.

اليوم م الموافق ‏24/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

وفاق مكة المكرمة

5230

الرقاق والأخلاق والآداب

الآداب والحقوق العامة

عبد الرحمن السديس إمام الحرم

مكة المكرمة

28/1/1428

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- قضية المسلمين الكبرى. 2- نداء المصالحة والمسامحة. 3- الإشادة بجهود خادم الحرمين الشريفين في إيقاف النزاع بين الإخوة في فلسطين. 4- دلالات الوفاق. 5- واجب الأمة في هذا العصر. 6- حفريات اليهود في المسجد الأقصى. 7- تحذير الأمة من التفرق والاختلاف. 8- دعوة للثبات على المصالحة والوئام.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتقوا الله عباد الله، واستمسِكوا من دينكم بأوثقِ عُراه، فمن لزِم التقوى فقد أجاب داعيَ الله ولبى، واستعصى عن الأهواء والمضِلاّت وتأبَّى، ولم يزدَد من الله إلا قربى، وسَعِد في دنياه وأَربى، وسما رُوحًا وزكا قلبًا، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197].

أيّها المسلمون، قضيّتُنا الإسلاميّة الكبرى التي لن نملَّ فيها تردادًا ولن يكونَ ذِكرها مَهيَعًا مطروقًا مُرتادًا قضيةُ المسجد الأقصى المبارك، أولى القِبلتين وثالثِ المسجدَين الشريفين ومسرَى سيِّد الثقَلَين، قضِيَّتُنا التي يجِب أن لا تُغفَل في خضَمِّ النزاعات والصراعات وجديد الأزمات والتحديات، ولا يعزُبُ عن بال المحبِّ ذلك الارتباط العقديّ والشرعيُّ والتأريخيّ المتمثّلُ في قول الحقِّ تبارك وتعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء: 1].

معاشر المسلمين، وإذ تسير أمّتُنا في ليلٍ من الأحداث داجٍ وتغدو على صفيحٍ ساخِن وهّاج وفي غواشٍ من التسلّطات والطغيانِ متلاحمَة وصفوف مشروخةٍ غير متراحمَةٍ، وصِفُوا بما شِئتم مما تَنطِق به دموعُ الحدَق وتُبرِئ عنه الغُصَص والحرَق، ينصِت التأريخ المعاصرُ ليسجِّل في طروسِ إصلاح ذاتِ البَين أسنَى شهادةٍ ودرّةَ رِيادة، ويسَّمَّع الكونُ الخاشِع ليدبِّج بقُلُبِ الذّهَب ما نافَ عن العادةِ، في عَزمَةٍ لم تَسَعها حدودُ الطموح، ولم يُثنِها عن مُناها التردّدُ والجموح.

إنها المؤاخاة والمصالحةُ والوِفاق والمناصحة، في مبادرة تأريخيةٍ موفَّقة من لدُن وليّ أمر هذه البلاد المباركة بين الإخوةِ الأشقّاء قادةِ فلسطين المجاهدة الأبيّة، تلك المبادَرَةُ الكريمة الأثَر السّاطِعة الحجولِ والغُرَر، التي استَعلَنَ فيها ناطقًا جهيرًا القولُ الشامِل العميم للمولى عزّ اسمه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات: 10].

لقد نشَرت تلك الوقفةُ الإيمانيّة الحقَّ والحكمة على الفُرَقاء، وزرعَتِ البسمة بين الأوِدّاء، فآضَوا من العِداء إلى الإخاء، ومن الشحناء إلى الصفاء، ومن التبادُر والافتراق إلى التسامح والتعاوُن والوِفاق، وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [المائدة: 2].

أخـا الإسراءِ والمعراج بينِي    وبينك حبلُ أنهـارٍ وطِيـبُ

كلانـا في فلسطينَ التَقَينـا    علـى هَدَفٍ لينهزِم الغريب

بحبلِ العروة الوثقى اعتصَمنا    فلا عاش المخالِفُ والكذُوب

وهذا الحدَث التأريخيّ الذي انتشَت برحيقِة أمّةُ الإسلام وباركه دعاةُ الوفاق والسلام وهشَّ له رجال السِّلم والوئام لم يكن عَوضَ طَيفِ خَيال أو عَارِض حَال، إنما صدَر عَمَّن يُتَوَّج بجدارةٍ في ريادة الإصلاح المعاصر، من أحكَمَت رأيَه السِّنون، وعجَمَت حِنكَتُه عِداه فخابت منهم الظّنون، وشَيَّعت قلبه الواجدَ العقيدة وحقوقُ الإخوّة الإيمانيّة الوطيدة، فَتَجافى عن الحزبيّة والمذهبيّة، وسما بأمّتِه عن العصبيّة والطائفيّة، وسَلَّ فَضلاً مِن الله ومِنَّةً أضغَانَ الصدور، وعبَّأ القيادةَ الواعدَة بمحضِ النّصح الموفور والتوجيه الضارعِ الصادِق والأملِ اللَّهيف الرغيب؛ اهتداءً بقول المولى جل وعلا: لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114].

نعم، ها هي مآثِر الإصلاح وآثارُه، وفاقٌ بين الأحبَّاء، وصلح بين الأشقّاء، وحقنٌ لزاكِي الدماء، إقالةٌ للعاثر وإشاعةٌ للمآثر وإذابَة للجليد في وئامٍ صادق فريد. وانتِظامُ حُرّاس الأقصى المبارك صفوفًا تسرّ النواظر كتألُّفِ الزَّهرِ الناضِر، وهذا هو وجهُ الفَيئة إلى واحةِ الائتلاف البنّاء الجديرِ بتغيُّر مَسَار قضيَّتِنا الكبرى جذريًّا إلى مراسِي العِزِّ والأمان والنّصر، النصرِ المؤزَّر بإذن الله لفلسطينَ السليبةِ الحبيبة. وحسبُ المصلِح رِضا وثوابًا قولُ المصطفى : ((ألا أخبرُكم بأفضلَ مِن درجة الصلاة والصيام والصدقة؟)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((إصلاح ذاتِ البيت)) أخرجه الإمام أحمد وأبو داودَ والترمذيّ.

لغـة الوفـاء ثلاثـةٌ كلمـاتهـا       فيها عن الحب الأصيـل بيان

يسمو بها صدق الشّعورِ إلى الذُّرى       ويزفُّ عِطرَ حروفها الوجدانُ

أمّةَ الإسلام، دعاةَ الإسلام، وهذا الوِفاقُ والتعاهُد والميثاق لهو رِسالة نورانيّة للعالَم أجمَع تكشِف بأنَّ دينَنا الإسلاميّ الأغرّ دينُ الفيأَةِ والإخاءِ والتسامح والصفاء، وأنَّنا أمّة حضارةٍ وتأريخ ودُعاةُ رسالةٍ ومُثُل وقِيَم لا تلين. نعم، في هذا الإنجاز الأخويِّ الباهر إيذان بانبلاج فجرٍ جديد في تأريخ قضايَانا المعاصرة، وبرهانٌ جليّ ظاهر على أنَّ نصرَ الله آتٍ لا محالة مهما ادلهمَّت الخطوب ومسَّ أمّتَنا اللّغوب واحلَولَكَت ساعةُ الغروب، ولكن إن قدَّمنا وقَد لذلك ناصِعَ الدلائل والأعمالَ الجلائل. وإنَّا لنخطُّها مُكبَّرة مكرَّرة؛ لِتغدُوَ في الأسماع مقرَّرة: غير مجدٍ ـ يا أمّةَ الإسلام ـ الشّجبُ والامتعاض والاستنكار والارتماض وأن تُرفَع التندِيدات في النائبات وتتعالى وتدَبَّج الاحتجاجات وتتوالى فحسب، فهَل دَفَع ذلك حَيفًا أو فلَّ لمعتَدٍ سَيفًا أو دَفع هَارِيةَ عادٍ أو سفَّهَ أمانيَ المحتلّ في مسرى خير العباد؟!

لا بدَّ للأمّة أن تخرجَ من سَمِّ الانفعال إلى صادِق الفِعال والامتثال، ولن يَبهضَ الباغي مثلُ أن يكونَ المسلم فعّالاً لا قوّالاً، صوّالاً لا جوّالاً، ذلِكم وأن تُتَّخَذ هذه الوَثبة العمَليّة الإيجابيّة التي تملَّينا فيها الانبلاجَ ومديدَ الانفراجِ الأنموذجَ المبجَّل والمثلَ الشرود في حلِّ قضيَّتنا الكبرى وسائر قضايانا الأخرَى عن طريق الإصلاحِ والائتلاف؛ فضلاً مِنَ الله ومَنًّا، لا باكتِساب مِنّا، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال: 63].

أيّها المؤمنون، لقد حَزَب الأمر، ولم يَعُد في قوسِ الأقوال منزَع، وآنَ لهذه الأمّة أن تترجِمَ آمالها إلى مبادراتٍ وأفعال، وأن تفيدَ من واقِعِها المأساويِّ المشجون بالمشاقّ والمتاعب والخطوبِ والمصاعِب وتدرِكَ بأوسعِ يقظةٍ ووعي أيَّ عالم مثخَن بالجراحات والتعديّات والطغيان تعيشُه، وأن تمتشِقَ كلَّ الجهودِ والإمكانات والأقلام والمشاعرِ والطاقات لنصرِ الأمة وسُؤددها، فهذه نيرانُ الغرائز والشّهواتِ في استِعارٍ وضِرام، وهذه الأهواء والأفكار المنحرفةُ والشبهات ترشُق الحقَّ ببَواطل السّهام، وتلك الطائفيّةُ والعِرقِيّة المقيتَة على رُعُونَاتها وأطماعِها تدكُّ من الأمّةِ أطنابَها وأوتادها، ناهيكم بالفصول الداميَة على ثرَى الرافدين، حيث سُمُّ الحرب الناقِع يستأصِل إخوانَنا في العراقِ الجريح، والواغِر يساوِمُه في قَضِيّته ويماكس، ويكايِدُه ويعاكِس، ويَزعم أنَّ له عليه يدًا مَمنونة، ووايم الله إِن في طيِّها إلاّ مُدى مَسنونَة، وكذا كلاليبُ التصدُّع والشقاق تقضِم أمنَ لبنان الشقيقِ، وهكذا أعداءُ الرّحمة والسلام وأصلالُ الاحتلال ـ عجَّل الحقّ حَينَهم وعَفّى أثَرَهم وعَينَهم ـ يتداعَون إلى العدوان عن قصد واتِّفاق، ويصدرون عن عهدٍ للخيانةِ ومِيثاق، وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [المائدة: 64]. ولا نَخالها تلك المبادَرة الميمونة إلا غُصّةً في حَيزُومِهم وشَجى في حُلقومِهم، قد اشتفَت بها صدورُ المؤمنين، وفي الكلام العزيز المبين: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 105].

إخوةَ الإيمان، وفي الوقتِ الذي اجتمع فيه قادَةُ فلسطين في رحاب بيت اللهِ الحرام لحلِّ أزمتهم ونصرةِ قضيَّتِنا وقضيَّتِهم تابعَ الغيورون بأسى بالغٍ يقضّ المضاجعَ وقلوبٍ تَغلي بالمواجِع وعيونٍ تهمِي بالمدَامِع ممارَساتِ الاستِفزاز الإجراميّ التي يقوم بها العدوّ الصهيونيّ الغاصب حول المسجد الأقصى المبارك، حيث تصَعّد الصّلفُ الأرعن القاتِم والنزَق المسفُّ الغاشِم بشكلٍ مذهل مروِّع، وذلك بتَصعيدِ الحفرِيّات والهَدم بجرّافَات الظلمِ والطغيانِ على سَمعِ العالم ومَرآه، وهذا الحدثُ الإجراميُّ المتسارِع الخطير الذِي يستهدِف مقاتِل التأريخ الإسلاميّ العريق وحضارتَه الخالِدة يُعَدّ سابِقَةً قَبيحة ومخالَفَة صريحةً لجميع الشرائعِ السماويّة وخرقًا صارِخا لجميع القوانين الدوليّة التي تعتبر المنطقةَ أَرضا محتلَّةً مغصوبَة، وأنها بشهادةِ الشرائع والتأريخ حقٌّ خاصّ للمسلمين لا يعدُوهم، لا يقبَل المماحَكَاتِ والتّنازُلات، ولا يخضَع للمساوَمات والمزايَدات.

وتَلَفَّتَ الأقصى وفِي نظراتِه    ألم وفِي ساحاتِـه غَليَـانُ

والقدسُ أرمَلةٌ يلفِّعُها الأسى    وتميتُ بهجَةَ قَلبِها الأحزان

ولذا فإنَّ الأمة الإسلاميّةَ جمعاء تعطِف وتؤكِّد دعوةَ خادم الحرمين الشريفين ـ وفّقه الله ونصَر به دينَه ومقدَّساته ـ للقياداتِ الفلسطينيّة للوحدةِ الفاعلة والتحرّك الإيجابيّ الأمثل؛ لأجل ردِّ العدوان عن الأرض المباركة وإيقافِ استفحال الهدم والحفريات المتبَّرةِ، وتناشِد جميع القادةِ والدولِ والشعوب والهيئات والمنظمَات الإسلاميّة والدولية لكفِّ يدِ الباطش الغاشم الذي يستهدِف شموخَ الأمّة في عمق تأريخها ورمزِ هويَّتها وأسِّ ثوابتها وأغلى مقدساتها، وتتطلَّع إلى دعوة علماءِ الأمّة ومفكِّريها وجميع وسائل الإعلام وحملةِ الأقلام للتصدي لهذه الجريمةِ النكراء وهتك أستارِها وأخبارها بكلِّ ما أوتُوا مِن أجندةٍ وقوَّة؛ مؤازَرَةً للشعب الفلسطينيّ الصامد الباسل الحبيبِ الأبيّ المجاهد المناضل.

شَعـبٌ فِلسطينُ العزيـزة أنبَتت        فيه الإبـاءَ فلم يصِبه هـوانُ

شعـبٌ إذا ذكِر الفـداء بدا له        عزمٌ و رأي ثـاقِب وسِنـان

شعورًا بروحِ الجسدِ الواحد، واحتِواءً على هدًى وتعقّل وبصيرة لهذه المحنَةِ القَاتمة القاصمةِ، إنها الحفريات، وماذا بعد؟! إنها الحفريات ونقضُ العهد، فماذا بعد؟! ماذا بعد؟! ولئن استغاثَ الأقصى فلم يجِد إلاّ الصمتَ المطبِق أمام هذا الخطر المحدق، فللأقصى ربٌّ يحميه، اللّهمّ سلِّم سلِّم.

لنا أرض مباركـة دهـاها     من الأعداء عدوان رهيب

سمعتُ مآذن الأقصى تنادي     وفي البيت الحرام لها مجيب

وآمالُ الأمّةِ بعد الله معقودَةٌ بعبدِ الله وإخوةِ عبد الله وشعبِ عبد الله، فهنيئا لعبدِ الله، وهنيئًا للأمّة بعبد الله، فادعوا لعبد الله، ادعوا لعبد الله، من وفّى بحقوقِ الأخوَّةِ وأتمّ، وانتَشَل كبرى قضايَانا من بركانٍ ألمَّ، فبارَك الله مساعيَه، وضاعف مثوبتَه، وبُوِّئ عن صالحِ إمامته من الجنانِ منازلا، ولا زالَ لسائرِ قضايا المسلمين كمِيًّا مُنازِلا.

يـا قدسُ لا تأسـي ففي أجفانِنـا      ظلُّ الحبيب وفِي القلوب جِنان

مـن يخدم الحرميْن يأنف أن يـرى      أقصاكِ في صلفٍ العدو يهـانُ

يـا قدس صبرًا فانتصـارك قـادم      والْخصمُ يا بلَد الفداء جبـان

ويا أمّةَ الإسلام والاعتصام، حذارِ مِن التفرُّق والانقسام؛ ففيهما ـ وايم اللهِ ـ الموتُ الزّؤام، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46].

يا أمّتَنا، إن جدّدتِ العهدَ بالوحيَين عوفِيتِ من خطر الآراء وتسلُّط الأعداء ومهازلِ الأهواء، وترقَّيت صُعُدا بأمضى الهِمَم إلى أسمَق الأمجادِ وعالي القِمَم، وما ذلك على الله بعزيز.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد: 7].

نَفَعني الله وإيّاكم بالقرآنِ العظيم والذكرِ الحكيم وبهديِ سيّد المرسلين، وألهمنا الاعتصامَ بحبله المتين، إنه جواد كريم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولكافّة المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه كان توّابًا غفورًا.

 

الخطبة الثانية

نَحمَد الله بجميعِ المحامِد والأوصافِ، ونثني عليهِ بما أولى من نِعمٍ وأسدَى من أَلطافٍ، وأشهد أن لاَ إلهَ إلا الله وحدَه لا شَريكَ له شهادةَ خضوعٍ واعترافٍ، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمّدًا عبد الله ورَسوله خيرُ من دعا للتآخي والائتِلاف، صلّى الله وسلّم وبَارك عليه، وعلى آلِه أولي المحبّة والتَّصاف، وعلى صحابته أئمّة الهدى والإنصاف، ومن تبِعهم بإحسان إلى يومِ الدّين.

أمّا بعد: فاتقوا الله أيّها المسلمون، وكونوا ـ رَحمكم الله ـ على التآخي أَنصارًا وأحلافًا، وانفِروا إلى وحدتكم وألفَتِكم ثقالاً وخِفافًا؛ يوطَّأ لكم من العزّةِ أكنافًا، وتُبوَّؤوا من الجنة ألفافًا.

إخوةَ الإسلام، وبعد أن أتمَّ الباري مِن قضيّة الأمّة الأولى وقضيّة الأشقّاءِ مواقعَها وأنهَضَ كابِيَها وجلَّى مواقِفَها يأتي شأنُ الحِفاظِ على تلك المبادرةِ الصادقة والثباتِ عليها وتفعِيلها، فلن تخيَّب بإذن الله آمالُ أكثرِ مِن مليارِ مسلم، وأَن تؤخذَ بقوّةٍ واعتزازٍ واعتقاد وبَسالةٍ وحزم واعتِداد؛ لأنها نِبراس التّحَوُّل من الضَّعف إلى القوّة ومن الإحباطِ إلى التّفاؤل، وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [آل عمران: 103]، مَع مَا يُرَجّى عمومًا من استِلهام العِظاتِ والعِبَر من كون تلك الأحداثِ الداكنَةِ أبهجَت المنافقين والأعداءَ، ومكَّنت لهم تأريثَ نارِ الكراهية والتعصّب والبغضاء، وسَرَّهم أن تظلَّ ـ وهيهات ـ أمّةُ الفتوحات والنّصر والأمجاد عن القوّة والعزّة في إيصاد، مستَصحبين ـ يا رعاكم الله ـ نُصبَ أعينِكم أنَّ لكم في كلِّ غَمرة من غمَرات الجهاد روحًا تجلّ عن الحزازات وبطولات تسمو عن المآرب والنزاعات وتأريخًا سُطِّر بِعَبَق الدّماء وأثِّلَ بمفاخِرِ الأجداد والآباء، فاثبُتوا ـ يا أحبَّتَنا ـ على مبدَأ الوَفاء ومِيثاقِ الوَلاء، ولتَسلَمي ـ يا مَهدَ الرسالات والأنبياء ـ مِن مكائِد الأعداءِ الألدّاء.

يا جيرَةَ الوطنِ المقدّس جدِّدوا  روحَ المودَّةِ بعد طـول جَفائِهـا

أمُّ القرى بَسطَت رداءَ مودَّة    والْخير يكمُن فِي لفِيفِ رِدائِهـا

ناداكم الْملِك الذي عَزَماتُه    تدعو النّفوسَ لصفحها وصفَائها

يُساق ذلك ونحنُ أحوَج ما نكون تطلُّعًا إلى البَصيرةِ النافذة إلى التحدّيات السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة التي سوَّقها المستَجِنّ بالمصطلحات المذؤومَة والشعارات الصدِئةِ المهزومة، ويا حبّذا ثم يَا حبَّذا ما يؤمِّلُه الغُيُر مِن إخوانهم من التحقّق بالإخوّة الإسلاميّة والرّابطة الإيمانيّة على صَعيدِ الوقائِع كافّة تراحمًا وتآزُرًا وتعاونًا وتناصُرًا، صدًّا لظلم الباغِين الغاصبين، واستِشرافًا للنّصرَ المكين، واستثمار الأحداث ألمًا وأمَلا في نهضةِ الأمة من كبوتها وصحوتها من غفلَتِها وعَودتها إلى دينِها وتمسّكِها بعقيدَتها والتجائِها إلى بارِئها واتِّباعها لحبِيبِها ونبيِّها ونصرَتها لرسالتها، وبذلك تسهِم الأمّة قيادةً وعملاً وسُلوكًا وأمانَة ومسؤوليّة في الظفَرِ والظهور مهما انآدتِ العَقَبات وتراكَمَت المعوِّقاتُ، واللهُ من وَراءِ القصدِ وهو يَهدِي السّبيل.

هذا، وقد قال المولى قولاً كريمًا، ولم يزل قائلاً عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على الرحمةِ المهداة والنّعمة المسداة نبيِّنا محمّد بنِ عبد الله، وارض اللّهمّ عن الخلفاء الرّاشدين والأئمّة المهديّين الّذين قضوا بالحق وبِه كانوا يعمَلون: أبي بكر وعمَرَ وعثمان وعليّ، وعَن سائر الصّحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدّين، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً