أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى وآمنوا بقضائه وقدره، فإن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان فلن يتم الإيمان حتى يؤمن العبد بالقدر خيره وشره، ولا يتم الإيمان بالقدر حتى يؤمن الإنسان بأربعة أمور.
الأول: علم الله المحيط بكل شيء فإنه سبحانه بكل شيء عليم. عليم بالأمور كلها دقيقها وجليلها سرها وعلنها فلا يخفى على الله شيء في الأرض ولا في السماء.
الأمر الثاني: أن الله كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء إلى قيام الساعة من قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فإن الله لما خلق القلم قال له اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب ما هو كائن فكتب بعلم الله وإذنه ما هو كائن إلى يوم القيامة فما كتب على الإنسان لم يكن ليخطئه وما لم يكتب عليه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف قال الله تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسيرلكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم [الحديد:2]. فعلى العبد إذا جرت الأقدار على ما لا يحب أن يرضى بقضاء الله وقدره، وأن يستسلم للقضاء المكتوب فإنه لا بد أن يكون ويقع فلا راد لقضاء الله وقدره، لكن الفخر كل الفخر لمن يقابل ذلك بالرضا ويعلم أن الأمر من الله إليه وأنه سبحانه له التدبير المطلق في خلقه فيرضى به ربا ويرضى به إلها، وبذلك يحصل له الثواب العاجل والآجل، فإن من أصيب بالمصائب فصبر هدى الله قلبه، وشرح الله صدره، وهون عليه المصيبة لما يرجو من ثوابها عند الله ثم إذا بعث يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى الأجر والثواب وجد أجر مصيبته وصبره عليها مدخرا له عند الله إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب [الزمر:10] وكما أن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء فكذلك يكتب سبحانه ويقدر في ليلة القدر ما يكون في السنة كلها كما قال تعالى فيها يفرق كل أمر حكيم [الدخان:4] وكذلك يكتب على الإنسان وهو في بطن أمه ما سيجري عليه كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حدثنا رسول الله وهو الصادق المصدوق فقال: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، نطفة؛ ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه المَلَكَ فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد: فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها وهذا الرجل الذي كان يعمل بعمل أهل الجنة ثم ختم له بعمل أهل النار إنما كان يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ولم تكن نيته في الإخلاص والقصد نية مستقيمة فلذلك عوقب بسوء الخاتمة كما جاء ذلك مفسرا في حديث آخر.
الأمر الثالث مما يتم به الإيمان بالقدر: أن تؤمن بمشيئة الله فوق كل مشيئة وقدرته فوق كل قدرة، وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الأمر الرابع: أن تؤمن بأن الله خالق كل شيء ومدبر كل شيء وأن ما في السماوات والأرض من صغير ولا كبير ولاحركة ولا سكون إلا بمشيئة الله وخلقه، فمن الأشياء ما يخلقه الله بغير سبب معلوم لنا ومنه ما يكون سببه معلوما لنا، والكل من خلق الله وإيجاده، فنسأل الله بأسمائه وصفاته أن يجعلنا وإياكم ممن رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، يُقدَّر لنا بفضله ما فيه صلاحنا وسعادتنا في الدنيا والآخرة إنه جواد كريم وصل الله وسلم على عبده ونبيه محمد وآله وأصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين. |