أيها المسلمون، إنّ ما تبتلَى به الأمة الإسلامية اليوم من بلايا ومحنٍ ورزايا لهو من باب سنّة الله تعالى في خلقه، سنة المدافعة، قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، إن تلك البلايا والرزايا التي قدرها الله تعالى على هذه الأمة ابتلاءً واختبارا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ليميز خبيثها من طيبها، كما قال تعالى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْب، وكل تلك البلايا والمحن والرزايا ـ عباد الله ـ من جنس أقدار الله تعالى الكونية وآياته العظيمة في هذا الكون كالخسوف والكسوف ونحوِها، تلك الآيات العظيمة التي يخوف الله تعالى بها عباده ليتوبوا ويرجعوا إليه، قال : ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا يخسفان لموت أحد، وإذا كان ذاك فصلوا وادعوا حتى يُكشفَ ما بكم)) متفق عليه.
فكذلك هذه المحن التي ابتليت بها الأمة الإسلامية، لا يرفعها الله تعالى عنها إلا بالتوبة والأوبة إليه، فهو سبحانه الذي يكشف السوء ويرفع البلاء، وهو سبحانه الذي يجير ولا يجار عليه، وقد تقرر سلفًا أنه ما نزلت عقوبة إلا بذنب، ولن ترفع إلا بتوبة، وأي عقوبة أعظم ـ أيها المسلمون ـ من إحاطة الكفار بديار المسلمين إحاطة السوار بالمعصم؟! فهم يجوسون خلال الديار ليفسدوا فيها ويهلكوا الحرث والنسل، وها هم قد جَمَعُوا أمرهم، وجاؤوا صفًا للقضاء على الإسلام والمسلمين.
وما أشبه الليلة بالبارحة، فإن هذا التجمعَ والتحزبَ يُذَكِرُنَا بيوم الأحزاب، عندما جاء الكفار ليستأصلوا شأفة الإسلام ويقتلوا الرسول عليه الصلاة والسلام على حد زعمهم، وقد قال تعالى واصفًا حالهم في استعدادهم لذلك: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا. ونسي أولئك الكفار أن مدبر الأمر في السماء، فهو الذي يقول للشيء: كن فيكون، عندها سلط الله تعالى عليهم ريحًا هوجاء في ليلة مظلمة باردة، فقلبت قدور المشركين، واقتلعت خيامهم، وأطفأت نيرانهم، ودفنت رحالهم، فما كان من أبي سفيانَ قبل إسلامه رضي الله عنه بعد أن ضاق بها ذرعًا إلا أن نادى في الأحزاب بالرحيل، فكانت تلك الريح من جنود الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا. وختم الله تعالى ذلك الامتحان الرهيب العصيب بنهاية سعيدة، وجنب الله تعالى المسلمين فيها القتال، قال تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا، فانقلبوا خاسرين خائبين.
وها هم الكفارُ اليوم يقعون فيما وقع فيه إخوانهم من قبل، ناسين أن مدبر الأمرِ في السماء، وهو سبحانه الذي يطفئ نار حربهِمِ كما قال تعالى: كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ، ولكن الغرور والغطرسة والظلم والفجور جعلهم يقولون كما قالت عاد من قبلهم: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً، قال الله: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ. والله تعالى هو الذي يُذهب كيدهم، ويأتي بنيانهم من قواعده، قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ. وهو سبحانَهُ الذي يخرجهم من ديارهم لحتفهم: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ.
لذا عباد الله، فإن انتظار الفرج من الله تعالى المقرونِ بالعمل والاستعداد وتعليق الآمال عليه وحده من أجلّ عباداتكم، قال علي رضي الله عنه: (رأيت انتظار الفرج من أجل عباداتكم). وصدق الشاعر عندما قال:
ضـاقت فلما استحكمت حلقاتُها فرجت وكنت أظنهـا لا تفرج
وهذا المعنى في كتاب الله تعالى قبلَ ذلك، قال تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. ولعلنا نتذاكر شيئًا من فرج الله تعالى فيما مضى وفيما هو واقع، مع التعريج على بعض ما ينبغي الاستعداد به لمواجهة هذه الفتنة العظيمة، ونبدأ بقصة عظيمة كررها الله تعالى في كتابه العزيز مرات وكرات، مختصرةً تارة ومطولةً أخرى، وما ذلك إلا لما فيها من العظة والعبرة، تلك القصة هي قصة موسى عليه الصلاة والسلام، والعبرة التي نعتبرها اليوم هي في أم موسى عليه السلام، وكيف انتظرت فرج الله تعالى في سلامة ابنها مع اتخاذها للأسباب والعمل بها.
ونبتدئ قصتَهَا من إخبار السحرة والكهان فرعون بأن زوال ملكه يكون على يد غلام يُولد في بني إسرائيل، عندها قرر ذلك الطاغية بأن يقتل الأبناء ويستحيي النساء، وكان ذلك بلاءً عظيمًا على بني إسرائيل كما قال تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.
وفي تلك الظروف العصيبة وُلد موسى عليه الصلاة والسلام، فضاقت به أمه ذرعًا، كل ذلك خوفًا عليه، فألهما الله تعالى بأن تضعه في تابوت فتلقيه في اليم: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فوضعته في ذلك اليم الذي كان سلاح نجاة موسى عليه السلام، وهو نفسه كان سلاح هلاك فرعون عليه غضب الرحمن. وكان كل همها عندما ألقته في اليم أن لا يصل إليه فرعونُ وجنودهُ، وما كانت تخشاه وقع، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وقال تعالى: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ.
وإتمامًا لوعد الله تعالى بإرجاعه إلى أمه ألقى عليه محبةً منه سبحانه: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، وعندما رأته امرأة فرعون قالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، فأخذ موسى عليه السلام بالبكاء والصراخ، وقد تعلق قلب امرأة فرعون به، فأخذت تبحث عما يسكته، وتبحث له عن مرضعٍ، ولكن الله تعالى حرم عليه المراضع ليعود موسى عليه السلام إلى أمه تحقيقًا لوعد الله تعالى: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ.
وقالت أم موسى لأخته: قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ، عندها قالت أخته لهم: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، فتم وعد الله تعالى، فعاد موسى عليه السلام إلى أمه في آخر النهار، قال تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
كل ذلك تم ـ عباد الله ـ من غير حول ولا قوة لأم موسى، ولكنه تدبير العزيز الحكيم الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
أيها المسلمون، ما أشبه حال أمتنا المغلوبة على أمرها بأم موسى، وما أحوج هذه الأمة إلى انتظار الفرج من خالقها ورازقها، وقد تقطعت بها أسباب الأرض، ولم يبق لها إلا أسبابُ السماء.
فاللهم إنا نسألك يا منزل الكتاب، ويا مجري السحاب، ويا هازم الأحزاب، أن تهزم اليهود والنصارى المتحزبين ضد الإسلام.
بارك الله لي ولكم في السنة والكتاب، ونفعني وإياكم بما فيهما من الحكمة والبيان، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|