.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

الامتحانات وذكرى الآخرة

5150

الرقاق والأخلاق والآداب

الموت والحشر

محمد بن سليمان الحماد

الرياض

26/4/1426

جامع التركي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- افتتان الناس بالدنيا الفانية. 2- أحوال الحساب والنشور والبعث. 3- وصايا للدارسين.

الخطبة الأولى

عباد الله، ها هي الدنيا قد لبست زخرفها وأظهرت حلتها، وتزينت للناس وصار لطلبها إيناس، وازدهرت بالتجارات وتبهرجت بالتقنيات، وتفتحت أزهارها للبشر، وأينعت سنابلها للظفر، حتى سهل على ساكنيها جني الثمر. خطبت القلوب فأجابتها، واستأسرت النفوس فأجبتها، فلله الحمد والمنة على سعتها. دخل الناس أجواءها واستنشقوا هواءها، فاستجموا إجمامًا عجيبًا، واتخذوا سبيلهم في بحرها سربًا، حتى كأنهم في نومة رأوا فيها أن كل شيء ما عدا الدنيا حلم وسراب، فما فتئنا نركض وراءها علَّنا ندرك حدها أو نبلغ قعرها، ولكن هيهات هيهات، فإن مثل الدنيا كمثل الظل، إن ذهبت تدركه عجزت، وإن انصرفت عنه تبعك.

أيها الأحبة، لقد اشتغلنا بدنيانا فبذلنا الجهد لغير أهله، وطلبنا الراحة في غير محلها. ما أجمل الدنيا لو كانت باقية، وما أحلاها لو كانت دائمة، لكنها تؤول إلى التباب، وتتحول إلى الخراب، وإني اليوم لمُطِل معكم من شرفة هذا المنبر على عالم قادم لا محالة، ويومٍ صائر لا غضاضة، إنه اليوم الحق، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ: 38]، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 34-37]، يغنيه عن النظر في العورات أو التحدث بالزللات، يوم يكون الناس على أرض بيضاء، يكونون بحيث إن نظر إليهم الناظر رآهم جميعًا، وإن دعاهم الداعي أسمعهم جميعًا. تزدحم في ذلكم اليوم الشدائد والأهوال، وتَعْظُم الكروبُ وتضيق الأحوال، وتحيط بنا النار من شتى النواحي، ويتجلى الله الواحد الباري غاضبًا غضبًا لم يغضب مثله قبله ولن يغضب مثله بعده، وتدنو الشمس من رؤوسنا حتى لا يكون بيننا وبينها إلا قدر ميل، فنخوض في عَرقنا على حسب أعمالنا كما روى الإمام مسلم من حديث المقداد بن الأسود قال: سمعت رسول الله يقول: ((تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل))، قال سَليم بن عامر: فوالله، ما أدري ما يعني بالميل؟ أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين؟ قال: ((فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا))، قال: فأشار رسول الله إلى فيه. فيا لله ما أعظم أهوالها!

ثم يكون العرض على الله، فعند الإمام أحمد وابن ماجه عن أبي موسى قال: قال رسول الله : ((يُعرض الناس يوم القيامة ثلاث عَرْضَات، فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله)). ويوم ذاك تشهد الأرض على الكافرين والظالمين بآثامهم عليها لا تخفي شيئًا، وتشهد للمسلمين بما أحسنوا عليها لا تخفي شيئًا، فعن أبي هريرة: أن رسول الله قرأ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة: 4، 5] فقال: ((أتدرون ما أخبارُها؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بكل ما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فذلك أخبارها)) رواه الترمذي وحسنه.

فيلجؤون إلى الكذب والحيلة، ويُنكر أحدهم ما في كُتُبِ أعماله من الكفر والمعاصي، فيقول الله تعالى: أتريد دليلاً من نفسك؟ فيقول: نعم، فيَخِتم الله على فيه ويكلَّم أعضاءه، فيقال للفخذ: انطقي فتنطق، ويقال للرجل: انطقي فتنطق، ويقال للحمه وعظمه فينطق كلٌ بما قام به بصدق وبيان، وتشهدُ عليه كل أعماله، فيصرخ فيها قائلاً: ويحكن إنما عنكن كنت أدافع، فتقول ما حكى الله تعالى في كتابه: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون.

وفي تلك اللحظات الضيقة وعلى تلك العرصات المزدحمة يحاسب الله عباده الكافرين والظالمين حسابًا عسيرًا دقيقًا، ويناقشهم على ما قدَّموه في الحياة الدنيا من كفر وعصيان، فيحل عليهم الويل والثبور، ويحملون كتبهم وراء ظهورهم، ويُدَعُّون إلى نار جهنم دعًَّا، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ فسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا ويَصْلَى سَعِيرًا إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ.

وفي هذه الشدة والمرارة تبزغ أنوار قوم أحسنوا العلاقة مع الله فلم ينسَهم، واتصلوا به سبحانه في هذه الدنيا فلم يتركهم حيارى في تلك الظلمات، يأتي الله ويحاسب عباده المؤمنين حسابًا يسيرًا لا مناقشة فيه ولا شدة، بل يضع كنفه على أحدهم ويقرره بنعمه عليه، ثم بذنوبه حتى إذا ظن أنه مأخوذ إلى النار قال الله له: عبدي، أما وقد سترتها عليك في الدنيا فإني أغفرها لك اليوم، فيُسَرّ سرورًا عظيمًا، ويرجع إلى أهله محبورًا، ويحمل كتابه بيمينه، فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا. فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ. وما أحسن ما قال الإمام عبد الله بن المبارك:

وطارت الصحف في الأيدي منشَّرة       فيهـا السرائـر والأخبـار تطلع

فكيـف سهوك والأنبـاء واقعـة       عمـا قليـلٍ ولا تدري بِمـا تقع

أفِي الجنـان وفوزٍ لا انقطـاع له       أم فِي الْجحيم فلا تبقـي ولا تدع

تهوي بسـاكنها طورًا وترفعهـم        إذا رجوا مَخرجًا من غمها قُمعـوا

طال البكـاء فلم يُرحم تضرُعهم        فيهـا ولا رقـةُ تغني ولا جـزعُ

لَم ينفع العلمُ قبل الْموت عالِمـه       قد سأل قوم بها الرجعى فما رجعوا

ثم يؤخذ في حساب الناس، وقد ورد أن أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة من حقوق الله تعالى الصلاة، ومن حقوق الناس الدماء، روى الترمذي أن رسول الله قال: ((إن أول ما يحاسب به الرجل صلاته، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله)). ويكون السؤال بعدُ عن العبادات الأخرى مثل الصيام والصدقة، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال: ((تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول: يا ربي إني الصلاة، فيقول: أنت على خير، ثم تجيء الصدقة فتقول: يا ربي إني الصدقة، فيقول الله: أنت على خير، ثم يجيء الصيام فيقول: يا ربي أنا الصيام، فيقول الله: إنك على خير، ثم يجيء الإسلام فيقول: يا ربي إني الإسلام، فيقول الله: إنك على خير، بك آخُذُ وبك أُعطي)).

ويكون سؤال العبد بعد ذلك عن جسده وصحته وحواسه: كيف استخدمها في الحياة الدنيا؟ وعن عمره أيامه ولياليه وشهوره: كيف قضاها في الحياة الدنيا؟ وعن علمه الذي تعلمه: ماذا عمل فيه؟ هل عاش به ودعا إليه أم لا؟ وعن ماله: كيف اكتسبه؟ أعن طريق حلال مشروع أو من أي طريق غير مبالي بحلال أو حرام؟ وفيم أنفقه؟ هل أنفقه في مباح أو واجب ومستحب أم بذَّره هنا وهناك فيما حرم الله ونهى عنه؟ فعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله : ((لا تزولُ قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".

فإذا لم يبق إلا المؤمنون وفيهم المنافقون جاءهم الله فقال: يا أيها الناس، ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: والله، ما لنا إلا الله ما كنا نعبد غيره، فينصرف عنهم فيمكث ما شاء أن يمكث، ثم يأتيهم فيقول: يا أيها الناس، ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون، فيقولون: والله، ما لنا إلا الله وما كنا نعبد غيره، فيكشف عن ساقه ويتجلى لهم في عظمته بما يعرفون به أنه ربهم، فيخرون سُجدًا على وجوههم ويخر كل منافق على قفاه، ويجعل الله أصلابهم كقرون البقر، ثم يأذن الله لهم فيرفعون رؤوسهم ويضرب بالصراط بين ظهراني جهنم.

وهكذا تتتابع الأحداث والمراحل حتى ينقسم الناس بين جنة ونار، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الجنان.

أقول ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم...

 

الخطبة الثانية

لقد جعل الله لنا في هذه الدنيا أشياء تقرّب لنا تصوّر الآخرة ومحطاتها وأهوالها وأحوال الناس فيها، ومن ذلك ما نعيشه اليوم من اختبارات خيَّمت كآبتها على أولادنا بنين وبنات، غير أن اختبارات الدنيا أهون وأخف من امتحان الآخرة، ولعل من الجدير بالذكر والتذكير بعض الأمور التي تطرأ وتحدث ويحتاج المسلمون فيها إلى تبصير، ومن ذلك أن الواجب على الدارس والدارسة أن يقصدوا الأماكن الطاهرة الخالية من الشياطين عند مذاكرتهم دروسهم، فالشيطان يوسوس للعباد ويشغلهم، ومن هذه الأماكن المساجد والمصليات أو الغرف الخالية من الصور والتلفاز.

كما أنني أنبه الدارسين إلى ضرورة ترتيب أوقاتهم، وإذا جلسوا للمذاكرة فليجلسوا صامدين، وإن انصرفوا فلينصرفوا بالكلية. وعليهم أن يتصلوا بالله القدير، وأن يلهجوا بذكره وسؤاله فلا حول ولا قوة إلا بالله.

كما أنبه إخوتي الدارسين إلى الحذر من صرف أوقات الصباح التي تكون بعد الامتحان في الشوارع أو المقاهي، مما يسهل معه استحواذُ شياطين الإنس عليهم، فَيَغُروهم بالفحشاء والمنكر، وأنبه أولياء الأمور إلى خطورة ذلك. كما أعظ إخواني الدارسين أن لا يكونوا من المفسدين في الأرض العابثين بمحارم المسلمين الغاشين لأعراضهم.

وأخيرًا، ما أقبح ما يفعله البعض طلبًا لتوفير أكبر وقت ممكن، فيضطرون للسهر والمواصلة ويغلب عليهم الأمر، فيلجؤون إلى المنشطات المسببة ـ بإذن الله ـ إلى الخلل والجنون والعياذ بالله. ولتعلم ـ أخي الحبيب ـ أن في داخلك طاقات وقدرات لا تخرج إلا وقت الهمة والعزيمة، فاستثمرها واستغلها لكي تستفيد منها هذا.

وصلوا وسلموا على نبينا ورسولنا...

 

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً