أما بعد: فيا أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وامتثلوا أمره ولا تعصوه، وتقربوا إليه جل وعلا بالأعمال الصالحة، وبادروا أعماركم بالتوبة والإنابة ولاستغفار.
أيها الإخوة المؤمنون، كثير من الناس يشتكي قلة الرزق وقلة ما في اليد وتراكم الديون وكثرتها، كثير من الناس يشتكي عدم كفاية الدخل ويعاني من ضنك العيش، فتجده يتضجر في المجالس ويشتكي إلى فلان وعلان من الذين لا يملكون له رزقًا، ويغفل هذا وأمثاله عن أسباب الرزق الشرعية التي جاء بها الدين وذكرها الله في كتابه المبين وبينها النبي في سنته المطهرة.
أيها الإخوة المؤمنون، إليكم طريقة هامة والتي تكون سببًا بإذن الله تعالى لسعة الرزق ووفرته وعدم الحاجة والنظر إلى ما في أيدي الناس. إنها سبب شرعي متى عملها الإنسان ووافقت إخلاصًا وصدقًا منه فإنها تكون سببًا لسعة رزقه وكثرة ماله. طريقة عملية وسهلة لزيادة المال والسعادة. نعم، طريقة مجربة أدعو الجميع تجربتها ويجني نتائج التجربة بأسرع وقت.
ربما استغربتم ذلك يا عباد الله، إنها ـ والله ـ حقيقة مجربة وثابتة، أنا لن أتحدث بلغة الموظفين ذوي الدخل المحدود، بل بلغة رجال الأعمال ولغة تجار السوق العالمية للاستثمار، ولكن من مدخل مختلف تمامًا، وأقوى من مدخل السوق العالمية، ربما ستدهشون من كلامي، ولكن التجربة خير برهان، طريقة سهلة تزيد من راتبك ودخلك، وتجعلك من أهل الثراء، صاحب عمارات وفلل وأراضي وأملاك. لا زلتم تنتظرون؟! نعم، هذه الطريقة تجارة تسويق، كلما سوقت أكثر ربحت أكثر، وهي شرعيًا حلال مائة بالمائة إذا كانت ضمن شروطها، وهي ممتعة وسهلة ومن بيتك، وربما برأس مال قليل جدًا.
إليكم هذا السر، السر الذي من خلاله تكسب الملايين والأراضي والأملاك يا إخوة الإيمان، إن السر ليس بالصعب، كلنا يعرفه، وليس من باب التجريب على الله، إنما ثقة بوعد الله، فالله عز وجل حين يقول أمرًا في القرآن يكون وعدًا منه، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 9].
أكيد أنكم تنتظرون بفارغ الصبر ذلك السر العجيب. السر هو في قوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [سورة نوح: 10-12]. إذا استغفرت الله فأنت قد علمت أن لك ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب فخفت واستغفرت، وقد وعدك ووعده الحق، فقال: استغفروا يا عبادي، وسأغفر لكم، وباستغفاركم سأرسل السماء عليكم مدرارًا حتى ترتووا وترتوي دوابكم، ومن يحب المال فسأمده بالمال وليس المال فقط، من يحب البنين فسأمده كذلك بالبنين، وليس بالبنين فقط، ومن يحب الأراضي والأملاك والمزارع والجنان والعقار، فكل ذلك مرتبط بالاستغفار.
نعم، أصغ سمعك إلى قصة هؤلاء الذين جربوا هذه التجربة، جاء رجل إلى الحسن البصري يشكو إليه الجذب والقحط، فأجابه قائلاً: استغفر الله، ثم جاءه رجل آخر يشكو الحاجة والفقر، فقال له: استغفر الله، ثم جاءه ثالثُ يشكو قلة الولد، فقال له: استغفر الله، فعجب القوم من إجابته، فأرشدهم إلى الفقه الإيماني والفهم القرآني والهدي النبوي، وتلا قول الحق جل وعلا: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا.
تأمل ـ أخي المسلم ـ إلى هذا الفهم والفقه واليقين في إجابة هذا الإمام من أئمة التابعين، ليس قولاً مجردًا ولا فلسفةً ولا هرطقة، وإنما يقين ومعرفة وتجربة وتوكل واعتماد على الله سبحانه وتعالى. فهل فكرت يومًا عندما يصيبك همٌ أو غمٌ أو عندما تقع في مشكلةِ ومعضلة، هل فكرت في أن المخرج هو مد الحبال إلى الله عز وجل دعاءً وتوسلاً واستعانة وخفض الجبهة وتمريغها ذلاً وخضوعًا واستغفارًا واستكانة؟! هل عرفنا مثل هذا النهج الذي كان عليه أسلافنا في واقع حياتهم؟! تأمل كيف رأى الحسن البصري هذه الآية ورأى صدقها يقينًا في واقع الحياة، فأرشد المسترشد وأجاب السائل إجابةً موجزةً إيمانيةً واقعيةً لمن أيقن بها وصدقها، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا.
الخير عند الله في السماء يمسكه عن الناس لذنوب أحدثوها وفضائع وجرائم ارتكبوها، ولولا شيوخ ركّع وأطفال رضع وبهائم رتع ومن يدعو الله عز وجل لحرم الناس القطرة، ولأصيبوا بالسنين والجدب، ولأنزل الله عز وجل عليهم السخط والعذاب. من أين لك ـ يا حسن البصري ـ مثل هذا الفقه؟! لقد تلقاه من صحابة رسول الله الذين أخذوا عن النبي عليه الصلاة والسلام، الذي ترجم لهم القرآن ترجمة عملية.
فهذا الحديث يكشف لنا عن سرّ من هذه الأسرار، وهو من رواية عليِ بن أبي طالبِ، قال: كان الرجل يحدثني فأستحلفه على حديث رسول الله ، وحدثني أبو بكرِ رضي الله عنه وصدق أبو بكرِ، قال أبو بكرِ: سمعت رسول الله يقول: ((ما من رجلِ يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له))، ثم تلا عليه الصلاة والسلام قول الحق جل وعلا: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران: 135].
هذه الآية القرآنية، وهذا هو التقريب والتفهيم النبوي، وهذه هي الرواية الصحابية، وذلك هو الفهم التابعي، وتلك هي الحياة الإسلامية التي تربط بالله سبحانه وتعالى، وتدرك أن الأمور كلها مغاليقها ومفاتيحها وأسبابها ومنعها بيد الله سبحانه وتعالى.
فانظر ـ رعاك الله ـ إلى آثار هذا الاستغفار في دفع الرزايا والبلايا والمشكلات والمعضلات الدنيوية، وانظر إلى الأثر الذي ثبت في هذا الحديث من أثر الاستغفار في محو الذنوب والآثام وصقلها وإزالتها من صحائف المسلم بإذن الله عز وجل. فإذا نحن في باب عظيم من أبواب نعم الله عز وجل، وفي رحمةٍ واسعةٍ من رحمات المولى سبحانه وتعالى. فأين نحن منها؟! وأين فقهنا لها؟! وأين ارتباطنا بها؟! وأين عملنا بمقتضياتها؟! فوائد كثيرة ومنافع عديدة تفوتنا، نفرط فيها، ونغفل عنها ونتجاهلها، تعصف بنا رياح الفتن، وتمر بنا زينة الدنيا، ونغرق في أوحال الشهوات، ونتعثر في المعاصي والسيئات، وننسى أحبال النجاة وسبل السلامة التي جعلها الله عز وجل قريبة منا، وساقها إلينا وأهداها لنا لتظل القلوب موصولة به، لتظل الدموع تذرف خوفا وتضرعا وخضوعا، لتظل الجباه تسجد تضرعا واستكانة لله سبحانه وتعالى، ليظل عند المسلم سلاح من الله سبحانه وتعالى يستعين به على أمور دينه ودنياه.
أثر عظيم من الآثار لهذا الاستغفار ورد في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وهو عند الحاكم والطبراني بسندِ حسن، أن رسول الله قال: ((يقول إبليس لله عز وجل: بعزتك وجلالك لا أبرح أغويهم ما رأيت الأرواح فيهم)). هذه مهمته وهذا قسمه الذي خلده القرآن بأن يغوي بني أدم: ((بعزتك وجلالك لا أبرح أغويهم ما رأيت الأرواح فيهم، فيقول الحق جل وعلا: فبعزتي وجلالي، لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني)). فهذا السلاح رد لكيد الشيطان في نحره، وإغاظة له بفضل الله سبحانه وتعالى الذي ساقه لعباده المؤمنين وحرم منه ذلك الإبليس اللعين، الذي تكبر عن الخضوع والذلة والصغار والاندحار لله رب العالمين.
فأنت كلما استغفرت الله عز وجل كأنما تسدد سهما أو تضرب بسيف بتار في إبليس عليه لعنة الله عز وجل، فلا يصيب من المؤمن غرةً أو سهوةً أو غفلةً حتى يتذكر القلب المؤمن، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201]. هذه اليقظة الإيمانية تدعوك إلى الاستغفار، تدعوك إلى أن تواجه هذا الشيطان اللعين بهذا العطاء الرباني وتلك المنحة الإلهية التي خص الله سبحانه وتعالى به عباده المؤمنين.
وأثر رابع عظيم ينتظره الإنسان في وقتٍ يكون فيه أشد احتياجًا إلى ما ينفعه بين يدي الله عز وجل، في وقتٍ تنقطع فيه الأسباب وتنعدم فيه الإعانة، يحتاج حينئذٍ إلى ذلك الاستغفار الذي لهج به لسانه وخفق به قلبه وظهر على سمته وخضوعه وخشوعه وخشيته من ربه، هذا حديث الزبير أخرجه الطبراني في الدعاء بسندٍ حسن والبيهقي بسند لا بأس به، عن رسول الله أنه قال: ((من أحب أن تسره صحيفته فليكثر فيها من الاستغفار))، من أحب أن تسره صحيفته يوم القيامة فليكثر فيها من الاستغفار. وعند ابن ماجه بسندِ صحيح والنسائي في عمل اليوم والليلة بسند صحيح أيضا عن عبد الله بن بسر رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا)).
كل ذلك من أقوال سيد الخلق ، وانظر إلى تطبيقه العملي، فهذا حديث السنن يروي فيه الصحابة أنهم كانوا يعدون للنبي في المجلس الواحد أنه يقول: ((أستغفرك وأتوب إليك)) في المجلس سبعين مرة، وفي بعض الروايات: مائة مرة. وفي حديث الرسول أنه قال: ((إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة))، وفي بعض الروايات: ((مائة مرة)).
فلو تذكرنا ـ أحبتنا الكرام ـ هل نستغفر في يومنا وليلتنا مثل هذا العدد؟! وهل استغفارنا لو استغفرنا بقدر هذا العدد مثلُ استغفار رسول الله ؟! وهل حاجتنا ونحن مثقلون بالذنوب والخطايا مثل حاجة رسول الله للاستغفار وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فقد كان عليه الصلاة والسلام دائما في عبادة وتقرب وتضرع لله عز وجل وازدياد في الخير، فيستغفر أن لم يكن زاد في الخير لا يستغفر من ذنبِ وقع فيه. وقال بعض أهل العلم في هذا أيضا: "إنه السهو الذي ليس فيه عمل باطل، لكنه يستغفر أن لم يشغل كل وقت بطاعة وذكر واستغفار وتهليل وتسبيح لله عز وجل، وقيل أيضًا: إن هذا الاستغفار منه تشريع لأمته وتعليم لهذه الأمة التي يمتد أمدها إلى قيام الساعة أن تعلن دائما أنها ذات أوبة ورجعة إلى الله عز وجل، وأنها ذات طلب واستجداء واستعانة بالله سبحانه وتعالى. وذكر في ذلك أيضا قول آخر وهو أن استغفاره استغفار لأمته؛ فإنه كان عليه الصلاة والسلام دائم الدعاء لأمته ودائم السؤال لربه في حق أمته". وقد جاء قول الحق سبحانه وتعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد: 19]، فهذا رسولنا يقول: ((إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة)). وهذا التطبيق العملي يجعل القلب في انصقالٍ دائمٍ وفي حياةٍ وارتباطٍ قوي بالله سبحانه وتعالى.
وانظر كذلك إلى الأثر العظيم المهم من آثار الاستغفار، وهو دفع العذاب ورفع المصائب، مصداقًا لقول الله عز وجل: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: 33]. وقد ورد في معنى ذلك آثار وأحاديث فيها ضعف، لكن المعنى الذي في الآية واضح، بين أن الاستغفار من أسباب رفع العذاب وعدم نزول نقمة رب الأرباب سبحانه وتعالى. وهذا رسولنا يبين هذا في حديث صحيح عظيم يخطئ بعض الناس فهمه ويسيئون تصوره واستخدامه، وهو حديثه عليه الصلاة والسلام الذي يقول فيه كما في صحيح مسلم: ((والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا فتستغفروا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر الله لهم)). ليس في الحديث دعوة لمقارفة الذنب والاستغفار من بعد، وإنما في الحديث تصوير لطبيعة الإنسان في غفلته ووقوعه في زلته، وطبيعة ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن إذا وقع في الخطأ أن يبادر بالاستغفار؛ فإن لم يفعل ذلك لم يكن متحققًا بمعنى العبودية، لم يظهر مظاهر التذلل والخضوع، لم يبتهل لرب الأرباب، لم يعظم ربه سبحانه وتعالى، لم يعرف حقيقة أسماء الله الحسنى: التواب الغفار الرحيم إلى غير ذلك من أسمائه العظيمة الجليلة الحسنة، فلذلك جعل الله عز وجل بتبليغ رسوله أن الغفلة عن هذا الاستغفار مع ما هو مقرر من طبيعة وقوع العبد في الغفلة أنها نوع مما يستحق به العقاب، ونوع مما يظهر جحود أولئك القوم الذين لم يقروا ولم يظهروا ولم يبرزوا عبودية الله.
ألا ترى شعائر الإسلام وهي تعلن العبودية لله وتظهر تذلل العباد لله في صلاة الاستسقاء في الصلوات الخمس في غيرها من الأمور التي يريد الله عز وجل ويحب أن يظهر تذلل عباده له وتضرعهم إليه وابتهالهم وافتقارهم إلى ما عنده سبحانه وتعالى.
وأثر سابع أيضا يتعلق بهذا القلب الذي كثر فيه في هذا العصر الظلمات وتكالبت عليه الشبهات وغشيته الشهوات وتزينت له المحرمات وواجهته كثيرٌ وكثير من الفتن العظيمة، كيف نحافظ على وضاءته؟ كيف نحسن صيانته؟ أخبرنا النبي فيما أخرجه الترمذي وحسنه من حديث أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: ((إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه)) أي: جاء أثرها من سوادها وظلمتها وانعدام تأثر القلب بالآيات وانعدام تأثر القلب بالمواعظ والشواهد الحية في واقع الحياة، ((فإن نزع واستغفر صقلت، فإن عادت زيد فيها حتى تعلو قلبه، وذلك الران الذي قال الله عنه: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المطففين: 14])). فهذه فائدةُ عظمى.
من فوائد هذا الاستغفار أيضا، فنحن عندما نتأمل في هذه النصوص وفي تلك التطبيقات العملية في حياة رسول الله وأصحابه الكرام، على ما كانوا عليه من الفضل والسبق في أعمال الخير، وعلى ما كانوا عليه من الترفع من الدنايا والبعد عن الخطايا والبكاء على الذنوب ودوام التوبة والاستغفار، رأينا سوء حالنا وأدركنا خطر وضعنا، فنحن الذين نكثر الذنوب وكأنا قد أمنا العقوبة عليها، ونلهو ونسهو عن التوبة والاستغفار وكأننا قد استغنينا عنها. وهذا الحسن البصري يخاطبنا مرةً أخرى، ويقول مخاطبًا لذلك الجيل الذي كان فيه، ولذلك العهد لذي كان فيه من الخير والصلاح ما فيه، يقول: "لقد أدركت أقوامًا ـ يعني الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ـ كانوا أخوف أن لا تقبل منهم حسناتهم منكم من أن تحاسبوا على سيئاتكم". يقصد الذين يحدثهم، لستم في خوف من المحاسبة على السيئات وأنتم تعلمونها وأنتم ترونها وأنتم تقعون فيها، وقد كان القوم من قبلكم قد أمنوا هذا؛ لأنهم لم يقعوا في تلك المعاصي، ولكنهم عندهم خوف أعظم وهو أن لا تقبل منهم الحسنات، فأين نحن من هذه القلوب الحية والمواقف التي كانت في سير أسلافنا رضوان الله عليهم؟! بل أين نحن من أمر أعظم وأجل من هذا؛ أين نحن من هذه الرحمة الواسعة والنعمة العظيمة التي يقدمها الله لنا ويسوقها إلينا ثم نغفل عنها؛ كأننا لا نعظم ربنا، كأننا لا نفتقر إليه، كأننا لا ندرك عبوديتنا له سبحانه وتعالى، كأننا قد أدبرنا بظهورنا وأعرضنا بغفلتنا وسهونا وشهواتنا عن باب ربنا الذي فتحه لنا وعن دعائه الذي دعانا إليه من الاستغفار والتوبة الدائمة إليه؟! ولذلك قد قال أهل العلم في معنى هذه الأحاديث: إن الله عز وجل قد فتح الباب لعلمه بطبيعة العبد، وأنه يحتاج إلى ذلك الاستغفار؛ فإنه قد ورد في الصحيح عند الإمام مسلم: ((إن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: يا رب، أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال الله عز وجل لملائكته: علِمَ عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويؤاخذ به فاستغفرني، أشهدكم أني قد غفرت له، ثم أذنب ذنبا فقال: يا رب، أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال الله عز وجل: علم عبدي أن له ربًّا يغفر الذنب ويؤاخذ بالذنب أشهدكم أني قد غفرت له، ثم ثالثة فيعاد القول: فليعمل عبدي ما شاء فإني أغفر له))، وفي الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لقيتك بقرابها مغفرة)).
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه من جود كفيك ما علمتني الطلب
وهذا مصداق قول الله عز وجل في قصة آدم أن الله عز وجل هو الذي علّمه الكلمات: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ [البقرة: 37]، علّمه الاستغفار حتى يغفر له، فضل من الله سبحانه وتعالى عظيم، لماذا؟ لأنه يعلم طبيعة الإنسان وغفلته وما يقع منه من سهو، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك: 14].
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، وبارك لنا في سنة سيد المرسلين، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجرنا من العذاب الأليم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان عليمًا غفورًا.
|