو بكر رضي الله عنه قد خَرَج في الصَّباحِ إلى منزله بالسُّنح في طرف المدينة، فأقبل بفرسِه سريعًا حين سمِع الخبر، فنزل ودخَل المسجدَ، ولم يكلِّم أحدًا، حتى دخَل الحجرةَ الشريفة وعيناه تسيلان وزفراتُه تتردّد، فقَصَد النبيَّ وهو مُسَجّى ببردة حَبِرة، ثم أكبّ عليه قبّله وبكَى، ثم قال: بأبي أنت وأمي، طِبتَ حيًّا وميّتًا. وفي هذا درسٌ للتثبُّت من الأخبارِ ولو شاعَت قبل اتِّخاذ المواقف. وفيه أيضا جواز تقبيل الميت.

ثم خرج أبو بكر وعُمَر يكلّم الناس، فقال: اسكُت يا عمر، فأبى إلاّ أن يتكلّم، فأقبل الناسُ إلى أبي بكر وتركوا عمر رضي الله عنهم أجمعين، فحمِد الله تعالى وأثنى عليه وقال: (أمّا بعد: فمَن كان منكم يعبد محمّدًا فإن محمّدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت)، وتلا قولَ الله عز وجل: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران: 144]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله، لكأنَّ الناسَ لم يعلموا أن الله أنزَل هذه الآيةَ حتى تلاها أبو بكر، فتلقّاها منه الناس، فما أسمعُ بشرًا من الناس إلا يتلوها، قال عمر: والله، ما هو إلاّ أن سمعتُ أبا بكر تلاها فعُقِرت حتى ما تُقلّني رجلاي، وحتى أهويتُ إلى الأرض، حين سمعته تلاها علمتُ أنَّ النبيَّ قد مات.

وفي هذا فضيلةُ العلم والعُلماء، وأنَّ العلمَ مقدّم على العواطفِ، وأنّ قول العالم بكتاب الله المطّلع على حقيقة الواقعة مقدّم على قول غيره.

ثم بايَع المسلمون أبا بكر رضي الله عنه بالخلافةِ بالإجماع، بعدَ نقاشٍ وحوار لم يدُم طويلاً، فرضي المسلمون ما رضيَه لهم ربهم ورضيَه رسوله ، ولم يجِدِ الشيطان سبيلاً لتفريق الكلمةِ أو تمزيق الشّمل. لقد ردَّ أبو بكر رضي الله عنه الناسَ إلى دين الله، وأوضَحَ لهم المنهجَ الذي دلّ عليه القرآنُ، وأنَّ الارتباط يجب أن يكون بالمبادئ لا بالأشخَاص؛ لأن الأشخاصَ يموتون ومن سوى الأنبياء قد يتغيرون.

وكانت وفاةُ النبيِّ في يومِ الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول في السنةِ الحادية عشرة من الهجرة. وقد غُسِّل النبيُّ وعليه ثيابُه، فلم يُجَرّد كرامةً له، ثم دخَل الناس يصلّون عليه أفرادًا، ثم دُفن في موضِعِه الذي قبض فيه ليلة الأربعاء.

وراحـوا بحزنٍ ليس فيـهم نبيُّهم       وقد وهنَت منهم ظهور وأعضد

عن أنس رضي الله عنه قال: لما كانَ اليومُ الذي قدِم فيه النبي المدينةَ أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلمَ منها كلّ شيء، وما نفَضنا أيديَنا من الترابِ وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا.

أيها المسلمون، لقد تَرَك النبيُّ الدنيا وهو أكرمُ مخلوق على اللهِ، ولم يترك دينارًا ولا درهمًا ولا مالاً إلا بغلتَه البيضاء وسلاحَه، وتوفي ودرعُه مرهونةٌ عند يهوديّ في شعير، توفّي وما شبِع ثلاثةَ أيام تِباعًا، ذاق اليتم، وتحملّ أعباء الرسالة، وواجه التكذيب والأذى والمطاردةَ وفراق الأوطان في سبيل الله، صبَرَ وصابر، وعفا وسامح، وربَّى أمّة خالدة، فيها الهدايةُ والإيمان والشريعةُ الباقية، تركَ أمّةً هي خير الأمم وأوسَطُها، ترك سيرة عطرةً لتكون منهاجا للأمة إلى يوم القيامة.

إنَّ محبّةَ النبيِّ من أصول الإيمان، والشوقَ إلى لقائه من دلائلِ الإيمان، ومن أحبَّ لقاءه فليتبَع سنّتَه حتى يوافِيَه على الحوض، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران: 31]، وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].

وأخيرًا، فبالرّغم مِن عِظَم المصيبة بموتِ النبيِ إلا أنها لم توهِن الإسلام، ولم تُضعِفِ المسلمين، بل انطلق الدين الحقّ يتخطّى الحدود والسدود، ويعلو الوِهاد، ويطوي الأرض، حتى بلغَ مشارقَ الأرض ومغاربها، وأظهَره الله على الدينِ كلّه، ولئن ضعُف حال المسلمين في يومٍ فإن الجولةَ الأخيرة للإسلام، والنصرَ آت لا محالة.

عبادَ الله، صلّوا وسلّموا على الهادي البشير والسراج المنير.

اللّهمّ صلِّ وسلِّم وزِد وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آلِه وصحبه أجمعين، اللهم ارزقنا شفاعته، واحشرنا في زمرتِه، وأورِدنا حوضَه، واسقنا من يده الشريفةِ شربةً لا نظمأ بعدها أبدا.

اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلّ الشرك والمشركين...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً