.

اليوم م الموافق ‏03/‏ربيع الأول/‏1446هـ

 
 

 

دروس وعبر من سورة القصص

5174

الإيمان, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ

الإيمان بالرسل, القرآن والتفسير, القصص

صالح بن محمد آل طالب

مكة المكرمة

7/1/1428

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- أهمية النظر في التاريخ. 2- تكرر قصة موسى في القرآن الكريم. 3- أهمية القصص القرآني. 4- تخلي اليهود عن أسباب الريادة. 5- دروس وعبر من سورة القصص. 6- أحداث قصة موسى مع فرعون. 7- فضل صيام عاشوراء.

الخطبة الأولى

أمّا بعد: فأوَّلُ ما يوصَى به وأَولى تقوَى الله في السرّ والنجوى، والتَّقوَى خَيرُ لِباسٍ، فهِي لمن التَزَمَها حبلٌ رفيع وسِياج مَنيع ونجاةٌ وفَوزٌ في الدنيا والأخرَى، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس: 62-64].

أيّهَا المسلِمون، في زَمنِ الابتِلاءات والمحنِ وحِينَ تكثُرُ علَى الأمّةِ الفتنُ ويَتدَاعَى الأكلةُ على القَصعَةِ ويتَسرَّبُ اليأسُ إلى بَعضِ النّفوس تحلُو قراءةُ التّاريخ وتجلُو سُنَنُ الله في الكونِ عَبر قصصِ الأوَّلين وعِبَر السّالفين، ولمَّا استُضعِف المسلمون في مكّةَ وأوذُوا وحوصِروا وتكبَّر المشرِكون بقوّتهم وكَيدِهم أنزَلَ الله تعالى بمكّةَ سورةً تضَعُ الموازينَ الحقِيقِيّة للقوَى والقِيَم والنّصرِ والظَّفَر والعاقبةِ والإِدالة. سورةٌ تقرِّرُ أنَّ هناك قوّةً واحدةً في الوجود، هي قوّة الله، له الخلقُ والأمر، وأنّ هناك قِيمةً واحدةً مطلقة، هي قِيمةُ الإيمان، فمَن كانَت قوّةُ الله معَه فلا خوفَ عليه ولَو كان مجرّدًا من كلّ مظاهرِ القوّة، ومن كانت قوَّة الله عليه فلا أَمنَ له ولا طمأنينةَ ولو سَانَدَته جميعُ القوى. سورةٌ نزلت في زمنِ الضَّعف والقِلّة، بأسلوبٍ قصَصيّ ليس له مثيل. إنها سورَةُ القصَص.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ [القصص: 1-6].

إنَّها إرادةُ اللهِ التي بيَّنَها مِن أوَّلِ القِصّةِ، وتوالَت فُصُولُها في أَحداثٍ عَجيبةٍ حتى تمَّت كَلِمةُ الله ونَفَذ أمرُه وحقَّت مَشِيئَتُه.

أيّها المسلِمون، لقَد ذُكِر اسمُ نبيِّ الله موسَى عليه السَّلام في القرآنِ الكَريم في مِائةٍ وسِتّةٍ وثلاثين موضِعًا، فمَا ذكِر اسمُ نبيٍّ ولا ملَكٍ أكثرَ منه، ولا تحدَّث الوَحيُ عَن أمَّة منَ الأمَم الأُولى كما تحدَّث عَن بَني إسرائيلَ, لقد جَاء ذِكرُهم في سُوَرِ الأنعامِ والأعرافِ والإسراءِ وطَه ويونُس وهود وفي جميعِ الحواميم وكلِّ الطواسين، وكلُّ هذه السّوَرِ مكيَّة، بالإضافةِ إلى سوَرٍ أخرَى مدنيَّة، ولم يكن بمكَّةَ حينئذ يهود يُؤبَه لهم، كما لم يكن هذا مجرَّدَ تعريفٍ بأمّة سيخالِطُها المسلمون فيمَا بعد، بل إنَّ هِداياتِ القرآن أعظمُ مغزَى وأطوَل رؤيةً، إنَّ هذا التاريخ المَتلوَّ يحوِي في طيَّاته العناصرَ الحقيقيَّةَ لقيامِ الأمَم واستِقلالها وازدهارِ حضارتها، كما يحوِي العناصرَ الحقيقيَّة لانهيارِ الأمَم وذَهابِ ريحِها واضمِحلال أمرِها.

والقصَصُ القرآنيّ من أبلغِ الوسائل لتربية الأفراد والجماعات، ولقد كانَ المسلمون المستضعَفون في مكة بحاجةٍ إلى أن يَعرِفوا كيفَ تحوَّل شعبٌ كامِل من ذلٍّ هائِل إلى عِزٍّ وتمكين، وكيف تَبلُغ الأممُ هذه الغايَةَ الكَريمة إذا نفَضَت غُبارَ الذلِّ والهوانِ وأَسلَمَت قِيادَها للهِ رَبِّ الأكوانِ. شعبٌ كانَت تُذَبح صِبيتُه وتُستَحيَى نِسوتُه ويُستَعبَد عامَّتُه كيف مُكِّن من ميراث الأرضِ في زمنٍ من الأزمان، وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف: 137].

سُئِل ابنُ القيِّمِ رحمه الله: أَيُمَكَّن للمؤمِنِ أم يُبتَلى؟ قال: لا يُمَكَّن حتى يُبتَلى، وقَرَأ قولَ الله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]؛ لذا قيل: بالصَّبرِ واليَقِين تُنالُ الإمامةُ في الدِّين.

كما بيَّن اللهُ ارتِكاسَ هذهِ الأمَّةِ وانتِكاسها وأسبابَ الغضَب عليها بعد أن مكَّن الله لها،  وقد سبقَ أن صَاحُوا بموسَى مُستَنجِدين: قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [الأعراف: 129]. لكنَّهم حين استُخلِفوا نكَصوا على أعقابهم وتخطَّوا حدودَ الله، واحتالُوا على محارِمه، وجاروا وظلَموا، وارتَكَسوا في مَزالقَ شائِنةٍ بيَّنَها الله تعالى في مواضِعَ كثيرةٍ مِن كتابِه ليجتَنِبَها المسلمون.

تلك المزالقُ التي هوت بالأوّلين وفقَ سننٍ وقوانِين لا تُساقُ للأمَمِ جُزافًا، ولا تخبِط خَبطَ عَشواء، لكنها السّنَن. عندها جَرَى تنحيةُ تلك الأمّةِ عن الرِّيادَة، وجاء الله تعالى بأمّة الإسلام، وكلَّفها بالرّيادة والقيادةِ. والعجيبُ أنّه ومَع تطاوُل الزّمن بين الفريقَين وبَعدَ أعصارٍ طِوال فإنَّ الذي قيلَ للأمّة التي أقصِيت هو نفسُه الذي قيل للأمّة الحاضِرةِ، فقد قال موسى لقومِه: عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، وقال اللهُ تعالى للأمّة الجدِيدةِ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 13، 14]. إنّه ذاتُ القول الذي قِيل مُنذ قرونٍ سحيقةٍ. وإذا تأمَّلتَ تاريخَ الأمّةِ وجدتَ انتصارَها وانكِسارَها مُتوازيًا مع هذه السّنَن، متنَاسبًا مع قُربها وبُعدها من تعاليم الدّين.

أيّها المسلمون، وفي سورةِ القصص ترَى أن العلوَّ في الأرض بالفَسادِ وقهرَ الناس مِفتاحُ الحتوفِ ومِتلاف الممالِك وسبَبُ الهلاك، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ [القصص: 4]، وفي آخرِ السّورةِ: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا [القصص: 83].

في هذِه السورةِ العظيمةِ مواقِفُ وأحداثٌ تحوِي العبَرَ لكلِّ من نَظَر، لقَد بيَّن الله تعالى طُغيانَ فِرعونَ وجنودِه على بني إسرائيل، وكَيف كانَ يَستعبِدهم ويتتبَّع أطفَالَهم لِيَذبَحَهم ذَبحَ الشِّياه. في تلك الظروفِ القاسيَة وُلد موسى عليه السلام، ولِد والخطر محدِقٌ به والموتُ يتلفَّت عليه، وها هي ذي أمّه حائِرةٌ به خائفة عليه، تنتظر أن يصِلَ نبؤُه للجلاّدين، عاجزةً عن حمايته، لا يمكِن أن تلقِّنَه حيلةً، ولا أن تخفِيَ صوتَه الفطريّ أن ينمَّ عليه، وهنا يلقِي الله في روعِها الإيمانَ والأمانَ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 7]. يا لله! إذا خِفتِ عليه وهو بين ذِراعَيك وفي دِفءِ يَدَيك فألقِيهِ في اليمّ، نَعم ألقيه في اليمّ، فإنّه هنا في رعايةِ الله، يكلؤُه ويَرعاه، إنها الرعاية الإلهية التي تجعل النارَ بردًا وسلامًا وتجعَل البحرَ ملجَأ ومنامًا.

وهكذا كان إيمانُ تلكَ الأمّ وكان يقينُها، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ [القصص: 8]، وهل يُخشى عليه إلا من آل فرعون؟! ولكنَّ إرادةَ الله تتحدّى فرعونَ بطريقةٍ مَكشوفة، إنهم يتتبَّعون المواليدَ ويرسلون الجواسيسَ ويكلِّفون الجلاّدين لقتلِ جميعِ الأطفالِ خشيةَ أن يكونَ موسى أحدَهم. لكن ها هو ذا الطفلُ الرضيعُ يأتي بنفسِه مجرَّدًا من كلِّ حيلةٍ أو قوّة، يقتَحِم على الطاغيةِ حِصنَه، ويستقرّ في قلبِ قصرِه، ليكونَ لهم عدوًّا وحزنا، إنه الطفل الذي سيكون على يديهِ هلاكُهم، وعطَّف الله عليه قلبَ امرأةِ فرعون، فأحبّته وآوته، وهكذا حماه الله بألطف سَبَب، بالحبِّ لا بالجندِ والسِّلاح، وهذا من لُطف اللهِ، ولا يقاوِم لطفَ الله شيءٌ، ولا تُلام أمُّ الرضيعِ إن خافَت عليه واضطَربت، ولكن ربَط الله على قلبها وثبَّتها لتكونَ من المؤمنين المصدِّقين بوعدِ الله الصابِرين على بلائِه السَّائرين على هُداه.

ومَنع الله موسَى من قَبول المراضِع أو استِساغةِ اللبن، وبعدَ أن كان فِرعونُ يبحَث عنه ليقتلَه صارَ يلهَث لحياته؛ يلتمِس مُرضِعًا يقبَلها الصَّغير، خوفًا عليه مِنَ الذّبول أو الموتِ، فتَدُلُّهم أختُه على أمِّه، فيلتَقِم ثديَها ويقبَل لبَنَها، ويعود الطفلُ الغائِب إلى أمِّه، ويتحقَّق وعدُ الله، يعودُ الطفل يحمِيه فرعونُ، وترعاه امرأته، وتسعَد به أمّه، وتأخذ على رضاعِه الهدايا والعطايا، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص: 13]. إنَّ لله تدبيرًا وتقديرًا، فأين المؤمِنون؟! أين المصابِرون؟! أين المبتلَون؟! أين الموقِنون؟!

وإذا العنايةُ لاحظَتك عُيونها     نَم فالحوادِث كلّهنّ أمان

وإذا صدَق الإيمانُ وأحاطَت عناية الرحمن فليس بالضّرورة أن تكونَ النجاةُ وفقَ ما يعهدُه البشر.

أيّها المسلمون، ولما بلَغ موسى أشُدَّه واستَوى آتَاه الله حُكمًا وعِلما، واصطفاه وأخلَصَه، وجعَل في قلبه نورًا، وهيَّأه للرّسالةِ, وقد رأى طغيانَ فرعونَ ومَلئِه، ورأى كيف يُسام قومُه الخسفَ والظلم.

وحين أراد الله تعالى أن يجعلَ لموسى سبَبًا للخروج من مصر دخَل المدينةَ على حين غفلةٍ من أهلِها فوجدَ فيها رجلين يقتِتلان، أحدهما من بني إسرائِيل والآخرُ قِبطيّ، فاستغَاث الإسرائيليّ بموسى، فوكز القبطيَّ فمات من ساعتِه من قوَّة يدِ موسى، ولعلّه لم يقصِد قتلَه؛ لذا عادَ سريعًا يستغفِر ربَّه، قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16], وهذه صفةُ المؤمِن؛ سريعُ التوبةِ قريب الأوبة.

وفي يومٍ آخر رأَى نفسَ الإسرائيليّ يشتَبِك مع قبطيٍّ آخر، قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ [القصص: 18]، غويٌّ بعِراكِه الكثير ومُشاجَراته التي لا تُثمِر سوى جَلبَ البلاءِ على بني إسرائيل، وهم عن الانتِصار عاجِزون، فلا قيمةَ لاشتِباكاتٍ تضرُّ ولا تُفيد، فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُصْلِحِينَ [القصص: 19]. وهَكذا تَضِيق النّفوسُ الطاهرةُ، وتندفِع وتجيش، وربما تتجاوَزُ في تصرُّفاتها مِن حرّ ما تجد، وقد لا يُلام ظالمٌ إذا ظلم بقدرِ ما يُلام المظلومُ إذا انتَقم، كما وُصِف موسى عليه السّلام بقَصدِ الجبروت والإفساد.

وحين شَاعَ خَبرُ هذه الحادثةِ وأحسّ الملأُ من قوم فرعونَ ببوادِر التمرُّد على الظّلم تآمروا على قتلِ موسى عليه السّلام؛ حتى لا يسرِيَ مَوقفُه بين أفرادِ الشّعب المستعبَد، لكنَّ الله تعالى نجَّاه، فخرَجَ مِن المدينة يدعو ربَّه: رَبِّ نَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 21]، ويلتَجِئ لخالقِه: عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص: 22]. إنها المطاردةُ الثانية للقَتل، لكنَّ الله تعالى يريد إنفاذَ أمرِه وإمضاءَ قدَره مهما تمالأَ الأعداء، ويمضي موسى عليه السلام ويتزوَّج ويعمَل في كنَف شيخٍ صالح في سيرةٍ ومسيرةٍ مليئة بالدّروس والعبر.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111].

بَارك الله لي ولكم في القرآنِ والسّنَّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحِكمَة، أقولُ قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ذي القوَّةِ القادرَة والحِكمةِ الباهِرَة، لا ينفُذ إلا أمرُه، ولا يمضِي إلا قدَرُه، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس: 82، 83]، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهَد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيّها المسلمون، وحين شرّف الله تعالى موسى عليه السلام بالرِّسالة وأكرمه بالنبوَّة بعثه إلى فرعونَ وقومهِ يدعوهم إلى الله وحدَه، فقابلوا رسالتَه بالتكذيبِ، واتهموه بالسّحرِ وقَصدِ الإفساد، بل قال فرعون: إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر: 26].

ومع ظهور الآياتِ والبراهين إلا أن المتكبرين محرومون، وهذه سنّة الله في كلِّ وقت، فإنّك ترى المتكبِّرين هم أبعدُ النّاس عن الهداية والإيمان، كما قال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأعراف: 146].

وخرج موسى عليه السلام بقومه مهاجرين بدينهم تارِكين ديارَهم، يبحثون عن مكانٍ آخَر يعبدون الله فيه، ولكنَّ فرعون ـ ككلِّ الطغاة ـ لم يترك هذا الشعبَ المقهور ليحيا كما يُريد، مع أنهم فارقوا بلدتَه إلى بلادٍ أخرى وتركوه وشأنَه، فلماذا يطاردُهم حتى البحر؟! إنّه التسلُّط والطغيانُ والعلوّ في الأرض بالفساد.

فلمّا وقفَ البحرُ أمامَ موسى وبني إسرائيل ورأوا فرعونَ وقومَه وراءَهم، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61]، في تلك اللَّحظات الحرِجَة لم يتزعزع إيمانُ موسى بربّه، بل صاحَ صيحةَ مؤمن وصاحَ صيحةَ موقن: كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء: 62]، وحين يكمُل الإيمان تنزل نصرةُ الرحمن، فأمر الله البحرَ فانفَلق طُرُقًا يابِسةً، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [طه: 77]، فعبروا بحِفظ الله، فأتبعهم فرعونُ بجنوده، وأمر الله البحرَ فانطَبق على فرعون وجنوده، وأغرقَه ومن معه في عاقبةٍ مُهينة للكبر والطغيان، وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنصَرُونَ [القصص: 39-41]. إنها هزيمةُ الدنيا والآخرة جَزاءَ البغي والاستطالة، وقد أنجى الله تعالى موسى وقومَه حين التزموا أمرَ الله وصبروا وأقاموا الصلاة كما في سورة يونس.

وكان إهلاكُ الله تعالى لفرعونَ وجنودِه ونجاةُ موسى وقومه في اليوم العاشر من شهر محرَّم، فصام موسى عليه السلام هذا اليوم شكرًا لله تعالى، وصامه نبيُّنا محمّد وأمر بصيامه وقال لليهود: ((نحن أولى بموسى منكم)) كما في الصحيحين، وفيهما أيضا عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: ما علمتُ أنَّ رسولَ الله صام يومًا يطلب فضلَه على الأيام إلاّ هذا اليوم يوم عاشوراء، ولا شهرًا إلا هذا الشهر يعني رمضان، وعند الترمذي بسنَد صحيح أنَّ النبي قال: ((صيام يومِ عاشوراء أحتسِب على الله أن يكفِّر السنة التي قبله))، وفي صحيح مسلم أنّ النبي قال: ((لئن بقيتُ إلى قابل لأصومنَّ التاسعَ))، فلم يأت العامُ المقبل حتى توفّي النبي ، وفي مسند الإمام أحمد أن النبي قال: ((صوموا يومًا قبله ويومًا بعده)).

إنَّ أتباعَ الرّسل والأنبياءِ يجعلون هذا اليومَ يومَ شكرٍ وعبادة وفرحٍ بنجاةِ المؤمنين، كما أنّه يوم حزنٍ وبلاء ومأتمٍ طويل على المشركين وأتباع فرعون.

وفي ختامِ السورةِ تجِد قصّةَ قارون وطغيانه بسبب المال واغترارَ أهل الدنيا ثم إهلاك الله تعالى له، لتُختَم الآيات بالقاعدة الربانية: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القصص: 83].

فتدبّروا ـ أيها المسلمون ـ كتاب ربِّكم، والزَموا صراط الله المستقيم.

ثمّ صلّوا وسلِّموا على خير البريّة وأزكى البشرية محمد بن عبد الله.

اللّهمّ صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وصحابته الغرّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً