أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأخلِصوا له دينكم، وأحسِنوا عمَلكم؛ فلا حاجةَ لله تعالى عندكم، إنما خلقكم ليبتَليَكم، تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك: 1، 2].
أيها الناس، دين الله تعالى واحد، وهو الحقُّ والنور والهدى، والصراط المستقيم الذي يوصِل إلى رضوانه والجنة، وأديان الشيطان كثيرة، وهي الباطل والضّلال والظلمات، وهي ما عدا الحقّ الذي فرضه الله تعالى على عباده، وبلَّغته رسله عليهم السلام؛ ولذا جاء صراط الله تعالى في القرآن مفردًا، كما جاء النور مفردًا، وجاءت الظلمات بصيغة الجمع، كما جمعت سبُل الباطل، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ [الأنعام: 1]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: خطَّ رسول الله خطًّا بيده ثم قال: ((هذا سبيل الله مستقيما))، قال: ثم خط خطوطًا عن يمينه وشماله، ثم قال: ((هذه السبل، ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه))، ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام: 153] رواه النسائي وأحمد وصححه الحاكم.
وهكذا طوال تاريخ البشرية كانت الرسل عليهم السلام يهدون الناسَ إلى سبيل الله تعالى الذي ارتضاه لهم، وكانت الشياطينُ تَحرِفهم عن ذلك السبيل إلى سبل أخرى تكون سببًا في ضلالهم وانحرافهم، ولا تكاد تحصَى الديانات والأفكار الباطلة التي دان ولا يزال يدين بها أكثر البشر.
ولما بعث الله تعالى موسى عليه السلام دانَت بنو إسرائيل بدين الحق، ثم غيَّروا الدينَ بعده، وحرّفوا التوراة، فبعث الله تعالى عيسى عليه السلام مصدِّقا لدين موسى عليه السلام، ومبشِّرًا ببعثةِ محمّد ، فدان الحواريّون وأتباعُهم بدين الحق، حتى أدخل شاؤول اليهوديّ الشركَ في عقيدة النصارى، ونقلهم من التوحيد والهدى إلى التثليث والضلال، فبعث الله تعالى محمّدًا عليه الصلاة والسلام مصدِّقا لرسالات مَن قبلَه من الرسل عليهم السلام، وخاتمًا للنبوة فلا نبيَّ بعده، وقضى الله تعالى أن يبقَى دينه إلى آخر الزمان، وأمّا أمته فمنهم من يُهدَى لدينه الذي ارتضاه الله تعالى، ومنهم من يضلّ إلى أديان أخرى.
ومن دان بدينه عليه الصلاة والسلام وهو دين الإسلام مِنهم مَن ثبت على الدّين الحق، ملتزما بالكتاب والسنة، مهتديًا بهدي السلف الصالح من الصحابة وأتباعهم، ومنهم من انحرف إلى بدعةِ مكفِّرة أو مفسِّقة، فأحدث في الإسلام ما ليس منه، وهؤلاء يسمَّون أهل القبلة.
إنَّ الله سبحانه لما أهبَط الأبوين عليهما السلام من الجنة وكلّفهما وذريَّتهما بالدين أقسم إبليس بعزة الله تعالى ليصرفنَّ ذرية آدم عن دينه الذي ارتضاه الله تعالى، ولما كان محمد عليه الصلاة والسلام خاتمَ الرسل قضى الله عز وجل ببقاءِ دينه إلى آخر الزمان وسلامته من التحريف والتبديل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر: 9]. وأما أفراد الأمّة فليسوا معصومين من الحيدَة عن دين محمد ، أو إدخال شيء فيه ليس منه، أو إخراج ما هو منه، فيَضِلّ بسبب ذلك من يَضِلّ، ويبقى على الدّين الحق من عصمه الله تعالى من الضلال، وهكذا الحال إلى آخر الزمان.
ومحاولات تحريف الإسلام وإدخال عقائد وأفكار فيه ليست منه بدأت مبكِّرة في آخر الخلافةِ الراشدة، وأراد عبد الله بن سبأ اليهودي المنافِق أن يقومَ في الإسلام بذات الدّور الذي قام به سلفه شاؤول في النصرانية، فأحدث ابن سبأ وأتباعُه الخروجَ على عثمان رضي الله عنه، واستتبَعوا ذلك بالغلوّ في آل البيت، وزعموا التشيّعَ لهم، فأظهروا محبّتَهم، ثم غالوا في عليّ رضي الله عنه، وادّعوا العصمة له، ثم زعموا النبوةَ فيه، حتى وصل بهم غلوُّهم إلى خلع صفاتِ الربوبية عليه وعلى زوجه وولده رضي الله عنهم، مع طعنهم في بقية الصحابة رضي الله عنهم إلاّ عددًا قليلا منهم، وسبِّهم للخلفاء الثلاثة الذين رضي الله عنهم ومات رسول الله وهو راض عنهم.
ثم لما بذر هؤلاء المنافقون بذرةَ الخلاف بين المسلمين وسقوها بالأكاذيب والشائعات وغذَّوها بالضغائن والأحقاد وأوقعوا الخصومة بينهم كانوا هم أوّلَ من تخلّى عن عليّ وابنَيه الحسن والحسين رضي الله عنهم، وخانوهم أعظمَ خيانة، حتى قتِل الحسين رضي الله عنه ظلمًا وعدوانا بسبب خيانةِ من زعموا التشيّعَ له، وجعل أولئك الخونةُ وأتباعهم يومَ مقتله يومَ مناحة ولطمٍ وبكاء وإحياء للضغائن وسبٍّ لأولياء الله تعالى من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. ثم انشطروا في ضلالهم إلى مذاهبَ عدّة وفرق كثيرة، يلعن بعضها بعضا، وتزعم كلُّ فرقةٍ منها أن الحقَّ معها دون غيرها، جمعتهم بدعة الغلوّ في آل البيت، ثم فرقتهم تلك البدعة، ومنهم من أخرجتهم بدعتهم من الإسلام إلى الكفر، ومنهم دون ذلك، ويكون قربهم من الإسلام وبعدهم عنه بحسب ما تلبَّسوا به من البدعة.
ومن أكبر فرَقِهم الإسماعيليّة والإماميّة الإثنا عشرية، وحكومة بني عبيد الباطنية التي قامت في الشام ومصر في القرن الرابع كانت من الإسماعيلية، وبعد سقوطها على يد صلاح الدين رحمه الله تعالى لم يقم لأتباعِ المذهب الباطني دولةٌ إلا ما كان للبويهيِّين ودولتهم زيدية. ثم الدولة الصفويّة للإثنا عشرية في القرن العاشر؛ وهي أول دولة شيعيّة إمامية، شيّعت إيران بالقوّة، فنقلت نسبتهم من 10 في المائة إلى 65 في المائة.
وقد سعى ابن العلقميّ الرافضي في القرن السابع إلى بناء دولةٍ لهم في بغداد على أنقاض الدولة العباسية بعد خيانته لها، ولم يتمّ له ذلك، فمات كمَدًا بحمد الله تعالى. وتعاقبت الدول المغولية وغيرها على بلاد العراق وفارس، وكانت دولاً سنّيّة فيها جهلٌ وتصوُّف، آخرها دولة للتركمان، زالت في أوائل القرن العاشر على يد إسماعيل بن حيدر الصفويّ، نسبة إلى جدّه صفيّ الدين الأردبيلي الذي كان واعظًا صوفيّا عاش في القرن السابع، وما زال أبناؤه وأحفاده يميلون للتشيّع حتى اعتنقوا المذهبَ الإماميّ الاثنا عشريّ.
فلما آل الأمر إلى حفيده الشاه إسماعيل مؤسِّس الدولة الصفويّة حارب بالتركمان الصوفيّة والمتشيّعين دولتهم السنية، فقضى عليها، فكان أوّل حاكم للدولة الصفوية، وذلك عام سبعة وتسعمائة للهجرة، واتخذ مدينة تبريز الإيرانية عاصمةً لدولته، وأوّل ما حكَمَ أعلن أن مذهب دولته الإمامية الإثنا عشريّة، وأنه سيعمِّمه في جميع بلاد إيران، وعندما نُصِح أن مذهب أهل إيران هو مذهب الشافعي قال: "إنّني لا أخاف من أحد، فإن تنطق الرعيّة بحرف واحد فسوف أمتشق الحسام ولن أترك أحدًا على قيد الحياة". ثم صكّ عملة للبلاد كاتبًا عليها: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله، عليّ وليّ الله"، ثم كتب اسمه، وأمر الخطباء في المساجد بسبّ الخلفاء الراشدين الثلاثة رضي الله عنهم، مع المبالغة في تقديس الأئمة الاثني عشر. وقد عانى أهل السنة في إيران من ظلمه معاناةً هائلة، وأجبِروا على اعتناق المذهب الإماميّ بعد أن قتِل منهم مليون إنسان سنيّ في بضع سنوات بشهادة مؤرّخٍ شيعي.
وظلّ يجتاح بلاد المسلمين حتى انتزع بغداد بعد سبع سنوات من قيام دولته، وكان انتزاعه لها أيضا بخيانة وممالأة من شيعتِها آنذاك. ثم أمر بهدم مدينة بغداد وقتل أهل السنة، وتوجّه إلى مقابر أهل السنة ونبش قبور الموتى وأحرق عظامهم. وبدأ يسوم أهلَ السنة سوء العذاب ثم يقتلهم، ونبش قبر أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وقتل كلَّ من ينتسب لذرية خالد بن الوليد رضي الله عنه في بغداد لمجرّد أنهم من نسبه. وقد أرّخ الشيعة في ذلك الزمان لهذه الحادثةِ حتى قال ابن شدقم الرافضي يحكي سيرته: "فتح بغداد، وفعل بأهلها النواصب ذوي العناد ما لم يسمع بمثله قط في سائر الدهور بأشدِّ أنواع العذاب، حتى نبش موتاهم من القبور".
وقد فرّ كثير من سنّة بغداد إلى الشام ومصر، وحكَوا للعالم الإسلامي ما فعل الصفويّون ببغداد وأهلها، ووصلت أخبار المذابح العظيمة لأهل السنة إلى الدولة العثمانية، فاجتمع السلطان العثمانيّ سليم الأول في عام عشرين وتسعمائة برجال دولته وعلمائِها، وقرّروا أن الدّولة الصفوية تمثّل خطرًا على العالم الإسلامي، وأن على السلطانِ جهادَها وإيقاف ظلمها وتنكيلها بالمسلمين، فحاول السلطان مفاوضةَ الصفويّ إسماعيل، فلما لم يستجب له سار إليه بجيش يقوده السلطان بنفسه قوامُه مائة ألف، وجيش الصفويّ مائة ألف أيضا، فالتقى الجيشان في صحراء جالديران، فهزمه السلطان هزيمةً نكراء، وقتل أكثر جنده، فقضى على حكمه في العراق بعد أن حكمها بالحديد والنار ستَّ سنوات، فما كان من الصفويّ الخبيث وقد أحسَّ بالضعف إلا أن كاتب قائد البرتغال الصليبيّين يطلب نجدتَه على أن يعطيَهم مضيقَ هرمز وفلسطين، فكتب له قائد الصليبيّين رسالة قال له فيها: "إني أقدّر لك احترامك للمسيحيّين في بلادك، وأعرض عليك الأسطول والجندَ والأسلحة لاستخدامها ضدّ قلاع الترك في الهند، وإذا أردتَ أن تنقضَّ على بلاد العرب أو تهاجِم مكّة فستجدني بجانبك في البحر الأحمر، أمام جدّة أو في عدن أو في البحرين أو القطيف أو البصرة، وسيجدني الشاه بجانبه على امتداد الساحل الفارسي، وسأنفّذ له كل ما يريد".
ولكن الله تعالى خذلهم؛ إذ استطاع العثمانيون إفشال مخطَّطهم، وظلوا يتتبَّعونهم سلطانا بعد سلطان حتى بعد هلاك الصفويّ إسماعيل وتولِّي أبنائه من بعده، حتى قضى على دولتهم نهائيا بعد قرنين ونصف من الظلم والعسف.
هذا ملخَّص ما يتعلق بدولتهم، وأما مؤسِّسُها الصفويّ إسماعيل فإنه كان يجمع بين التعصّب المذهبي والغلو والتكفير وبين الدمويّة والتنكيل، وقد نقَل عنه أحد أقربائه أنه أكثر القتلَ حتى قتل ملك شروان، وأمر أن يوضع في قدرٍ كبير ويطبخ، وأمر جندَه بأكله، ففعلوا، وكان لا يتوجّه لبلاد إلا فعل أشياء يندى لها الجبين من قتل ونهب. وكان من دمويَّته أنه ينبش قبور العلماء والمشايخ السنّة ويحرق عظامهم، وكان إذا قتل أميرًا من الأمراء أباح زوجتَه وأمواله لشخص لمن يختار.
ويكفي دليلا على تعصّبه وهمجيّته أنه دعا أمَّه للتشيع وكانت سنيّة حنفيّة، فأبت ذلك، فأمر بقتلها، فقتلت رحمها الله تعالى. وبلغ من طغيانه وجبروته أنه كان يأمر جندَه بالسجود فيسجدون له.
وذكر أحد كبار مذهبهم ودولتهم في هذا العصر أنَّ إسماعيل الصفوي كان ممالئا للإنجليز على الدولة العثمانية، وكان يعاقر الخمرةَ مع قادتهم ويقول لهم: "إنني أفضِّل حِذاء مسيحيّ على أكبر رجالات الدولة العثمانية".
وأكثر المراسم الشاذّة والطقوس الغريبة والممارسات المقزِّزة في المناسبات الدينية لدى المذهب الإثنا عشريّ إنما هي مِن إحداث هذا الخبيث الضالّ، وظلّ أتباعه يمارسونها ويتناقلونها جيلا بعد جيل إلى يومنا هذا، ولا يتَّسع هذا المقام المختصر لعرض ما أحدثه لهم من ضلالٍ على ضلالهم؛ حتى إنَّ عقلاءَ مذهبهم لا يرضَون كثيرا من طقوسِهم، ويرونَ أنها تسيء لمذهبهم في هذا العصر.
ونحمد الله تعالى الذي عافانا مما ابتلاهم به، ونشكره على ما هدانا من الدين الحق الذي هو الرحمة والعدل، ونسأله سبحانه الثباتَ على الحق إلى الممات، إنه سميع قريب.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم.
|