أمّا بَعد: فاتَّقوا الله ـ عِبادَ الله ـ حقَّ التقوَى، وراقِبوه في السرِّ والنَّجوى.
أيّها المسلِمون، مَواسِم الخيراتِ عَلَى العِباد تترَى، فَما أن تنقَضِيَ شعيرة إلاَّ وتتَراءَى لهم أخرَى، وها هِيَ قلوبُ العبادِ أمَّت بيتَ الله العَتيق ملبِّيةً دعوةَ الخليلِ عليه السلام: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج: 27]. بَيتٌ جعَلَه اللهُ مَثَابَةً للنّاسِ وأَمنًا، حَولَه تُرتَجى مِنَ الكريمِ الرَّحماتُ والعطايَا، حرمٌ مبارَكٌ فيه خَيرَاتٌ وَآياتٌ ظاهِراتٌ، إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [آل عمران: 96، 97]، حَجُّه مِن عِمادِ الإسلام، قال عز وجلّ: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ [آل عمران: 97].
جاءَ الشَّرعُ بالأَمرِ بِبلوغِ رِحابِه لأدَاءِ فريضةِ الدِّينِ، قال عليه الصلاةُ والسلام: ((يا أيّها الناس، قد فرَض الله عليكُم الحجَّ فحُجّوا)) رواه مسلِم. فيه بذلٌ وعَطاء وعَناء وثوابٌ، سئِل النبيُّ : أيُّ العمَلِ أفضَل؟ قال: ((إِيمانٌ باللهِ ورَسولِه))، قيل: ثمّ ماذَا؟ قالَ: ((الجهادُ في سبيلِ الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حجٌّ مبرور)) متفق عليه.
في أَداءِ ركنِ الإسلامِ الخامِس غُفرانُ الذّنوب وغَسلُ أدران الخطايا والعِصيان، يقول النبيّ : ((مَن حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجَع كيوم ولدَته أمُّه)) رواه البخاري. ومَن لازَم التقوَى في حجِّه أعدَّ الله لَه الجنَّةَ نُزُلاً، قال عليه الصلاة والسلام: ((العمرةُ إلى العمرةِ كفَّارةٌ لما بينها، والحجُّ المبرور ليس لَه جزاءٌ إلا الجنة)) متّفق عليه، قال النوويُّ رحمَه الله: "لا يقتصِر لصاحبِه من الجزاءِ على تَكفيرِ بعضِ ذنوبِه، بل لا بدّ أن يدخلَ الجنَّة".
والأعمالُ توزَن بالإخلاصِ، وإذا شابَهَا شِركٌ أو رِياءٌ أفسدَها، قالَ جلَّ وعلا: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزّمَر: 65]. ولا يَتِمّ بِرُّ الحجّ إلا بكسبٍ طيِّبٍ تنزَّه عن شَوائبِ المحرمّات ودَنَسِ الشبهات.
والصّحبةُ الصالحَة في الحجّ عَونٌ على الطاعةِ وحُسنِ العبادة، والمروءةُ في السَّفَرِ بَذلُ الزادِ وقِلّةُ الخلاف على الأصحاب، والإحسانُ إلى الرفقةِ عبادَة متعدّيةُ النفع، قال مجاهدٌ رحمه الله: "صحِبتُ ابنَ عمر رضي الله عنهما في السّفَر لأخدِمه فكان يخدِمني"، قال ابن رجَبٍ رحمه الله: "وكانَ كثيرٌ من السّلَف يشتَرِط على أصحابِه في السّفَر أن يخدِمَهم اغتِنامًا لأجرِ ذلك".
وخيرُ زادٍ يحمِلُه الحاجّ معَ رُفقته زادُ الخَشيةِ والتقوى، قال سبحانه: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]، ومِن وَصَايَا المصطَفى لمعاذِ بنِ جبَلٍ رضي الله عنه: ((اتَّقِ الله حيثما كنتَ، وأتبعِ السيئة الحسنة تمحُها، وخالقِ الناس بخلقٍ حسن)) رواه الترمذي.
ومِن برِّ الحجِّ إطعامُ الطَّعام فيه وإفشاءُ السَّلامِ وطِيبُ الكلامِ ومُعامَلةُ الخلقِ بالإحسانِ إِليهم، فلا تحقِرَنَّ في حجِّك من المعروف شيئًا، فخيرُ الناسِ أنفعُهم للنّاس، وأعزُّهم أصبرُهم على أذاهُم، وخادِمُ الحجيجِ المخلِصُ للهِ في رعايَتِهم شَريكٌ لهم في الأجرِ والثَّواب، يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((إنَّ الله ليدخِل بِالسَّهم الواحدِ ثلاثةً الجنَّةَ: صانِعَه يحتسِب في صنعَتِه الخَيرَ، والرامِي بِه، والممِدَّ به)) رواه الترمذي.
ومَن أمَّ البيتَ حقيقٌ بِلزوم ثلاثِ خِصال: ورَعٍ يحجِزُه عن معاصِي الله، وحِلمٍ يكفُّ به غَضبَه، وحُسنِ الصحبةِ لمن يصحَبه.
أيّها المسلمون، خير ما يتقرَّب به العبادُ إلى ربهم إظهارُ التوحيدِ في نُسُكِهم وإخلاصُ الأعمال لله في قُرُباتهم، ومَا كانَ مِنها لغيرِ الله يَضمَحلُّ، قالَ سبحانه: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196]. وإظهارُ النسُك بالقولِ فيه وحدانيّةٌ للخالق: لبّيك اللهم لبَّيك، لبّيك لا شريكَ لك لبيك. وخيرُ ما نطَق به الناطِقون يومَ عرفةَ كلِمةُ التوحيد، قال عليه الصلاة والسلام: ((خيرُ الدّعاءِ دعاءُ يومِ عرفة، وخير ما قُلتُ أنا والنبيّون من قَبلي: لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ له، له الملكُ وله الحمد، وهو علَى كلّ شيء قدير)) رواه الترمذي.
والتَّوكُّل على الله مِن أجَلِّ العبادات؛ قال عز وجل: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود: 123]. واليَأسُ ليس مِن دينِ الله في شَيء، قال سبحانه: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف: 87]. وما قدَّم أحدٌ حقَّ اللهِ على هوَى نفسِه ورَاحتِها إلاّ ورأَى سَعادةَ الدّنيا والآخرة.
هَاجَرُ تلتمِس الماءَ لها ولرَضيعها في ديار غربةٍ في وَادٍ غيرِ ذي زرع بين جبلين، أنهَكها العطش وأَضناهَا الإشفاقُ على صبيِّها، وبعدَ توكّلٍ على الله وبذلِ الأسبابِ وجَدت نَبعًا متدفِّقًا لها وللأجيَالِ من بعدها، فكان ذِكرُها معطَّرًا عبر التاريخ، يقول النبيّ : ((رَحِمَ الله أمَّ إسماعِيل، لو تَرَكَت زَمزَمَ لكانت زَمزَمُ عينًا معينًا)) رواه البخاري.
واللهُ جلّ وعلا بِيَده النّفعُ والضّرّ، فارِجُ الكُروبِ وكاشِف الخطوبِ، متعَالي على عبادِه، بيدِه مقاليدُ السماواتِ والأرضِ، متَّصفٌ بالكبرياء والعظمة، يُعلِن ذلك الحاجُّ بالتكبيرِ في أنساكِه في الطوافِ والسعيِ ورميِ الجمار وفي يومِ النَّحر وأيّام التشريقِ، ليبقَى القلبُ مجرَّدًا للهِ، متعلِّقًا به، منسلِخًا عن التعلُّق بما في أيدِي المخلوقين.
وفي رَميِ الجِمار تذكيرٌ لبني آدمَ بعدوٍّ متربِّصٍ بهم يدعوهُم إلى النّارِ، قال عزّ وجلّ: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر: 6]. فكُن على حَذَرٍ من تقصيرٍ في واجِبٍ أو وقوعٍ في مَعصِيَة تورِدُك المهَالِك.
واعلَم أنّ لحظاتِ الحجِّ عَزيزةٌ وساعاتِه ثمينَة، قالَ عز وجلّ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة: 203]، فسابِق فيه إلى كلِّ خيرٍ وقُربةٍ مِن الذّكر والاستغفارِ والتكبيرِ وتِلاوةِ القرآن، قالَ سبحانَه: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة: 198].
وبعدَ انقضاءِ النُّسُك احمَدْه على الهِدايةِ واشكُره على العبادة، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة: 200]. وفي ثَنايَا النّسُك استِغفارٌ ورجوع إلى الله، قال عزّ وجلّ: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ [البقرة: 199]. والاستغفارُ من أكبرِ الحسنات، ومَن أحسَّ بتقصيرٍ في قولِه أو عمَلِه أو حَالِه أَو رِزقِه أو تقلُّب قلبٍ فعليه بالتوحيدِ والاستغفار، ففيهما الشِّفاءُ.
والعِبادُ في الحجِّ على قدرِ هِمَمِهم، منهم مَن يطلُب الدّنيا العاجِلة، ومنهم من يَطلُب مرضاةَ الله والآخرةَ، قال سبحانه: فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [البقرة: 200-202].
والموفَّقُ من أدَّى حَجَّه بنيّةٍ صَالحَة خَالِصةٍ ونفقةٍ طيِّبة، وعطَّر لسَانَه بذكرِ الله، وصَاحَبَ عبادَتَه إِحسانٌ ونفعٌ للمَخلوقِين. فكونُوا في حجِّكُم كذلك، وأخلِصُوا دينَكم لله، واجتَهِدوا في الأعمالِ الصّالحة، وسَارِعوا إلى مغفرةٍ من ربِّكم وجنّةٍ عَرضُها السماواتُ والأرض؛ تفوزوا بخَيرَي الدنيا والآخرة.
أعوذ بالله من الشيطانِ الرَّجيم، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِي يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة: 197].
بارَكَ الله لي وَلكُم في القُرآنِ العَظيمِ، ونَفَعَني الله وإيَّاكم بما فِيهِ مِنَ الآياتِ والذِّكر الحَكيم، أقول ما تسمعون، وأستَغفِر اللهَ لي ولَكم ولجميعِ المسلِمينَ من كلّ ذَنب فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
|