أمّا بعد: فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان: 33].
أيّها المسلمون، لقد خصَّ الله تعالى رَسولَه بالمقامَاتِ العالِيَة والكراماتِ السَامِيَة، وأنالَه من الكمالات البشريّة أعلاها، فقد كان علَى غايةٍ مِن كمال الخِلقة وجمال الصّورة وقوّة العقل وكمالِ الحواسّ واعتدال الطبع وشرفِ النسب والحسب، وكذا الكمالُ في الآداب والأخلاق من الدّين والعلم والحلمِ والصّبر والشكر والمروءَةِ والزهد والتواضُع والجودِ والشجاعة والحياءِ والرّحمة والوقارِ والمهابة وحُسن العِشرة، ويكفي في ذلك قولُ ربِّه عزّ وجلّ: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4].
أضِف لذلك ما اختصَّه الله تعالى بِهِ مِنَ النبوّة والرسالة والخلَّة والمحبّة والاصطفاء وسائرِ الكرامات والفضائل ما لا تكفيهِ خطبُ المنابر، ولا تحيط به الأقلام والدفاتِر، وكلُّ هذا للمنزلةِ العظيمة والمهمَّة الجسيمة التي خلقَه الله تعالى لها، ألا وهي الرسالةُ والبلاغ عن ربِّ العالمين، فهو يدعُو إلى اللهِ لا إلى نفسِه كما قال الحقُّ سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا [الأحزاب: 45، 46].
ومِن هذَا المنطلَقِ جعَل الله تعالى لنبيِّه حقوقًا على هذهِ الأمّة، يجب عليهم القيامُ بها، ومقصِدُ جميع هذه الحقوقِ هو تحقيق العبادةِ لله ربِّ العالمين وحدَه لا شريك له.
أيّها المسلمون، في غَمرةِ الحديث عن جنابِ النبيِّ وسيرَتِه وكراماتِه والدّفاع عنه فإنَّ مِن أولى ما ينبغي طرحُه هو القضايَا العملية والأطروحاتُ المنتِجَة كتنبيهِ الناس إلى القيام بحقوقِه .
وإنَّ مِن هذه الحقوقِ ما سبَق وجوده كالميثاقِ الذي أخذَه الله تعالى على الأنبياء أن يؤمِنوا به وأن يتبعوه إن هم أدركوه، قال الله عزّ وجلّ: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: 81].
عبادَ الله، إنَّ أعظمَ حقوقِ النبيِّ الإيمانُ به وتصديقُه، ولا يمكِن أن يكونَ مسلِمًا من لم يقِرَّ بذلك جازمًا غيرَ متردِّد ولا شاكّ، قال الله عزّ وجلّ: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا [التغابن: 8]، وقال سبحانه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ [الأعراف: 158]، وقال عزّ اسمُه: وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا [الفتح: 13]، وفي صحيحِ مسلمٍ أنَّ النبيَّ قال: ((أمِرتُ أن أقاتل الناسَ حتى يشهَدوا أن لا إله إلاّ الله ويؤمِنوا بي وبما جِئتُ به))، وفي الصحيح أنَّ النبيَّ قال: ((والّذي نفسي بيه، لا يسمعُ بي رجل من هذه الأمّة ولا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بي إلاّ كان من أهل النار)).
إنَّ الإيمان والتصديقَ يندرج تحته كلُّ ما يقتَضيه من تمامِ الطاعة والاتِّباع والقَبول والتصديقِ المقتضي للعَمَل، وإلاّ فإن دعاوى اللسان لا بدَّ لها من برهانٍ، وهو عمَل الأركان.
ومنه يُعلَم أنَّ من حقوق النبيِّ طاعته، والتي هي من خصائِصِه، أي: الطاعة المطلقَةُ ليست لأحد من البشر سوى النبيّ ، كما قال الله عزّ وجلّ: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب: 36]. وقد قرَنَ الله تعالى طاعَةَ رسوله بطاعته سبحانه في آياتٍ كثيرة، كقوله عزّ وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأنفال: 20]، وقوله: مَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80]، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [آل عمران: 32].
ومنه ينبَثِق حقٌّ آخر، وهو كمالُ الاتِّباع، بل هو مقتَضَى شهادة أنّ محمّدًا رسول الله، أي: طاعته فيما أمر، وتصديقُه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزَجَر، وأن لاَ يُعبَد الله إلاَّ بما شَرَع، فما لم يشرَعْه رسولُ الله مبلِّغًا عن ربِّه فلا نتعبَّد الله به، بل هو مردودٌ كما في الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ))، أي: مردود غيرُ مقبول، بل سمَّى النبيّ كلَّ أمر محدَث في الدين بدعةً، وجعلهَا ضلالاً في النّار، كَما كان يقول في خطبَتِه: ((إنَّ خير الحديث كتاب الله، وخيرَ الهُدى هدى محمد، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلَّ بدعةٍ ضلالة)) رواه مسلم.
قال الله عزّ وجلّ: وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7]، وقال الحقُّ سبحانه: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب: 21]، وفي حديث العرباضِ بن سارية رضي الله عنه أنَّ النبي قال: ((عليكم بسنّتي وسنة الخلفاء المهديِّين الراشدين، تمسَّكوا بها، وعضُّوا عليها بالنواجذ، وإيّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة)) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح. قال بعض السلف: "من أمَّر السنّةَ على نفسِه قولا وفِعلا نطق بالحكمةِ، ومن أمَّر الهوى على نفسه نطق بالبدعة".
كما أنَّ أتباع النبيِّ هم من يرِد عليه الحوضَ، وغيرُهم يُطردون، ففي صحيح مسلمٍ أن النبيَّ حين وصَف أمّته قال: ((فليُذَادَنّ رجالٌ عن حوضي كما يُذاد البعير الضال، فأناديهم: ألاَ هلمّ، فيقال: إنهم قد بدَّلوا بعدك، فأقول: سُحقًا سحقًا))، وفي الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((من أدخلَ في أمرنا ما ليسَ منه فهو ردّ)).
عبادَ الله، إنَّ اتباعَ النبيِّ يقتَضي وجوبَ التزام شرعِه والتزام هَديِه وسنّته والاكتفاء بهديِه وشريعته، وأن لا يُبتَغَى الفلاح إلاّ من طريقه، قال الله عزّ وجلّ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت: 51]، وقال سبحانَه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ [المائدة: 48]، وقال سُبحانَه: وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة: 49].
ومِنه يُعلَم ضَلالُ الّذين يخلِطون أهواءَهم بآراءِ الفلاسفة، ويتخَوّضون في دينِ الله بالهوى والعَقل، ويكيِّفون الدينَ والشرع على المصالح المتوهَّمة ومسايَرَة الغالب ولو كان باطلا.
إنَّ الاتباعَ الحقيقيَّ للنبيِّ لا يكون إلا باطِّراح الهوى وتربيةِ النفس على لزوم السنّة واتِّباعها والرجوع إلى الحقّ وإخلاص القصد وصلاح النّية وصدق الإخلاص والتجرُّد لله رب العالمين، وصاحِبُ السنة مهديٌّ موفَّق.
ومِن حقوق النبيِّ محبّتُه، قال البخاري رحمه الله: "باب: حبُّ النبيِّ من الإيمان"، وساق حديث أنس بنِ مالك رضي الله عنه أنَّ النبي قال: ((والذي نفسي بيده، لا يؤمنُ أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من والده وولدِه والناس أجمعين)) ورواه مسلم أيضا، وفي الصحيحَين أن النبيَّ قال: ((ثلاثٌ من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سواهما)) الحديث، وقد قال النبيُّ لمن أخبره بحبِّه له: ((أنت مع من أحبَبتَ)) متفق عليه.
ولَقد كان الصحابةُ رضي الله عنهم أشدَّ الناس حبًّا له، فعظَّموه ووقَّروه، وكان مِلءَ أسماعِهم وأبصارهم، وخالَطَ حبُّه شغافَ قلوبهم، فقدَّموه على أنفسهم وأهليهم، وفدَوه بأرواحهم، وقدَّموا صدورهم دِرعًا حاميا عنه ، وفي إحدَى الغزوات ينحني أحدُهم على النبيِّ حاميًا له حتى يكونَ ظهرُه كالقُنفذ من وَقعِ السهام، ويردُّ الآخرُ النبلَ وضربات السيوف بيدِه حتى شُلّت. إنَّ محبّتهم للنبيِّ لم تكن محبّة عِشقٍ ووَجد كما يظنّ المخرِّفون، بل هي محبّةُ مودّة وولاءٍ واتِّباع وطاعة، لقد كانت محبّةً سماويّة طاهرة، أثمرتِ اتِّباع السنّةِ والطاعَة وكمالَ الإيمان وتقديم أمر الله ورسولِه على شهوات النفسِ وحظوظها، وهي تطبيقٌ لقول الله عزّ وجلّ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران: 31، 32].
وإنَّك لتأسَفُ ممّن يتاجِرُ بهذه المحبّةِ ليبتَدِع في دين الله باسم محبّةِ رسول الله ، فيصدَعُ السّنَن، وينشُرُ البدَعَ، ويلبِّس على العَوامِّ باسمِ المحبّة، كمن يتاجِرُ بمحبّةِ آلِ بيت النبيِّ ، كأنّ الدِّينَ انحصر في هذهِ المحبّةِ، فيقَع الشّركُ، وتُنتَهَك المحارم، تضيعُ الشرائع، لا يبقى من الدّين إلا هذه المحبة المزعومة، ولو كانت حقًّا وصدقًا لأثمرتِ الطاعةَ والاتِّباع، نعوذ بالله من الخذلان.
أيها المسلمون، ومن حقوق النبيِّ تعظيمُه وتعظيم أمرِه وتوقيره، ومنه عدَمُ التقدُّم بين يديه وعدم رفع الصوت فوقَ صوته، قال الله عزّ وجلّ: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 8، 9]، أي: تعظِّموه وتفخِّموه وتنصُروه وتطيعُوه وتجِلُّوه، وبهذا أخذَ الصحابَة رضي الله عنهم، فقد كانوا يجلّونه غايةَ الإجلال، ولقد كانوا يطرِقون بأبصارهم عنده من الأدب، ولم يكونوا يحدّون إليه النظرَ، حتى قال بعضهم: ما ملأت عيني مِن رسول الله مَهابةً له وإجلالاً واحترامًا وحياءً.
ومع كلِّ هذا الإجلالِ الّذي لم يبلُغه في الكمالِ أحدٌ من الأمّة غير الصحابة رضي الله عنهم فلم يؤثَر أبدًا عن أحدٍ منهم أنه أعطاه شيئًا من خصائص الألوهيّة، فلم يدعوه، ولم يستغِيثوا به حيًّا ولا ميّتًا، ولم ينسِبوا له علمَ الغيب ولا شيئًا من خصائصِ الرّبِّ سبحانه.
وفي سورةِ الحجُرات يقول الله عزّ وجلّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: 1]، وهذا من حقوقِه ، فلا يجوز التقدُّم عليه بأيِّ صورةٍ، كسوء الأدب بسَبقِه بالكلام أو تقديم الآراء والأقوالِ على رأيه أو قوله، وبعد ذلك قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات: 2]، ففيه تحريمُ رفعِ الصّوتِ فوقَ صوتِه، وتحريمُ مناداتِه باسمه المجرَّد كما قال الله عزّ وجلّ: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا [النور: 63]، أي: لا تقولوا: يا محمّد، وإنما قولوا: يا رسول الله، ويا نبيَّ الله. وإذا كان مجرّدُ رفع الصوتِ قد يحبِط العمل فما ظنُّك بالاستهزاء بسنّته والاستخفاف بشريعته وتقديم الآراء على قوله؟!
نسأل الله تعالى أن يرزقَنا محبّةَ رسوله واتّباعه وطاعته.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
|