.

اليوم م الموافق ‏22/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

ماذا بعد رمضان؟!

5032

العلم والدعوة والجهاد, فقه

الصوم, القرآن والتفسير

سلطان بن سعود الشهراني

قرية قنيع

5/10/1427

جامع الملك عبد العزيز

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- سرعة انقضاء الأعمار. 2- ارتحال شهر رمضان. 3- الحث على إتباع الحسنات بالحسنات. 4- المداومة على العمل الصالح. 5- علامة القبول والخسران. 6- الأعمال الصالحة لا تنقضي بانقضاء رمضان. 7- صوم النافلة في غير رمضان. 8- مداومة الذكر والدعاء وقراءة القرآن. 9- المداومة على قيام الليل أو بعضه. 10- المداومة على الطاعة دليل المحبة. 11- أسباب قسوة القلوب.

الخطبة الأولى

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71]

أيها المسلمون، إن الشهورَ واللياليَ والأعوام مقاديرُ للآجال ومواقيتُ للأعمال، تنقضي حثيثًا وتمضي جميعًا، والموت يطوف بالليل والنهار، لا يؤخّر من حضرت ساعته وفرغت أيامه، والأيام خزائن حافظةٌ لأعمالكم، تُدعَون بها يوم القيامة، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا [آل عمران:30]، ينادي ربكم: ((يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفِّيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)) رواه مسلم.

لقد رحل شهركم بأعمالكم، وخُتم فيه على أفعالكم وأقوالكم، فمن كان مسيئًا فليبادر بالتوبة والحسنى قبل غلق الباب وطيِّ الكتاب، ومن كان في شهره إلى ربه منيبًا وفي عمله مصيبا فليُحكم البناءَ ويشكر المنعمَ على النعماء، ولا يكن كالتي نقضت غزلها من بعد قوَّة أنكاثًا، وما أجملَ الطاعة تعقبها الطاعات، وما أبهى الحسنة تُجمع إليها الحسنات، وأكرِم بأعمال البر في ترادف الحلقات، إنها الباقيات الصالحات التي ندب الله إليها ورغَّب فيها، وكونوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، فالله لا يتقبل إلا من المتقين، وما أقبح فعل السيئة بعد الحسنة، ولئن كانت الحسنات يُذهبن السيئات فإن السيئات قد يحبطن الأعمال الصالحات.

أيها المسلمون، كنتم في شهر البر والخير، تصومون نهارَه، وتقومون ليلَه، وتتقرَّبون إلى ربكم بأنواع القربات طمَعًا في الثواب وخشيةً من العقاب، وقد رحلت تلك الأيام، وكأنها ضربُ خيال، لقد قطعت بنا مرحلةً من حياتنا لن تعود، هذا هو شهركم، وهذه هي نهايته، كم من مستقبلٍ له لم يستكمله، وكم من مؤمِّل أن يعودَ إليه لم يدركه، وهكذا أيام العمر مراحلُ نقطعها يومًا بعد يوم في طريقنا إلى الدار الآخرة.

إن استدامةَ أمر الطاعة وامتدادَ زمانها زادُ الصالحين وتحقيق أمل المحسنين، وليس للطاعة زمنٌ محدود، ولا للعبادة أجل معدود، بل هي حقّ لله على العباد، يعمرون بها الأكوان على مرّ الأزمان، وشهر رمضان ميدانٌ لتنافس الصالحين وتسابق المحسنين، يعملون بأرواحهم إلى الفضائل، ويمنعون عنها الرذائل، ويجب أن تسير النفوس على نهج الهدى والرشاد بعد رمضان، فعبادة ربِّ العالمين ليست مقصورة على رمضان، وليس للعبد منتهى من العبادة دون الموت، وبئس القوم يعبدون الزمان لا يعرفون الله إلا في رمضان.

أيها المسلمون، إن للقبول والربح في هذا الشهر علاماتٍ، وللخسارة والردّ أمرات، وإن من علامة قبول الحسنة فعلَ الحسنة بعدها، ومن علامة السيئة السيئة بعدها، فأتبعوا الحسنات بالحسنات تكن علامةً على قبولها، وأتبعوا السيئاتِ بالحسنات تكن كفارة لها ووقايةً من خطرها، إِنَّ ٱلْحَسَنَـٰتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيّئَـٰتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذكِرِينَ [هود:114]، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنةَ تمحُها، وخالق الناسَ بخلق حسن)) رواه الترمذي.

ومن عزم على العود إلى التفريط والتقصير بعد رمضان فالله حيّ لا يفنيه تداولُ الأزمان وتعاقب الأهلة، وهو يرضى عمن أطاعه في أي شهر كان، ويغضب على من عصاه في كلِّ وقت وآن، ومدار السعادة في طول العمر وحسن العمل، ومداومة المسلم على الطاعة من غير قصرٍ على زمان معيّن أو شهر مخصوص أو مكان فاضل من أعظم البراهين على القبول وحسن الاستقامة.

أيها الأحبة، إن كان رمضان قد ودعنا فإن الأعمال الصالحة لا تودع، فمن ذاق حلاوة الصيام واستشعر ذلك المعنى العظيم المنشود من وراء تشريع الصيام وهو تحقيق تقوى الله تعالى كما قال جلَّ من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] فليعلم أن الباب مفتوح لمواصلة العمل، والصيام ليس قاصرًا على شهر رمضان, فقد سن لنا رسول الله صيام ست أيام من شوال فقال: ((من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال فكأنما صام الدهر كله))، وسن لنا أيضًا صيام ثلاثة أيام من كل شهر: ((ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله)) رواه مسلم.

والأفضل أن يصوم الأيام البيض، وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر من كل شهر لحديث أبى ذر الغفاري عن أن النبي قال له: ((يا أبا ذر، إذا صمت ثلاثة من كل شهر فصم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر)) رواه أحمد والنسائي.

وسَنّ لنا أيضًا صيام يوم عرفة، وأخبرنا بأنه يكفر السنة الماضية والباقية, وصيام يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية, وسَنَّ لنا صيام الاثنين والخميس من كل أسبوع، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي كان يتحرى صيام الاثنين والخميس، ومن كان يقوى على أكثر من ذلك فقد سُن لنا أفضل الصيام وهو صيام داود عليه السلام؛ كان يصوم يومًا ويفطر يوما.

وكذلك ـ عباد الله ـ من استشعر حلاوة المناجاة مع رب العالمين في صلاته وسجوده وأبصر الأثر الجميل في الدعاء والإلحاح على الله تعالى بطلب المغفرة والعفو فليعلم أن ربه تعالى يناديه في كل وقت: (ادعوني أستجب لكم)، وهو سبحانه القائل: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186]، وعن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال: ((ما على الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها، ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم))، فقال رجل من القوم: إذا نكثر؟ قال: ((الله أكثر)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح"، وقول السائل: (نُكْثِرُ) أَيْ: مِنْ الدُّعَاءِ لِعَظِيمِ فَوَائِدِهِ، وقوله : ((اللَّهُ أَكْثَرُ)) قَالَ الطِّيبِيُّ: "أَيْ: اللَّهُ أَكْثَرُ إِجَابَةً مِنْ دُعَائِكُمْ، وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَاهُ فَضْلُ اللَّهِ أَكْثَرُ أَيْ: مَا يُعْطِيهِ مِنْ فَضْلِهِ وَسَعَةِ كَرَمِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يُعْطِيكُمْ فِي مُقَابَلَةِ دُعَائِكُمْ".

وكذلك ـ عباد الله ـ من تعطر فمه بتلاوة كلام ربه وأمضى ساعات طويلة خلال رمضان يتلو كتاب الله حتى سهلت عليه القراءة واطمأنّ قلبه بذكر الله والتأمّل في معاني القرآن الكريم، فهذا كتاب الله تعالى معه في كل وقت وزمان، فليكن له ورد يومي من القرآن الكريم، فقد كان هذا هدي السلف رحمهم الله، ومن قرأ في كل يوم جزءًا فسيختم القرآن في شهر، ومن قرأ في كل يوم عشر صفحات لا تستغرق أكثر من عشرين دقيقة فسيختم في شهرين، ومن مضت أيامه ولياليه بلا تلاوة للقرآن فقد حرم نفسه خيرًا كثيرًا، فالحرف الواحد من القرآن يقابله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، وهكذا، ومن أراد كثرة حسناته فعليه بكتاب الله، ومن أراد أن يكون القرآن شفيعًا له عند الله فعليه بالقرآن، ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)). وقد علمنا أن الشفيع كلما كان ذا شأن ومكانة كانت شفاعته أحرى بالقبول والإجابة، إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَـٰرَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:29، 30]. وإن كان لا إلا صدودًا وهجرا فاتق الله أن تكون ممن يشكوهم رسول الله يوم القيامة إلى الله جلَّ في علاه كما أخبر بذلك سبحانه وتعالى في قوله: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30].

أما أنت يا من قمت لربك مصليًا في الليل التراويح والقيام لوحدك أو مع المصلين فقد صففت قدميك وقمت لربك وركعت وسجدت ودعوت الله وأتعبت بدنك وشعرت بشيء من التعب، وربما استطلت صلاة إمامك، هل تذكرت يوم يقوم الناس لرب العالمين؟ وهل استشعرت ذلك التعب والنصب الذي كان يلاقيه حبيبنا محمد في قيام الليل؟ فلقد صلى من الليل حتى تفطرت قدماه أي: تشققت من طول القيام، هذا مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فيا ترى، ما حالنا نحن المساكين الضعفاء المفرطون؟! وهل تحسست ـ أيها القائم ـ في الليل تلك المعاني المطوية في قيام الليل التي أشارت إليها آيات كريمة: وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا [الإسراء:79]، وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً [الإنسان:25، 26]، فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءانَاء ٱلَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ [طه:130]؟! وهل علمت لم قال محمد عن عبد الله بن عمر وهو لا يزال شابًا في مقتبل عمره: ((نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل))، وهذا النبي يقول: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن)) أخرجه الترمذي وقال: "حديث حسن صحيح".

واعلم ـ أيها الأخ الحبيب ـ أن قيام الليل يحصل ولو بثلاث ركعات، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم، مع أن نبينا وقدوتنا ومن هو لنا أسوة حسنة تقول عنه عائشة رضي الله عنها ما زاد رسول الله عن إحدى عشرة ركعة لا في رمضان ولا في غير رمضان.

عباد الله، للصدقة على المسكين والقريب أثر حميد، وفي بذل المال في البر لذة في العطاء وسعة في الرزق ووعد من الكريم سبحانه بالخلف، فهل نستمر في هذا العمل الجليل ولو بالقليل؟! وواللهِ، لو عقلنا كلام ربنا حقًا لكان لنا ولمالنا شأن، يكفي في ذلك قوله تعالى: وَأَقْرِضُواُ ٱللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا [المزمل:20]، ولكنها النفوس المجبولة على الشح والإمساك والخوف من الفقر هي التي تحرمنا من الخير الكثير: وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

عباد الله، إن في الاستمرار على العمل الصالح بعد رمضان علامة على حب العبادة والتعلق بها، وهي قرينة واضحة على أن المسلم ضاعف العمل في رمضان رغبةً فيما عند الله تعالى، أما ذاك الذي انقطع اتصاله بالعبادات والقربات بعد رحيل رمضان فربما كان علامة على أنه صام وقام لما رأى الناس كلهم يصنعون ذلك، فكان حاله كحال من نهى النبي أن نكون مثله فيما روي عنه: ((لا يكن أحدكم كالإمعة يقول: إن أحسن الناس أحسنت وإن أساؤوا أسأت)).

فلننتبه لهذا الأمر أيها المسلمون، واتقوا الله أيها المؤمنون، واعمروا أيامكم وشهوركم وأعماركم كلها بما يقربكم من ربكم ويزيد في رصيدكم عند مولاكم، والكل محفوظة خزائنه ودواوينه، وسيأتي يوم تظهر فيه تلك الودائع وتنشر فيه تلك الصحائف، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَءوفُ بِٱلْعِبَادِ [آل عمران:30].

أقول قولي هذا...

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على نعمة الصيام، والحمد لله على نعمة القيام، والحمد لله على نعمة القرآن وتلاوته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو الواحد المنان والقوي الجبار، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خير من تعبد لربه فصام وقام، وعلى الصراط المستقيم قام وأقام، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد: فاتقوا الله ربكم واستقيموا على طاعته تسعدوا.

عباد الله، كلنا تلا كتاب ربه واستمع إلى القرآن خلال رمضان، ألم تمر بنا آيات كثيرة وكلمات كثيرة لا ندري ما معناها، ولا ندرك المقصود من سياقها؟! ألا تمر بنا أمثال وقصص في القرآن الكريم لا نفهم بعضها؟! وكم من الآيات يفهمها القارئ أو المستمع على غير المراد بها أو ينزلها على غير مواقعها؟! كم تمر بنا الآيات والسور ونحن لا نتأثر بها ولا تتحرك قلوبنا لها لجهلنا بتفسيرها ومعانيها؟! أظنّ أننا جميعًا نتفق على هذا الأمر ولا نختلف في وجوده، فيا ترى ما السبيل إلى تلافي هذا الخلل، فآيات القرآن الكريم تتلى على مسامعنا ونقرؤها فلا تتأثر قلوبنا ولا تتحرك مشاعرنا، وهي الآيات التي لو أنزلت على جبل راس لتصدع وهو الحجر القاسي والجامد المتحجر، وكلنا يأسى لحاله مع كلام الله تعالى حين يذكر القرآن أن في آياته عظة وعبرة لأولي الألباب والعقول والبصائر فلا يكون منهم، وحين نسمع قوله تعالى: وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ ٱلْعَـٰلِمُونَ [العنكبوت:43]، ما موقفنا من هذه الأمثال التي تضرب والقصص التي تسرد في أروع أسلوب وأرفعه إيجازًا وتفصيلاً ومع هذا كأن المخاطب غيرنا وكأن القرآن لم ينزل بلغتنا؟! فهل تنبهنا لذلك أيها المسلمون؟! وأين هذا مما طلب منا حيال كتاب الله تعالى: كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـٰتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو ٱلألْبَـٰبِ [ص:29].

ولا ريب أن لهذه القسوة أسبابًا، من أهمها جهلنا بمعاني القرآن الكريم وبعدنا عن تفسيره، فقليلاً ما نطالع في كتب التفسير أو نسأل عن معاني كلام الله تعالى، ومما يزيد في ذلك استعجالنا في التلاوة وترك التأمل فيما نتلو، ولو تأنى أحدنا وبذل جهده في معرفة المراد بكلام الله تعالى وتعاهد نفسه بذلك واطلع في كتب التفسير وخاصة الكتب المختصرة منها لاستفاد علمًا غزيرًا ولتلذذ بكلام الله، ألا نستحي من الله حين نقرأ كلامه ولا نعي منه إلا القليل، ولو قرأنا صحيفة أو مجلة أو قصة لما فاتنا من معانيها شيء ولسألنا عما نجهله؟!

إن الحاجة ماسة إلى معرفة معاني وتفسير القرآن الكريم، وإن الحاجة لماسَّة إلى العناية بدروس التفسير في مدارسنا ومساجدنا وقراءاتنا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وحاجة الأمة ماسة إلى فهم القرآن، الذي هو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم، الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسن ولا يخلَق عن كثرة الترديد ولا تنقضي عجائبه ولا يشبع منه العلماء.

ويجب أن يعلم أن النبي بين لأصحابه معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه، وقد قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعًا; ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة. وقال أنس: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جل في أعيننا. وأقام ابن عمر على حفظ البقرة عدة سنين، وذلك أن الله تعالى قال: كِتَـٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ إِلَيْكَ مُبَـٰرَكٌ لّيَدَّبَّرُواْ ءايَـٰتِهِ [ص:29]، وقال: أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ [محمد:24]، وقال: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُواْ ٱلْقَوْلَ [المؤمنون:68]، وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.

ومن المعلوم أن كل كلام فالمقصود منه فهم معانيه دون مجرد ألفاظه، فالقرآن أولى بذلك، وأيضًا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابًا في فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحوه، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟!" اهـ.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً