أما بعد: فاتقوا الله سبحانه، واعلموا أنه لا ينجِّيكم من عذاب الله إلا أن تجعلوا بينكم وبينه تقاة؛ بفعل أوامره واجتناب نواهيه.
أيها المؤمنون، نتحدّث اليوم عن رجل لا كالرجال, وفذٍ لا كالأفذاذ، رجل يكفيه أنه صاحب رسول الله، إنه عظيم القدر، رفيع المنزلة، كان رابع أربعة دخلوا في الإسلام، إنه أمير البرَرَة وقتيل الفجرة، مخذولٌ من خذله، منصورٌ من نصره، إنه صاحب الهجرتين وزوج الابنتَين وذو النورين، أمّه أروَى عمّة رسول الله ، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أصحاب الشورى، إنه عثمان الخير، إنه عثمان الحياء، إنه عثمان الصدق والإيمان، إنه عثمان البذل والتضحية بالنفس والنفيس، إنه عثمان بن عفان، أمير المؤمنين، وثالث الخلفاء الراشدين.
كان عثمان ـ أيها الناس ـ من أجمل الرجال وجهًا، وأحسنهم شكلاً، معتدل القامة، كبيرَ اللّحية.
عباد الله، لقد جمع الله لعثمان من الفضائل والمكارم ما جعله بحقٍّ أن يكونَ في الدرجة الثالثة في الإسلام بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد تزوّج بنت رسول الله رقية رضي الله عنها، فلما توفيت زوَّجَه رسول الله أمّ كلثوم، فتوفيت أيضًا في صحبته، فقال رسول الله : ((لو كان عندنا أخرى لزوّجناها عثمان)). قال الحسن البصري: "إنما سُمِّي عثمان ذا النورين لأنه لا نعلم أحدًا أغلق بابه على ابنتي نبيّ غيره".
وعن أبي موسى الأشعري قال: كنت مع النبي في حائطٍ من حيطان المدينة ـ أي: بساتينها ـ، فجاء رجل فاستفتح ـ أي: استأذن بالدخول ـ، فقال النبي : ((افتح له وبشّره بالجنة))، ففتحت له فإذا أبو بكر، فبشرته بما قال النبي ، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي : ((افتح له وبشره بالجنة))، ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي ، فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: ((افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه))، فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله ، فحمد الله ثم قال: الله المستعان. متفق عليه.
ولما صعد رسول الله الجبل جبل أحد ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف ـ أي الجبل ـ، فقال : ((اسكن أحد، فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان)) رواه مسلم.
ومن مآثر عثمان ـ يا عباد الله ـ أنه كان صاحب ثروةٍ عظيمة وجاهٍ في قريش، لكنه لم يسلط هذه الثروة الطائلة في احتقار الآخرين والاستعلاء على عباد الله المؤمنين، لكنه استعملها في مرضاة الله، في الإنفاق في سبيل الله، فقد كان يبذل البذل العظيم لنصرة هذا الدين، فقد أخرج الترمذي عن عبد الرحمن بن خباب قال: شهدت النبي وهو يحثُّ على جيش العسرة، فقال عثمان بن عفان: يا رسول الله، عليّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حضّ رسول الله على جيش العسرة مرة أخرى، فقال: يا رسول الله، عليّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حضّ رسول الله على الجيش، فقال عثمان: يا رسول الله، عليّ ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فنزل رسول الله وهو يقول: ((ما على عثمان ما عمل بعد اليوم)).
وهو الذي اشترى بئر رومة حيث قال رسول الله : ((من يشتريها من خالص ماله فيكون دلْوُه فيها كدلاء المسلمين وله خير منها في الجنة؟)) قال عثمان: فاشتريتها من خالص مالي.
عباد الله، ها هو عثمان رضي الله عنه كما في الموقفين السابقين يعلن للدنيا وظيفة المال الحقيقية ودوره الأكرم، فسابق به تجارةً رابحةً مع الله، ويُلغي من حسابنا اللّهثَ وراء ماديات الحياة وجمعَ المال كذبًا أو زورًا أو اختلاسًا أو غشًّا أو سرقة أو خداعًا أو رِبا، ويذكرنا بأنّ المال مالُ الله ولو احتوته منّا الخزائن. ولا بد أن نعلم ـ يا عباد الله ـ أننا في حاجة إلى أموالنا في الآخرة أشدّ من حاجتنا إليها في الدنيا، غدًا نتوزّع نحن وأسرنا في زوايا وحفر الأرض، كل سَيُرتَهَن في حفرته، الأب في حفرة، والابن في حفرة، والأم في حفرة، والأخ في حفرة، والأخت في حفرة، ألسنا في حاجة إلى أقلّ القليل من الأجر في تلك الحفرة؟! ألسنا في حاجة إلى أموالنا إذا تمزقت منا الأوصال وتباعد منا المقترب وتفرّق منا المجتمع واتّحد علينا الليل والنهار ونسينا المعارف؟! عثمان رضي الله عنه اشترى الجنّة من رسول الله مرتين، فكم مرة اشترينا نحن الجنة؟ يكون ذلك بدعمٍ في سبيل الله، أو كفالة يتيم، أو مواساة مسكين، أو كسوة لعارٍ، أو إطعامٍ لجائع، أو برٍ بأقارب، أو إجابةٍ لسائل؟!
أيها المؤمنون، لم يكن عثمان سباقًا في مجالات الجهاد بالمال والنفس فحسب، بل لقد كان عابدًا خاشعًا خائفًا من الله، لا يملُّ من قراءة القرآن، فقد روي عنه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود أيام الحج، وقد كان هذا دأبه رضي الله عنه، ولذلك قال ابن عمر في قوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ [الزمر: 9]: (هو عثمان بن عفان)، وقاله ابن عباس في قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل: 76].
ومن أقواله رضي الله عنه: (إن قلوبنا لو طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي علي يوم لا أنظر في المصحف).
وكان رحيمًا بأهله ويخدمهم، فكان إذا استيقظ من الليل لا يُوقظ أحدًا من أهله ليعينه على الوضوء إلا أن يجده يقظانًا، وكان يعاتَب في ذلك، فيقال: لو أيقظت بعض الخدم، فيقول: لا، الليل لهم يستريحون فيه. فأين بعض الناس من هذا الخُلُق حينما يظلمون الخَدَم والعمال ويكلفونهم ما لا يطيقون؟!
وإن أعظم منقبة سُجّلت لعثمان ولا ينساها التاريخ له أبدًا، بل لا ينساها أهل الإسلام أبدًا؛ ألا وهي جمعه الناس على حرفٍ واحد، وكتابة المصحف على العرضة الأخيرة التي درسها جبريل مع رسول الله في آخر سنيّ حياته، فرضي الله عن عثمان وجمعنا به في جنات النعيم.
قلت ما قد سمعتموه، واستغفروا الله العظيم.
|