أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة آل عمران: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [آل عمرن:104].
أيها المسلمون، تضمنت هذه الآية الكريمة وجوب الدعوة إلى الخير وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والسؤال: لماذا ورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد ذكر الخير في هذه الآية مع أنهما يندرجان في مفهوم الخير؟ والجواب: هذا من باب عطف الخاص بعد ذكر العام، وذلك لإظهار فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولبيان شرفهما وأهميتهما على سائر الخيرات.
أيها المسلمون، يقول الله عز وجل في سورة آل عمران أيضا: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
تفيد هذه الآية الكريمة بأن الأمة الإسلامية لا تتصف بالخير إلا إذا توافرت فيها ثلاثة شروط؛ وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله رب العالمين في أي مكان وزمان، وإذا فقد شرط من هذه الشروط الثلاثة تنتفي عن الأمة الإسلامية صفة الخيرية، والسؤال: لماذا قدم ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتأخر ذكر الإيمان مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات والخيرات؟ والجواب: لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمثلان سياجا وحافظا للإيمان، فكان تقديمهما في الذكر موافقا للمعهود لدى الناس في جعل سياج كل شيء مقدما عليه.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد شدد القرآن الكريم النكير واللعنة على الذين يهملون فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذين لا يتناهون عن الأعمال المنكرة بل يسكتون عنها، فيقول الله عز وجل في سورة المائدة: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة: 78، 79]. والملعون هو المحروم من لطف الله وعنايته، والمعلوم أنه إذا ورد لفظ اللعنة في القرآن الكريم أو في السنة النبوية المطهرة فإنه يدل على تحريم الشيء الذي من أجله لعن مرتكبه.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد أوضح رسولنا الأكرم محمد بأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى عقاب جماعي، ويؤدي إلى عدم استجابة الله عز وجل لدعاء الذين عوقبوا، وذلك في قوله : ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)). فهذا الحديث النبوي الشريف صريح في أن الذين يتركون فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سيؤدي بهم إلى أمرين؛ الأمر الأول: أن الله عز وجل يبعث عليهم عقابا منه، والأمر الآخر: أن الله سبحانه وتعالى لا يستجيب دعاءهم.
فاسألوا أنفسكم يا مسلمون: لماذا لا يستجيب الله لدعائنا ونحن ندعوه وباستمرار كي ينصرنا على أعدائنا وأن يفرج كربنا، ولكن لا نلمس أي استجابة لدعائنا؟! والجواب: لأننا تركنا الدعوة إلى الله، تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم كيف يستجيب الله رب العالمين دعاءً مِن قلب غافل عن ذكر الله، من قلب لاه في شؤون الدنيا الفانية؟!
أيها المسلمون، يا أبناء فلسطين الطاهرة المقدسة المباركة، كيف يستجيب الله الدعاء من مسلم ـ في شهادة الميلاد ـ وهو يسب الذات الإلهية ويسب الدين والعياذ بالله؟! ثم كيف يستجيب الدعاء من الذين يسمعون هذه المسبات وهم له ساكتون والله عز وجل يقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25]؟! والسؤال: متى تنتهي هذه المسبات من الأطفال والنساء والشيوخ؟! إنها لكبيرة وكبيرة تُخرج الذي يسب الذات الإلهية من ربقة الإسلام إلى الردة والكفر والعياذ بالله، والله غني عن العالمين.
أيها المسلمون، يا أبناء بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، لو أن شخصًا سب أبا أحد منكم لقامت الدنيا ولم تقعد، وتثور الثائرة على من يسب. أما أن يسب هذا الشخص الذات الإلهية أو الدين فكأن الأمر لا يعنيهم! لقد انقلبت الموازين. وهذه الظاهرة السيئة المنكرة هي معاكسة تماما لأخلاق رسولنا الأكرم محمد ، الذي كان يغضب حينما تنتهك حرمة من حرمات الله عز وجل، ولم يكن يغضب لنفسه، فتقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في وصف أخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث مطول: (وما انتقم رسول الله لنفسه في شيء قط إلا أن تنتهك حرمة لله فينتقم لله تعالى).
أيها المسلمون، يا أبناء أرض الإسراء والمعراج، مع بدء العام الدراسي أخذ بعض الشباب الساقطين والمتساقطين يتسكعون في شوارع القدس لمشاكسة طالبات المدارس، وكأن الأمر أصبح مألوفا في هذه المدينة الطاهرة، وأن الناس يتقبلون هذه الظاهرة الشاذة دون حراك، وكأن الغيرة والنخوة والحمية قد انطفأت لدى الآباء وأولياء الأمور المنشغلين في حطام الدنيا الفانية والمنصرفين عن أولادهم؛ حيث لا يعرف الأب في أي صف ابنه! وإذا قلنا: إن عدد الطالبات قد زاد عن الألف طالبة في محيط مدارس البنات فمعنى هذا أنه يوجد ألف أب وألاف من الإخوة والأقارب، فماذا هم فاعلون؟! ثم نتساءل: ألا يوجد آباء لهؤلاء الشباب المتسكّعين في الشوارع؟! لماذا لا يردعهم آباؤهم وإخوانهم وأقاربهم؟! ولكن إذا ضرب واحد منهم فإن الأقارب حينئذ يتعرفون عليه ويقفون إلى جانبه بالباطل، وتبدأ العطوات والصلحات. فالشكاوى قد كثرت، وهؤلاء الشباب أخذوا في التمادي، لذا يتوجب على الآباء ـ سواء كانوا آباء للطالبات أو آباء لهؤلاء الشباب ـ أن يتحركوا لمنع هذه الظاهرة المنكرة، وهذا من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن مجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واسعة وكبيرة ومتعددة، تشمل القمة إلى القاعدة، وتشمل القاعدة إلى القمة، وفي مجالات الحكم والمجتمع، وفي المجالات العامة والخاصة، فيتوجب على كل مسلم أن يكون على ثغرة من ثغور الإسلام، فلا يؤتين من قبله، ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)). فالأصل أن كل مسلم هو داعية إلى الله عز وجل، ويتوجب عليه أن يؤثر في المحيط الذي يعيش فيه، وأن يعمل جاهدًا على محاربة البدع والمنكرات الذائعة بين الناس، بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل: 125].
|