أما بعد: عباد الله، أوصيكم ونفسي بوصية الله للأولين والآخرين في كتابه المبين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ [النساء: 131]، وبوصية رسولنا الأمين حيث قال: ((اتق الله حيثما كنت)).
أيها الإخوة في الله، تعيش بيوتنا هذه الأيام حالة تأهب واستنفار كاملين استعدادًا للاختبارات النهائية، التي سيؤديها أبناؤنا وبناتنا بعد ساعات معدودة، وينهون بها عامًا دراسيًا كاملاً حافلاً بالعلم والعطاء والجد والمثابرة والاجتهاد.
ولنا مع الاختبارات هذه الوقفات للطلاب والطالبات:
أولها: الوصية بتقوى الله جل وعلا بفعل أوامره واجتناب نواهيه، ففيها المخرج من كل كرب وضيق، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا [الطلاق: 2]، وفيها تسهيل الأمور وتيسيرها، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا [الطلاق: 4].
ثانيها: المحافظة على الصلوات وأداؤها في أوقاتها والاستكثار من النوافل، فهي مما يعين بحول الله وقوته على حصول ما يُؤمَّل من التفوق والنجاح، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 153]. قال ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: "أمر الله تعالى عبيده بالاستعانة بالصبر والصلاة فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة". وعن حذيفة قال: كان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة.
ثالثها: التوكل على الله جل وعلا والاعتماد عليه وتفويض الأمر إليه وحده، قال تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 3]، أي: كافيه الأمر الذي توكّل عليه فيه، وإذا كان الأمر في كفالة الغني العزيز الرحيم فهو أقرب إلى العبد من كل شيء.
وحذار ـ أيها الطلاب والطالبات ـ من الاعتماد على الذكاء والحفظ أو النبوغ والفهم وترك الاعتماد على الله، فها هو النبي كان يقول: ((يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)).
رابعها: الإلحاح في دعاء الله جل وعلا بالتوفيق والنجاح، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، وقال : ((إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرًا خائبتين)). وما تقدم من التوكل على الله تعالى ودعائه يكون مقرونًا بالأخذ بأسباب النجاح من الجد والاجتهاد.
خامسها: الحذر من الغش في الاختبارات إما باطلاعه على إجابة غيره، أو الاطلاع على الأسئلة المسربة ونحو ذلك، قال : ((من غش فليس مني)). فمن كانت حياته على الغش سلبه الله الخير في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (من خادع الله يخدعه الله).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "على مراقب الطلبة حين الامتحان أن لا تأخذه في الله لومة لائم؛ أن يمنع أيّ طالب من الغش أو محاولة الغش؛ لأن تمكين الطالب من الغش خيانة وظلم لزملائه الحريصين على العلم المجدين في طلبه الذين يرون من العيب شرعًا وعرفًا ومروءةً أن ينالوا درجة النجاح بالطرق الملتوية. إن المراقب إذا مكّن أحدًا من هؤلاء المهمِلين الفاشلين في دراستهم من الغش فأخذ درجة تقدّم بها على الحريصين المجدين كان ذلك ظلمًا لهم، وظلمًا للطالب الغاشّ، وهو في الحقيقة مغشوش حيث انخدع بدرجة نجاح وهميّة لم يحصل بها على ثقافة ولا علم، ليس له من ثقافته ولا علمه سوى بطاقة يحمل بها شهادة زَيف لا حقيقة. إن تمكين الطالب من الغش أو تلقينه الجواب بتصريح أو تلميح ظلم للمجتمع وهضم لحقه؛ حيث تكون ثقافة المجتمع ثقافة مهلهلة يظهر فشلها عند دخول ميادين السباق، ويكون مجتمعنا دائمًا في تأخّر وفي حاجة إلى الغير؛ وذلك لأن كل من نجح عن طريق الغش لا يمكن إذا رجع الأمر إلى اختياره أن يدخل في مجال التعليم والتثقيف لعلمه أنه فاشل فيه، بل إن الطالب بممارسته الغش يكون مستسيغًا له هينًا في نفسه، فيتربى عليه ويربي عليه أجيال المستقبل، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة. إن على المراقب أن لا يراعي شريفًا ولا قريبًا لقرابته ولا غنيًا لماله ولا فقيرًا لمسكنته، إن عليه أن يراقب الله عز وجل الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، عليه أن يؤدّي الأمانة كما تحمّلها لأنه مسؤول عنها يوم القيامة " انتهى كلامه رحمه الله تعالى.
سادسها: تذكر قوله : ((إن لنفسك عليك حقًا))، فذاكر وجد واجتهد، ولكن لا تعذب بدنك وتتعب جسمك بالسهر المتواصل وتكلّفه فوق طاقته.
سابعها: قال عمر الفاروق : (لا تصغرن همّتك، فإني لم أر أقعد بالرجل من سقوط همته). فلا يكن همك الحصول على درجة النجاح، بل اجعل همك التفوق، وارسم لنفسك هدفًا نبيلاً ساميًا تصل إليه وتخدم دينك وأمتك من خلاله.
ثامنها: حذار من تلك الأفعال الدنيئة التي نراها في نهاية كل عام من إهانة لكتب العلم ورميها في الطرقات وتمزيقها والعبث بها، مع أنها تحتوي آيات كريمة وأحاديث نبوية شريفة، فاحذر أن تكون سببًا في إهانة كلام الله أو كلام رسوله .
تاسعها: ما أجمل أن تكون الاختبارات فرصة لتمتين علاقات الأخوّة وزيادة صفائها ونقائها من خلال مساعدة زملائك بما يحتاجون إليه من توضيح إشكال أو حل مسألة، فمن نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن أعان أخاه أعانه الله. وما أجمل أن تدعو لأخيك بالنجاح، وتفرح دون أن يكون في قلبك حسد له إذا حقق السبق والتفوق، فقد قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)).
عاشرها: الرضا بقضاء الله والتسليم لأمر الله نعمة من الله على عباده، فإن انتهيت من الاختبارات وكانت النتيجة طيبة فاحمد الله جل وعلا، واعلم أن ذلك بتوفيقه سبحانه، ولتقل بلسان الحال والمقال:
أعطيتنِي الجليـلا منحتنِي الْجزيلا
سوّغتني الجميـلا تفضّلاً وطـولاً
بأي لفظ أشكرك بأيّ حمد أذكرك
الْحمد للرحمـن والشكر للديان
والمدح للمنـان على العطا الهتّان
وإن كانت الأخرى فلم توفق للنجاح فاحمد الله جل وعلا وأحسن الظن بربك؛ فلعل درجة من الدنيا تفوت فسيعوضك الله بها درجات في الآخرة، وكن على الحال التي أخبر عنها النبي : ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له)).
أيها الإخوة في الله، وصية للمعلمين والمعلمات بأن يتقوا الله جل وعلا، ويلتزموا الأمانة في وضع الأسئلة وفي تصحيحها، ويعطوا كل ذي حق حقه وكل ذي قدر قدره، كما أمر بذلك الله جل وعلا في كتابه فقال: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [الإسراء: 35].
فحذار ـ أيها المعلمون والمعلمات ـ أن تقصدوا بالاختبار التعجيز والأذية والإضرار، فهذه ذرية ضعيفة بين أيديكم، وإياكم أن تشقّوا عليهم فتكلفوهم ما لا يستطيعون، أو تحمّلوهم ما لا يطيقون، فقد قال : ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئًا فشق عليهم فاشقق عليه)). فالله الله أن يشقّ عليكم، فاتقوا الله في هؤلاء وأحسنوا إليهم إن الله يحبّ المحسنين، ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))، قدّروا ضعفهم واشملوهم بالعطف والحنان.
إن الطلاب والطالبات يدخلون إلى الامتحان والاختبار بنفوس مهمومة وقلوب مغمومة، فيها من الأكدار وفيها من الأشجان والأحزان ما الله به عليم، فامسحوا على رؤوسهم عطفًا وحنانًا، وأكرموهم لطفًا وإحسانًا، فإنّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
أيها الإخوة في الله، وصيّة للآباء والأمهات أن يوفّروا لأبنائهم وبناتهم الجوَّ المناسب للمذاكرة، وأن يسهروا معهم، ويشعروهم بقربهم منهم، ويدعوا لهم بالتوفيق والنجاح، ويسمعوهم تلك الدعوات كل صباح، ويسألوهم عن اختباراتهم، فإن أجابوا أثنوا عليهم، وإن لم يوفقوا فلا يعنفوهم، وإنما يفتحون لهم أبواب الرجاء في المرات القادمة.
ومما يوصَى به الآباء خصوصًا مراقبة الأولاد في هذه الأيام، فأكثر انحرافات الشباب وأكثر العادات السيئة التي يكتسبها الطلاب تكون في مثل هذه الأيام، حيث يكون الطالب حرًا طليقًا بمجرّد انتهائه من أداء الاختبار، فيتعرف على رفقاء السوء الذين يزيّنون له المنكر، ويدفعونه إلى السوء والفحشاء. فالله الله في أبنائكم وفلذات أكبادهم، كونوا معهم في الغدو والرّواح، أو اعرفوا مواعيد الاختبارات وحاسبوهم على التأخّر. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم: 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|