.

اليوم م الموافق ‏24/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا

5177

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

الآداب والحقوق العامة, الفتن, القرآن والتفسير

أسامة بن عبد الله خياط

مكة المكرمة

14/1/1428

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- نعمة الأخوة في الدين. 2- أساس الأخوة الإسلامية. 3- الأمر بالاعتصام بحبل الله والنهي عن التفرق. 4- التحذير من كل ما يخدش الأخوة الإيمانية. 5- تحريم الاقتتال بين المسلمين. 6- سبيل الإصلاح. 7- مفاسد التفرق. 8- الإشادة بمبادرة خادم الحرمين لإطفاء نار الفتنة في فلسطين.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فاتّقوا الله عبادَ الله، واذكُروا أنّه خَلقَكم لعِبادَتِه، فاعبدوه مخلصين له الدّين، فالسّعيد من أخلَص دينَه لله وتابَع رَسولَ الله .

أيّها المسلمون، لقد كان من نِعَم الله العظيمة وآلائه الجميلة نعمةُ الأخوّة في الدين، تلك الأخوّة التي أخبر عنها سبحانه بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]. وجعلها رابطةً أساسُها العقيدةُ وعمادها الإيمان؛ إذِ الإيمان قوّة جاذبةٌ تبعث أهلها على التقارُب والتعاطُف والتوادّ، ولا تنافرَ بين قلوب اجتمعت على إيمانٍ بالله وعمرها حبٌّ شديد لله ولرسول الله . إنّه التآلف الذي أشار إليه عزّ اسمه بقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال: 63]، والذي صوّر رسول الله واقعَه في هذا المثلِ النبويّ المشرق، فقال: ((مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وَتَراحُمِهم وتَعَاطُفِهم كمثَل الجسد؛ إذا اشتَكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجَسَد بالسهر والحمَّى)) أخرجه مسلم في الصحيح.

ذلك أن الله تعالى ـ كما قال بعض أهل العلم ـ قد وثّق صلاتِ المسلمين خاصّة بلُحمةٍ أقوى من النسب، هي وحدة العقيدة بما ينشأ عنها من وجدان مشتركٍ وتآلُف وتعاطُفٍ وتعاون وإخاء؛ لأنّ صلةَ الدم أو الجنس قد يمسّها فتور وهي أشدّ ما تكون قرابة، أما وحدة العقيدة فإنها قرابة قويّة دائمةٌ متجسِّدة، يذكرها المسلمون وهم ينطقون بالشهادتين في سرّهم وجهرهم، ويذكرونها في صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجّهم، ويذكرونها في طاعتهم لله وخضوعهم له واستعانتهم به، ويذكرونها في كلِّ لمحة عين أو خفقة قلب أو تردُّد نفَس.

ولذا جاء في كتاب الله أمرُ الإخوة في الدين بالاعتصام بحبل الله الذي هو دينُ الله في قَولِ حَبرِ الأمّة وترجمَان القرآنِ عبد الله بن العباس رضي الله عنهما[1]، أو الجَماعةُ في قولِ عبدِ الله بنِ مسعود رضي الله عنه[2]، أو القُرآنُ في قولِ غيرهما من السّلف[3]؛ لأنّ الاجتماع حولَ كتاب الله يضمن الأساسَ المتين للوحدة، إذ ليس من الممكِن اجتماع القلوب على غيرِ شيء، وليس من المقبولِ أن تجتمعَ على باطل، بل يجب أن يكونَ اجتماعهم على الحقِّ الذي لا يأتيهِ الباطل من بَين يدَيه ولا مِن خَلفِه، وإذا تَوفَّر لهذا الاجتماعِ دستورُه الذي تلتقِي عندَه القلوب وتنتفِي الأهواءُ فقد سلِم البناءُ واستبان المنهَج واطمأنَّ المسلمون، على أن يكونَ هذا الاعتصامُ بحبل اللهِ مستغرِقًا جميعَ أبناءِ المجتمع المسلم، شاملاً كلَّ أفراد الأمّة المسلمة، لا يتخلَّف عنه شخصٌ واحد، ولا يشذّ عنه صوتٌ، كما قال عزّ اسمه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103].

عبادَ الله، إن استشعارَ هذه النعمة المباركة يستوجب كمالَ العناية بأمرها وتمامَ الرعاية لحقوقها وشدّةَ الحرص على صيانتها من كلِّ ما يعكِّر صفوَها أو يوهِّن عراها أو يصدِّع بنيانها مهما صغُر شأنه وقلَّ ضررُه وضعُف أثرُه؛ ولذا جاء نهي المسلمِ عن الإشارة إلى أخيه بحديدةٍ، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة أنه قال: قال أبو القاسم : ((من أشار إلى أخيه بحديدة فإنّ الملائكةَ تلعنه حتى ينتهيَ وإن كان أخاه لأبيه وأمّه))، وجاء أيضًا نهيُه عن الإشارة إلى أخيه بالسلاح ففي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((لا يُشر أحدكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنّه لا يدري لعلّ الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من النار)). ونُهي المسلم أن يروّعَ مسلمًا، فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنه قال: حدثنا أصحاب محمد أنهم كانوا يسيرون مع النبي ، فنام رجلٌ منهم، فانطلق بعضهم إلى حبلٍ معه فأخذه، ففزع الرجل، فقال رسول الله : ((لا يحلّ لمسلم أن يروّع مسلمًا)).

ثم انتقل من ذلك إلى النهي عمّا هو أعظم من ذلك خطرًا وأشدّ ضررًا، وهو الاقتتال بين الإخوة في الدين؛ لأن هذا الاقتتال دليل صارخٌ على التنكّر لهذه الأخوّة والجحود لهذه النعمة، ولأنّه فعلٌ مشابهٌ لفعل الكفار الذين يضرب بعضهم رقاب بعض، فقال عليه الصلاة والسلام في خطبة يوم النحر بعد أن ذكّرهم بحرمة ذلك اليوم وحرمة البلد الحرام والشهر الحرام، قال: ((فإنّ دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحرمة يومِكم هذا، في شهركم هذا، في بلدِكم هذا، حتى تلقوا ربّكم، ألا هل بلّغتُ؟ اللهمّ اشهد، ألا فلا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض))، قال ابن عباس رضي الله عنهما: والذي نفسي بيده، إنها لوصيّتُه لأمّته: ((لا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقابَ بعض)) أخرجه البخاري في صحيحه. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((كلُّ المسلم على المسلمِ حرَامٌ: دمه ومالُه وعِرضُه)) الحديث.

ولما كانت بواعثُ التنازع بين المؤمنين كثيرةً يصعب وقفها ومنعُ تأثيرها بصفةٍ دائمة فقد شرع الله سبيلَ الوقاية التي تحجز الإخوةَ في الدين عن التنكّر لهذه الأخوّة، وتدرأ عنهم سوءَ العاقبة المترتّبة على ذلك، فأمرهم بالاحتكام إلى كتاب ربهم وسنّة نبيّهم صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنّه الطريقُ الذي يبلغون به الآمالَ ويدركون به المُنى ويضمنون به العدالة، فتطمئنّ له القلوب وتذعن له النفوس، فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء: 59].

فإذا حدث بعد ذلك ما يُحذَر منه فاحتدم القتالُ بين المؤمنين فإنّ الله لم يتركهم يفني بعضهم بعضًا، بل بيّن لهم أيَّ مسلكٍ يسلكون وفي أيِّ الدروب يسيرون لوقف الاحتراب وإطفاء نار الفتنة وإعادةِ السلام، فقال سبحانه: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات: 9].

ألا فاتقوا الله عباد الله، واذكروا نعمةَ الله عليكم إذ جعلكم من بعد العداوة إخوانًا، واحرصوا على القيام بحقوق الأخوّة في الدين، وحذارِ من سلوك كلِّ سبيل للفتنة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46].

نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّةِ نبيِّه ، أقولُ قولي هذا، وأستَغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيمُ.



[1] انظر: زاد المسير (1/433).

[2] جامع البيان للطبري (4/30).

[3] انظر: جامع البيان للطبري (4/31)، وزاد المسير (1/432-433).

الخطبة الثانية

إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، اللّهمّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولِك محمد، وعلى آله وصحبه.

أمّا بعد: فيا عبادَ الله، قالَ بعضُ أهلِ العِلم تعليقًا على قول الله تعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ الآية، قال: "إنّ الله يبغِّض إلَينا التفرّقَ والاختلافَ لأنّه أوّلُ الوَهنِ وَبابُ الفَشَل والضَّياع، والفاشِلُ لاَ وَزنَ له في هَذِه الدنيا ولا مكانةَ له في الآخرة، بل إنّه سُبحانه يحذِّرنا من السّيرِ على نهجِ المتفرِّقين أوِ الاقتداءِ بهم لأنّه أعدَّ لهم أسوأَ العقابِ عندَه جَزاءَ تفرُّقِهِم، فقال سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105]. فإذا مَضَينا في طَريق الفُرقةِ وأضَعنا أهدافَ الأمَّة وتقطَّعنا فِرَقًا وأَحزابًا وتمزَّقنا رُؤوسًا وأذنابًا فَإنّ أوَّل ما فَرضَه ربُّنا علينا هو براءَةُ رسول الله منَّا وانفِصالُه عنّا؛ لأنَّ الأمةَ التي دعا إليها وأرادَها لحملِ دعوتِه لا تعرِف الفرقةَ، إنما هِي أمّةٌ واحدة؛ ربُّها واحِد، وكتابها واحدٌ، وصفّها واحِد، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام: 159]" انتهى كلامه.

ألا وإنّ كلَّ سعيٍ لرأب الصّدع وجمع الشمل ووحدة الصفّ وإهالة التراب على بوادر الفتن هو عملٌ صالحٌ مبرور إن شاء الله تعالى، يستحقّ الدعاء والثناءَ. وإنّ من ذلك ما صدر عن وليِّ الأمر في هذه البلاد المباركة من نداء ومبادرةٍ طيّبة نحوَ الإخوة في فلسطين لإطفاء نار الفتنة بينهم وإعادة السلام إلى ربوعهم، فنسأل الرحمن الرحيم ربَّ العرش الكريم أن يباركَ في هذه المبادرة، وأن يتقبّل هذا العملَ، وأن يجعلَه سببًا لكلِّ خير لحقن دماء المسلمين وجمع كلمتهم ووحدة صفِّهم ودرء الأخطار عن ديارهم.

فاتقوا الله عباد الله، وصلّوا وسلِّموا على خاتم رسُل الله محمد بن عبد الله، فقد أمِرتم بذلك في كتاب الله حيث قال الله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].

اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عَبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلفائِه الأربعة...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً