أمّا بَعد: فاتقوا الله حقَّ التَّقوى، وتمسّكوا من الإسلامِ بِالعروةِ الوثقَى.
أيّها المسلِمون، إنَّ الطاعَاتِ تتفاضَلُ عند الله بتَضَمُّنها تحقيقَ العبوديّة والتوحيدِ للهِ ربِّ العالمين وعُمومِ نفعِها للخَلق مِثل أركانِ الإسلام، وإنّ الذنوبَ والمعاصِي تعظُم عُقوباتُها ويَتَّسعُ شرُّها وفسادُها بحسَب ضررها لصاحبها وللخَلق. وإنّ الظُّلمَ مِنَ الذنوبِ العِظام والكبائِرِ الجِسام، يحيطُ بِصاحبِه ويُدَمِّره، ويفسِد عليه أمرَه، ويُغيِّر عليه أحوالَه، ويدرِكه شؤمُه ويُدركه عقوباتُه في الدنيا والآخرة.
ولأجلِ كثرةِ مَضارّ الظّلم وعَظيم خطرِه وتَنَوُّع مَفَاسدِه وكبير شرِّه حرَّمه الله بين عباده، فقال تعالى في الحدِيثِ القدسيّ: ((يا عبادِي، إني حَرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا، فلاَ تظالموا)).
فالله حرّم الظلمَ على نفسِه وهو يقدِر عليه تَكرُّمًا وتفضُّلاً وتَنزيهًا لنفسِه عن نَقيصة الظلم، فإنّ الظلمَ لا يكون إلا من نفسٍ ضعيفة لا تقوَى على الامتِناعِ عن الظلم، ولا يكون الظّلم إلاّ من حاجةٍ إليه، أو يَكون مِن جهلٍ به، واللهُ تبارك وتعالى منزَّه عن ذلك كلِّه، فهوَ القويّ العَزيز، الغنيّ عن خَلقِه، فلا يحتَاج إلى شيءٍ، وهو العليمُ بكلِّ شيء.
وحرّم الله الظلمَ بين عبادِه ليحفَظوا بذلك دينَهم ويحفَظوا دُنياهم، وليَصلَحوا بترك الظلم، وليُصلِحوا آخرَتهم ودنياهم، وليتمَّ بين العِباد التعاوُن والتَّراحمُ بترك الظّلم وأداءُ الحقوقِ لله ولخلق الله تعالى.
الظّلمُ يضرُّ الفردَ ويهلِكه ويوقِعه في كلِّ ما يَكرَه، ويرَى بسبَب الظلمِ ما يسوؤه في كلِّ ما يُحِبّ. الظلم يخربُ البيوتَ العامرةَ ويجعَل الديارَ دَامِرةً. الظلمُ يُبيد الأمَم ويهلك الحرثَ والنّسل.
ولَقَد حذّرنا الله مِنَ الظلم غايةَ التَّحذير، وأخبرنا الله تعالى بِأنَّ هَلاكَ القرونِ الماضِيَة بِسبب ظُلمِهِم لأنفسهم لنحذرَ أعمالهم، فقال تعالى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [يونس: 13، 14]، وقال تعالى: وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا [الكهف: 59]، وقال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 45، 46]، وقال تعالى: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت: 40].
وقَد أجارَ الله هَذه الأمّةَ الإسلاميّةَ مِنَ الاستِئصال، ولكنَّها تُبْتلَى بعقوباتٍ دونَ الهلاك العامّ بسبَب ذنوبٍ تقَع من بعضِ المسلمين وتشيعُ حتَّى لا تُنكَر ولا يَنزجِر عنها أصحابُها كما قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [الأنفال: 25].
وعَن زينبَ بنتِ جَحش رضي الله عنها أنّ النبيَّ دخل عليهَا فزِعًا يقول: ((لا إلهَ إلا الله، وَيلٌ للعرَب من شرٍّ قَدِ اقترَب، فُتِحَ اليومَ مِن رَدمِ يأجوجَ ومأجوج مثلُ هذه)) وحلّقَ بإصبعَيه الإبهامِ والتي تلِيها، فقُلتُ: يا رسولَ الله، أنهلِك وفينا الصالحُون؟! قال: ((نعم، إذا كثُرَ الخبث)) رواه البخاري ومسلم. فدلَّ الحديث على أنَّ بعضَ الأمةِ صالحون، وبعضهم تقَع منهم ذنوبٌ تُصيبُ عقوباتُها الكَثيرَ مِنَ الأمّة في بَعضِ الأزمان وبعض الأمكِنة. وفُسِّر الخبَثُ بالزنا وعَمَلِ قومِ لُوط لقولِه تعالى: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ [النور: 26]، وقوله تعالى عن لوط عليه الصلاة والسلام: وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ [الأنبياء: 74]. وفُسِّر الخبثُ بالخمرِ ونحوِه من المسكِرات والمخدِّرات إذا تفشّت بين الناس لقولِه : ((الخمرُ أمُّ الخبائث)). ومعنى الحديثِ عامّ في كلّ محرَّم يظلِم به المسلم نفسَه.
أيّها المسلمون، أَصلُ الظلمِ وَضعُ الشيءِ في غير موضِعه، وهُو مخالفةُ شرعِ الله تعالى. والظلمُ ثلاثة أنواع:
النَّوع الأول: ظُلمٌ لا يغفِره الله إلا بالتّوبة، وهو الشركُ بالله تعالى، قال عزَّ وجلَّ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا [النساء: 116]، وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13]. فمن مَاتَ عَلَى الشِّرك بالله خلَّدَه الله في النارِ أبَدًا كما قَالَ عزّ وجلّ: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة: 72].
وَكانَ ظُلمُ الشّركِ غيرَ مَغفورٍ لمن ماتَ عَليه لأجلِ مُضادّة ربِّ العالمين في الغايةِ والحِكمة من خلقِ الكَون لعبادة الله تعالى، ولأنّ الشركَ تنقُّصٌ لعظمةِ الخالق ولقَدرِه جلّ وعلا كما قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67].
وأيُّ ظلمٍ أعظَمُ مِن أن يجعَلَ الإنسانُ لربِّه ربِّ العالمين نِدًّا يَعبُدُه من دون الله الذي خَلقَه؟! وأيّ ذنبٍ أَكبر من أن يتَّخِذ الإنسانُ مخلوقًا إِلَهًا مِنَ الصَّالحين أو غيرهم، يدعوه من دونِ الله، أو يرجوه، أو يستغيث به، أو يخافه كخَوف الله، أو يستعينُ به، أو يتوكّل عَليه، أو يستعيذ به، أو يذبح له القربَانَ، أو ينذر له، أو يُعِدِّه لرغبته ورهبته، أو يَسأله المدَدَ والخَيرَ، أو يسأله دفعَ الشرِّ والمَكروه؟! أيّ ذَنبٍ أعظم من هذا الشّركِ بالله تَعَالى؟! قال عز وجلّ: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 6]، وقال عز وجل: وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنْ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [النحل: 51-55]، ومعنى وَاصِبًا أي: دائمًا. وعن جابر رضي الله عنه قال: ثِنتان موجِبتان، قال رجل: يا رسولَ الله، ما الموجِبتان؟ قال: ((مَن مات يشرك بالله شيئًا دخلَ النار، ومن ماتَ لا يشرك بالله شيئًا دخَل الجنّة)) رواه مسلم، وعن ابنِ مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من مَات وهو يدعو لله نِدًّا دخلَ النار)) رواه البخاري.
وَكَما أنّ الشرك بالله تعالى أعظَمُ السيّئات فإنّ التوحيدَ لله تعالى أعظمُ الحسنات كما في الحديثِ القدسيّ: ((يا ابنَ آدَم، إنَّك لَو أتَيتَني بقُرابِ الأرض خَطَايا ثم لقيتَني لا تشرِك بي شيئًا لأتيتُك بقرابها مغفرةً)).
والنّوع الثاني من الظلم: الذّنوبُ والمعاصي التي بَين العبدِ وربِّه مَا دونَ الشركِ بالله، إن شاء الله عفَا عنها بمنِّه وكَرَمِه، أو كفّرها بالمصَائِبِ والعقوباتِ في الدنيا، أو في القبر، أو تجاوَز عنها الرَّبّ بشفاعةِ النبيّ أو شَفاعةِ غيره من الشّافعين، أو يعذِّبُ الله العاصيَ في النّار بِقدرِ ذنبه ثم يخرِجه من النارِ فيدخِله الجنّة إن كان من الموحِّدين.
والنّوع الثالث من الظلم: مَظالم بين الخَلق في حُقوقٍ لبعضهم على بعض، تَعَدَّوا فيها، وأخذَها بعضُهم من بعض، ووقَعوا في ظلمِ بعضهم لبَعض، فهذه مظالمُ لا يَغفِرها الله إلاّ بأداءِ حقوقِ الخلق إليهِم، فيؤدّي الظالم حقَّ المظلومِ في الدّنيا، وفي الحَديثِ عن النبيِّ : ((لتُؤدُّنّ الحقوقَ قبلَ أن يأتيَ يومٌ لا دِرهَمَ فيه ولا دينارَ، إنما هي الحسناتُ والسيّئات، يُعطَى المظلومُ مِن حَسَناتِ الظالم، فإن لم يكن له حسناتٌ أُخِذ من سيِّئات المظلوم ووُضِعَت على الظالم، ثم طُرِح في النار)).
والمظالمُ بينَ العباد تكون في الدِّماء، وفي الحدِيثِ عن النبيّ : ((لا يَزال المسلمُ في فُسحةٍ من دينهِ ما لم يُصِب دمًا حرامًا)). وتكون المظالم في الأموالِ كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرامٌ عليكم كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا))، وتكون المظالم باقتطاعِ الأرض والعقارات، وفي حَديث سَعِيدِ بنِ زَيد رَضي الله عَنه أنّ النبي قال: ((مَنِ اقتطعَ شِبرًا مِنَ الأرض طَوَّقه الله إيّاه من سبعِ أرضين)). وتكون المظالم بين الأَرحامِ بِتَضييعِ حُقوق الرَّحِم، وتكون المظالم بين الزوجَين بتَركِ حقوقِهما، وتكون المظالم بين المستَأجِرين والعمّال بِسَبَب سَلبِ حُقوقِهم وتَكلِيفِهم مَا لا يُطيقون، والرّسول يقول: ((أَعطوا الأجيرَ أجرَه قبل أن يجِفَّ عَرقُه)). وقد وقَع من بعض الناس هضمٌ لبَعض العمّال لمنعِهم حقوقَهم أو التحايُل عَلَيها أو تأخيرها أو عدَم مخافة الله فيهم وارتكاب ما حرّم الله تبارك وتعالى نحوهم، وذلك ظلمٌ شنيع يخرِّب البيوتَ ويمحَق بركةَ المال ويُنذِر بعقوباتٍ لا طاقةَ للإنسان بها. وقد تكون المظالم بالتّعدِّي علَى حقوق معنويّةٍ أو بغيبةٍ أو وِشايةٍ بين اثنين.
فاحذَروا ـ عباد الله ـ الظلمَ، فإنّ الله تعالى ليس بغافلٍ عمَّا تَعملون، والظُّلمُ محرّمٌ ولو وقَع عَلَى كافرٍ، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم: 42، 43].
بَارَكَ الله لي وَلَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فِيهِ منَ الآياتِ والذّكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وقولِه القويم، أقولُ قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه، إنه الغفور الرحيم.
|