أيها المسلمون، إن الله سبحانه وتعالى كان يسلّي نبيه محمدا بالقصص وسير العظماء من الأنبياء؛ وذلك من أجل تخفيف آلامه وهمومه. وإننا في زمن نعيش فيه همَّ المؤامرة الكبرى على الإسلام والمسلمين، ومن هنا رأيت أن نتسلى جميعًا بذكر جزء من سيرة أحد أصحاب النبيّ .
أيها المسلمون، وقبل أن أبدأ تأمّلوا معي جيدًا قول الرسول : ((ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس))، والترس: شيء يحمل عند القتال يتقي به السيف والرمح ونحوهما. والكرسي هو موضع قدمي الله تعالى، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، وفي رواية: ((ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في فلاة من الأرض)) أي: في صحراء من الأرض. أخرجه ابن جرير. وأيضًا قال الرسول : ((ما الكرسي في العرش ـ يعني عرش الرحمن ـ إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض)).
إذن السماوات السبع بكلّ ما فيها من كواكب وأجرام وأجسام لا تساوي شيئًا بالنسبة لكرسي الرحمن سبحانه وتعالى، والكرسي لا يساوي شيئًا بالنسبة للعرش، فإذًا كيف العرش؟! فلا شك أن البشرية كلها، بل إن الأرض كلها لا تساوي شيئًا يذكر بجانب العرش، ومع ذلك فإن هذا العرش بعظمته قد اهتز مرة، لقد اهتز هذا العرش لموت رجل من صحابة النبي ، لقد اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ، وشيعه عدد كبير من الملائكة، لم يجد النبي موضعًا يسير فيه إلا على أطراف قدميه ، فيا ترى ماذا فعل سعد ليستحق كل هذا التكريم؟!
لا شك ـ يا عباد الله ـ أن لهذا الرجل مواقف عظيمة، ولكني سأقتصر على ذكر ثلاثة مواقف فقط من مواقفه، فقد كان له مع قريش موقف، ومع اليهود موقف، ومع قومه موقف:
وأبدأ مع موقفه المشرف مع قومه: أخرج ابن إسحاق في السيرة قال: لما أسلم سعد وقف على قومه فقال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا نقيبة، قال: فإن كلامكم علي حرام رجالكم ونساؤكم حتى تؤمنوا بالله ورسوله، قال: فوالله، ما بقي في دار بني عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا أسلموا.
ونخرج من هذا الموقف بدرس عظيم وهو أن يهتم المرء بدعوة أقاربه وإصلاحهم كما قال تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214]، ويتوجب الأمر أكثر في حق من كانت له مكانته عند أقاربه وقومه.
أما موقفه مع قريش: فإن قريشًا قد بلغها إسلام سعد، وقد تأثرت قريش لإسلام سعد، ففضلاً عن صداقته مع بعض زعمائهم قبل الإسلام، ظلت قريش تكن له العداوة منذ أسلم، وظل بعض رجالاتها ينتظرون الفرصة للقضاء عليه، حتى كانت غزوة الأحزاب رماه حبان بن العرقة بسهم في أكحله وهو يقول: خذها مني وأنا ابن العرقة، فرد عليه سعد: عرّق الله وجهك في النار، ثم قال: اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لها، فإنه لا قوم أحبّ إلي أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا نبيك وكذبوه وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني قريظة، ويقصد ببني قريظة اليهود. ولقد استجاب الله دعوة سعد ، فما قدمت قريش إلى المدينة بعد الأحزاب، واندمل جرحه حتى مكنه الله من رؤية ما قرت به عينه لبني قريظة، ثم انفجر الجرح ونزف الدم، وكانت الشهادة لسعد بعد حكمه في بني قريظة. فما هو موقفه مع اليهود؟
أخرج البخاري ومسلم أن بني قريظة حين نقضوا العهد وحاصرهم الرسول نزلوا على حكم رسول الله ، فأرسل إلى سعد فجيء به محمولاً على حمار وهو متعب من جرحه، فقال له الرسول : ((أشِر عليّ في هؤلاء))، قال سعد : إني أعلم ـ يا رسول الله ـ أن الله قد أمرك فيهم بأمر أنت فاعله، قال الرسول : ((أجل، ولكن أشِر))، قال سعد : لو وليت أمرهم لقاتلت مقاتلتهم وسبيت ذراريهم، فقال : ((والذي نفسي بيده، لقد أشرتَ عليّ فيهم بالذي أمرني الله به)).
لقد كان سعد أعرف الناس باليهود، وإن قومًا نكثوا عهدهم في أحلك الظروف ومع خير البرية لا ينفع فيهم إلا قطع الرؤوس، وقد كان حكم سعد موافقا لحكم الله من فوق سبع سماوات، وهذا الذي أقره النبي ونفذه.
وما أحوج الأمة اليوم إلى رجل بل رجال أمثال سعد يتعاملون مع اليهود بما يستحقون، فسعد لم يكن مجاملاً لليهود على حساب دينه، وكذلك لم يكن مجاملاً لأصدقائه من زعماء قريش، بل حتى لم يكن مجاملا لقومه وأهله، فصدع بالحق ولم يخش في الله لومة لائم، فاستحق لذلك أن يهتز عرش الرحمن عند موته.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|