أما بعد: أيها المسلمون، وإكمالاً لخطبة الجمعة الماضية، في مواجهة هذه الهجمة المعلنة اليوم على المرأة وقضاياها في مجتمعاتنا من قبل تيار العلمنة ورموزها، فإننا سنتحدث في هذه الجمعة ـ بحول الله وقوته ـ عن الشبه التي كثيرًا ما تثار في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى عن المرأة وما يتعلق بها من قضايا وأمور:
أولاً: يطالب العلمانيون بالمساواة بين الرجل والمرأة:
والجواب: أنَّ المرأة مساوية للرجل في الإنسانية وفي أغلب تكاليف الإسلام وفي جزاء الآخرة، كما قال تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْض. وكذا في الموالاة والتناصر؛ ولذا قال النبي : ((النساء شقائق الرجال)) أخرجه أحمد وأبو داود.
ولكن الإسلام مع ذلك نظر في طبيعة المرأة ومدى تحملها لبعض العبادات وصعوبتها، كالجهاد في سبيل الله، أو لعدم ملاءمتها للمرأة كملابس الإحرام، فأسقطها عنها. ومن ذلك عدم جواز تولية المرأة للمناصب العامة كالخلافة والقضاء، لذا يقول رسول الهدى : ((لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة)).
وأمَّا ما يورده بعضهم أنَّ الإسلام ظلم المرأة في إعطاء الذكر من الميراث ضعفيها فإنَّه يقال لهؤلاء: ما دام أنَّه تعالى قد شرع ذلك فينبغي على العبد المسلم أن يستسلم لشرعه ولا يعترض عليه، كما قال تعالى: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيما. ثمَّ إنَّ الله ما دام قد خلقنا فلا اعتراض عليه؛ لقوله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُون، وقد قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْر، فما دام الشرع من عنده تعالى فينبغي على عبيده الاستسلام والخضوع لأمره. ويقال كذلك: إنَّ الشريعة الإسلامية لم تعط المرأة أقل من الرجل في جميع المورايث، فإنَّه في العصبات قد تستحقُّ المرأة نصف الميراث أو أكثر، فليست المواريث مطَّردة في إعطاء المرأة أقلَّ من الرجل، ومما يجاب على ذلك بأنَّ الشريعة فرضت للذكر مثل حظِّ الأنثيين؛ لأن الرجل هو القوَّام على المرأة والمتولي شؤونها فيما تحتاجه، فالقضية ليست للتفضيل الذي لا يستند إلى حكمة من ورائه بقدر ما هي للفرق بين المسؤوليات.
إنَّ المرأة خُلقت من نفس واحدة، إذ كان وجودها الأول مستندًا لوجود آدم عليه الصلاة والسلام، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى ذلك فقال: خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا. وهذا أمر كوني قدري من الله، أنشأ المرأة في إيجادها الأول عليه، وجاء الشرع الكريم المنزل من عند الله ليُعمل به في أرضه بمراعاة هذا الأمر الكوني القدري في حياة المرأة في جميع النواحي، فجعل الرجل قوَّامًا عليها، وجعلها مستندة إليه في جميع شؤونها، كما قال تعالى: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء. فمحاولة مساواة المرأة مع الرجل في جميع نواحي الحياة غير متحققة؛ لأنَّ الفوارق بين النوعين كونًا وقدرًا أولاً وشرعًا منزَّلاً ثانيًا تمنع من ذلك منعًا باتًا، ولهذا يقول تعالى في محكم التنزيل: وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة. يعني في الحقوق الزوجية، ولوضوح الفوارق الكونية والقدرية والشرعية بين الذكر والأنثى، وصحَّ عن النبي أنَّه لعن المتشبه من النوعين بالآخر. ولا شك أنَّ سبب هذا اللعن هو محاولة من أراد التشبه منهم بالآخر لتحطيم هذه الفوارق الفطرية والشرعية التي لا يمكن أن تتحطَّم.
كما نص القرآن على أن شهادة امرأتين بمنزلة شهادة رجل واحد في قوله تعالى: فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان. فالله الذي خلقهما لا شك أنَّه أعلم بحقيقتهما، وقد صرح في كتابه بقيام الرجل مقام امرأتين في الشهادة، وقد بين سبحانه العلة فقال: أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة: 282]. قال الله تعالى: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِه.
ثانيًا: مما يثيره العلمانيون ويطالبون به الاختلاط، ويثيرون حول ذلك بعض الشبه، كقولهم: إن المرأة زمن النبي كانت تخرج للجهاد في سبيل الله، وهذا لا يمكن أن يكون إلا بالاختلاط، وأيضًا كانت تطوف مع الرجال في الحج والعمرة.
الجواب: قال الله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَى، قال مجاهد في تَفْسيرِهِ للآية: "كان النساءُ ـ أي: في الجاهِليّة ـ يَتَمَشَّيْنَ بين الرجال ـ أي: يخْتَلِطْنَ بِهم ـ فذلك التبرج".
وِحفاظًا على المرأةِ مِن الاخْتلاطِ بالرِّجال لم يُوجِبِ اللهُ عليها صلاةَ الجَماعةِ في المَسجد، وخَصَّ الرِّجالَ بها فقط، بل جَعلَ صلاتَها في بيْتِها خيرًا مِن خروجِها للصَّلاةِ في المَسْجَد، قال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ رِجَالٌ، ولم يَقُلْ: رِجالٌ ونِساء، وقال : ((صَلاَةُ الْمَرْأَةِ فِي بَيْتِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي حُجْرَتِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي حُجْرَتِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي دَارِهَا، وَصَلاَتُهَا فِي دَارِهَا خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِهَا فِي مَسْجِدِ قَوْمِهَا)) رواه الطَّبرانيُّ وهو صحيح. كلُّ ذلكَ مِن أجْلِ سدِّ بابِ الفِتْنة والحِفاظِ على المرأةِ مِن التّبذُّلِ والاخْتِلاطِ بالرِّجال. والمرأةُ إذا خَرَجَتِ إلى المَسجِدِ فإنّما يجوزُ خُروجُها بِالشّرْطِ المَنصوصِ عليْهِ في حديثِ النّبيِّ ، وهو عدمُ التّزيُّنِ والتّطيُّبِ في قَوْلِه عليهِ الصلاةُ والسّلام: ((ولْيَخْرُجْنَ تَفِلات)). هذا هو الشّرط، وإلاّ انْقَلَبَ الجوازُ إلى التّحريم. ولِضَمانِ عدَمِ الاخْتِلاط جَعَلَ النّبيُّ بابًا خاصًّا للنِّساءِ يَدْخُلْنَ مِنه إلى المَسْجِد، ففي سُننِ أبي داود بإسنادٍ صحيحٍ قال لأحَدِ الصَّحابةِ: ((لو تركنا هذا البابَ لِلنِّساء)).
وأما احتجاج العلمانيين بالجهاد فيقولون: المرأة كانت تخْرُجُ للجِهادِ في عَهْدِ رسولِ الله ، وهذا فيهِ اخْتِلاط.
فيقال: حتّى الحالاتُ النّادرةُ الّتي شاركَتْ فيها المرأةُ في الجَهادِ في أوائلِ الغَزَواتِ لِظروفِ الحرب، وظروفُ الحربِ حالةٌ اسْتِثْنائيَّةٌ غيرُ طبيعيّة، والحالةُ الطّارئةُ الاسْتثْنائيَّةُ لا يُقاسُ عليها في الوَضْعِ الطّبيعي، نقول: حتّى الحالاتُ النّادرةُ الّتي شاركَتْ فيها المرأةُ في الجَهادِ في أوائلِ الغَزَواتِ ما كان خُروجُهُنّ أوَّلَ الأمْرِ أصْلاً إلاّ لِقِلَّةِ عَدَدِ المُسلمين آنَذاك، مِن أجْلِ السِّقايةِ وتضميدِ الجَرْحى، لا القِتال، فلمّا كَثُرَ عَددُ المسلمين لم يَعُدْ يخْرُج مِن النِّساءِ أحَدٌ في الغزو، هذا مع أنّهُنّ كُنّ لمّا خَرَجْنَ في السِّابِقِ خَرَجْنَ مع مَحارِمِهِنّ، بل كان فِعْلُهُنَّ ذلك مُخَصَّصًا لِمَحَارِمِهِنّ في المَقامِ الأوّل، ولم يُكنّ يُباشِرْنَ الجَرْحى الأجانِبَ إلاّ في أضْيَقِ الحدود. فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ يَغْزُو بِأُمِّ سُلَيْمٍ، وَنِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ مَعَهُ إذَا غَزَا، فَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَى. قال الإمامُ النّووي: "فيه خروجُ النساءِ في الغزوِ والانتفاعُ بِهِنّ في السَّقْيِ والمداواةِ ونحوِِهِما"، قال: "وهذه المداواةُ لمحارمِهِنّ وأزواجِهِنّ، وما كان منها لغيرِهِم لا يَكونُ فيهِ مَسُّ بَشَرةٍ إلاّ في موضعِ الحاجة". إذن كان خُروجُهُنّ في بدايَةِ الأمْر، وبأعدادٍ قليلةٍ لا تتجاوَزُ أصابعَ اليد، وكُنّ يخرُجْنَ مع أزواجِهِنَّ ومَحارِمِهنَّ كما يُسافِرُ اليومَ النّساءُ مع أزْواجِهِنِّ ومَحارِمِهِنّ السَّفَرَ العاديّ، ولا نَكارةَ في ذلك ولا غَرابةَ، ولا حُجَّةَ فيهِ لِدُعاةِ الاختلاطِ والسُّفور، ولكنّها حِيلةُ العاجِز، لا قامَ مِن عَجْزِه ولا بلَّغَهُ ما يُريد.
وأما عن احتجاج العلمانيين ودُعاة السُّفور وأرباب التَّغريب بالطّواف، فيقولون: انظروا إلى الطّواف، أليسَ فيهِ اخْتلاطٌ وهو عِبادة؟! فَلِماذا تَمْنَعونَه في غيرِه؟!
الجواب: أوّلاً: إنّ الوَاقِعَ ليسَ حُجَّةً على الشَّرْع، فلأجْلِ أنّنا نرى اخْتِلاطًا في الطَّوافِ اليوم أو نَراهُ في المُستَشْفَيات أو نَرى مُنكراتٍ ما هُنا أو هُناك هذا لا يُؤثِّرُ في الحُكْمِ الشَّرعيّ، ولا يَنْتَقِلُ حُكْمُ شيءٍ ما مِن الحُرْمة إلى الإباحةِ لِمُجَرَّدِ حُصولِ ذلكَ الشَّيءِ في الواقِع، فالوَاقِعُ ليسَ حُجَّةً على الشَّرْع.
وثانيًا: الطَّوافُ في الأصْلِ كان مَفصولاً، فقد ذكَرَ العُلماء أنّ الفَصْلَ بينَ الرِّجالِ والنِّساءِ في الطّوافِ فَصْلان، فصْلٌ مُطْلق، وفَصْلٌ جُزْئيّ، والفَصْلُ الجُزئيُّ كان حَاصْلاً في زَمَنِ الرَّسولِ ، الجميعُ يطوفون، ولكنّ النِّساءَ في حَلَقَةٍ واسِعةٍ خاصَّةٍ بهنّ بعيدًا عن الكعبة، في مَنأى عن الاخْتِلاطِ بالرِّجال، والرِّجالُ في حلْقَتِهِم قريبًا إلى الكعبة، بالرَّغْمِ مِن طَوافِهِم جميعًا في وقْتٍ واحِد، فالحاجَةُ إذن لم تَكُنْ داعِيةً إلى التّحذيرِ مِن الاخْتِلاطِ وأمْرِ النّاسِ بالفَصْلِ أوّلَ الأمْرِ؛ لأنّ النّاسَ كانوا يَحْذَرونَ مِنه أصْلاً لِحُسْنِ إسلامِهِم وحِرْصِهِم على عدَمِ الاخْتِلاط وتَعْظِيمِهِم لِرَبِّ البيْتِ وتَعظيمِهِم لِحُرُماتِه، هكذا كان واقِعُ حالِهِم، فالنِّساءُ كُنَّ يَطُفْنَ بَعِيداتٍ بِمَعْزِلٍ عن الرِّجال، ولذلك قال النّبيُّ لأمِّ سَلَمةَ في الطّواف: ((طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَة))، لِماذا قال: ((مِن وراءِ النّاس))؟ أليسَ في هذا تأكيدٌ على عدَمِ الاخْتِلاطِ بالرِّجال حتّى لو كانت راكِبة؟! بلى. ولذلك نَرى أيضًا أنّه لَمّا اقْتَضى الحالُ التّأكيدَ على الفَصْلِ لِكَثرةِ الفِتَنِ وتَساهُلِ الرِّجالِ في الْتِزامِهِم بالفَصْلِ والابْتِعادِ عن النِّساءِ في الطَّواف منَعَ الخليفةُ الرِّاشِدُ عُمَرُ بنُ الخَطّاب الاخْتِلاطَ فيه، ونهى النّاسَ عن ذلك صَراحةً وعَلَنًا لِوجودِ الدَّاعي، فقدَ روَى الفاكِهِيّ مِن طريقِ زائدة عن إبراهيمَ النَّخَعي قال: نهى عُمَرُ أنْ يطوفَ الرجالُ مع النساء، قال: فرأى رجلاً معهُنّ فضربه بالدِّرَّة.
هذا هو الفَصْلُ الجُزئيّ، أمّا الفَصْلُ المُطْلَق بِمَعْنى أنّ الرِّجالَ يطوفون في وَقْتِ والنِّساء في وقِتٍ بِحَيثُ لا يجتَمِعون مُطْلَقًا فقدَ فصَلَ بعضُ الأمراءِ بين النِّساءِ والرِّجالِ في الطّوافِ مُطْلَقًا، كخالدِ القَسْري وإبراهيمَ بنِ هِشام الأَمَويّ كما صحّ في البُخاري، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ.
وعلى أيّةِ حال نحن لا نَدْعو إلى فصْلِ الرِّجالِ عن النِّساءِ في الطَّوافِ فَصْلاً مُطْلقًا؛ لأنّه ليسَ مِن فِعْلِ النَّبيِّ ولا خُلَفائهِ مِن بَعْدِه، فإنّ هَدْيَهُ وهَدْيَ خُلَفائهِ الفَصْلُ الجُزْئيّ، وإنّما القَصْدُ أنّ واقِعَ الحالِ اليومَ والّذي شاعَ فيهِ التّساهُلُ بالاخْتِلاطِ في الطِّواف ليسَ حُجَّةً على الشَّرْعِ يُسْتَدِلُّ بهِ على الحلالِ والحرامِ وما يجوزُ وما لا يجوز، فليسَ بالضَّرورةِ أن يكونَ واقِعُ الحالِ مُوافِقًا لِلشَّرْعِ مِن كُلِّ وجْه، وإنّما الحُجّةُ في ذلك مقاصِدُ الشَّرعِ المأخوذةُ مِن النَّصوصِ الّتي طَالَما حذَّرَتْ مِن الاخْتِلاطِ ونَهَت عنه، وما أكْثَرَها مِن نصوص.
ولذلك يقال لمن يحتج بمثل هذه الحجج: أين أنتَ مِن النّصوصِ الأخْرى إن كُنتَ صادِقًا في نُصْحِك؟! لماذا لم تُورِدْها، أم هي أخلاقُ اليهودِ الّذين لا يأخذونَ مِن النُّصوصِ إلاّ ما وافَقَ أهواءَهُم؟! أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْض. أين أنت مِن وَضْعِ النِّساءِ في المَسْجِد؟! أين قرّر الشَّرْعُ لَهُنَّ أنْ يُصلِّين مُختَلِطين جَنْبًا إلى جَنبٍ مع الرِّجال، أم في الصّفوفِ الخَلْفِيّةِ بعيدًا عن الرِّجالِ آخِرَ المسجد؟! أيَدُلُّ هذا على النَّدْبِ إلى الاخْتِلاطِ أم العَكْس؟! بل زادَ مِن التّأكيدِ على عدَمِ الاخْتلاطِ مُنَفِّرًا حتّى مِن اقْترابِ أيٍّ مِن الطِّرَفيْنِ الرِّجالِ والنِّساء مِن صَفِّ الآخَرِ قائلاً: ((خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا، وَخَيْرُ صُفُوفِ النِّسَاءِ آخِرُها وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا)). أيَدُلُّ هذا على الحثِّ على الاخْتِلاطِ أم التّحذيرِ مِنه؟!
ثُمّ ألَمْ يكُن إذَا سَلَّمَ قامَ النِّسَاءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ ويَمْكُثُ هُوَ فِي مَقَامِهِ يَسِيرا قَبْلَ أنْ يَقُومَ كي يَنْصَرِفَ النِّسَاءُ قَبْلَ أنْ يُدْرِكَهُنَّ الرِّجَال؟! ثُمّ إذا أَخبَرتنا أُمُّ سلَمَةَ رضي الله عنها كما صح ذلك في البخاري: أنّ النِّساءَ كُنّ يَنْصَرِفْنَ مُباشَرةً بعدَ السَّلام وبِسُرْعة، ماذا يستنبطُ العاقل؟! على التّرحيبِ بالاختلاطِ وأنّه لا بأسَ بِه، أم على البُعْدِ عنه والحَذَرِ مِنه؟!
بل حتّى في الشّارِعِ أو الطّريق الّذي يَحْتَجُّ بهِ بعضُهُم في جَوازِ الاخْتِلاط، لمّا رأى النّبيُّ اخْتِلاطَ الرِّجالِ بالنِّساءِ في الطّريقِ لمّا خرجوا من المسجدِ قال لَهُنّ: ((اِستأخِرْن)) أي: تأخَّرْنَ عن وَسَطِ الطَّريق، ((عليكُنّ بِحَافَاتِ الطّريق)) أي: بأطْرافِه وجوانِبِه. يقول راوي الحديث أبو أُسيْد الأنصاري : فكانت المرأةُ تَلْصَقُ بالجِدار وتُبالِغُ في ذلك حتّى إن ثَوْبَها لَيَتعلَّقُ بالجِدار. رواهُ أبو داود وهو صحيح. كلُّ هذهِ النّصوصِ والرِّواياتِ الصّحيحة إذا جَمَعْناها فبماذا نَخرُج؟ نخرج بأنّ الاخْتلاط من الأمور المحرمة المنكرة والخطيرة على المجتمعات لو فتح بابها.
فالنّهيُ عن الاخْتلاطِ ليس مِن التّقاليد، بل هو مِن الثَّوابتِ الشّرعيَّةِ رَغْمًا عن أنْفِ كل أحد، والمُحاوَلاتُ اليائسةُ في حَجْبِ هذهِ الحقيقةِ لَن تُفْلِحَ بإذْنِ الله، واللهُ غالِبٌ على أمْرِه ولكنّ أكْثرَ النّاسِ لا يعلَمون.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
|