أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، فإن للغفلة عن التوبة آثارا سلبية وعواقب وخيمة، تنغص الحياة وتكدرها، وتعرض الإنسان الغافل للانتقام الرباني في الدنيا والعذاب في الآخرة. ولبيان هذه الحقيقة أحببت أن أتحدث عنها من خلال آية كريمة نستظل بظلالها، ونحيا بشرعتها ومنهاجها.
قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:54-58].
أيها الإخوة المؤمنون، هذه الآية المباركة تشتمل على أمرين هامين: الأمر بالإنابة إلى الله والاعتصام بحبل الله قبل فوات الأوان، بيان حال الغافل عن طاعة الله وما يلحقه من مباغتة العذاب له والحسرة والندامة على ما فرط في جنب الله يوم يلقى الله.
1- الأمر الأول:
أيها الإخوة المؤمنون، دأب القرآن الكريم أن يدعو الناس إلى الخير عامة المؤمن وغير المؤمن، ويبين أنه سبيل النجاة المحقق للظفر بما عند الله من نعيم لا يزول ولا يحول. ومفتاح الخير كله هو التوبة إلى الله مما اجترحته جوارحنا من فسوق. والإنابة إلى الله مطلب أساسي في حياة الأفراد والجماعات والشعوب والأمم.
وما دام الإنسان حيا وفي كامل قواه العقلية فهو مأمور بالتوبة من ذنب أو من غير ذنب، وتجديدها كلما سنحت الفرصة، وليس هنالك ذنب مهما عظم لا تصح التوبة منه أو لا تقبل التوبة منه كما قد يعتقد البعض. وسبب نزول هذه الآيات التي نتحدث عنها يؤكد هذا المعنى ويوضحه، قالابن عطية رحمه الله في تفسيره المحرر الوجيز: "واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآية، فقال عطاء بن يسار: نزلت في وحشي قاتل حمزة. وقال قتادة والسدي وابن أبي إسحاق: نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا وفتنهم قريش فافتتنوا، ثم ندموا وظنوا أنهم لا توبة لهم، فنزلت الآية فيهم، منهم الوليد بن الوليد وهشام بن العاصي، وهذا قول عمر بن الخطاب وأنه كتبها بيده إلى هشام بن العاصي الحديث. وقالت فرقة: نزلت في قوم كفار من أهل الجاهلية قالوا: وما ينفعنا الإسلام ونحن قد زنينا وقتلنا الناس وأتينا كل كبيرة، فنزلت الآية فيهم. وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود وابن عمر: هذه أرجى آية في القرآن".
فالقرآن الكريم يوقظ الهمم ويحرك مكامن الفطرة في الإنسان لعله ينهض، فيصحو من سكرته، فيعانق معالم النجاة قبل أن يباغته العذاب أو يدركه الأجل؛ لذلك تضمن الأمر الأول من الآية ثلاثة عناصر ضرورية: أ- الإنابة إلى الله، ب- الإسلام له، أي: التصديق بالنبي والقرآن واتباع شرائع الإِسلام، ج- اتباع الوحي الذي أنزله على قلب نبيّه ، قال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ، وقال: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
والتوبة إلى الله ليست عملية معقدّة، تنهك التائب من الذنب أو تكلّفه عقوبة أو كفارة، وإنما هي إرادة قوية وعودة صادقة إلى الحق.
2- الأمر الثاني:
أيها الإخوة المؤمنون، هذا هو الشق الأول من الحديث عن الآيات المباركة، وأما الأمر الثاني ـ كما أشرت ـ فهو بيان حال الغافل عن طاعة الله.
أيها الإخوة المؤمنون، فإن لهذه الغفلة آثارا سلبية ونتائج فادحة، قد تصيب المرء في مقاتله، وخصوصا إذا فاته الأوان بأن لقي ربه وهو على تلك الحال من الانغماس في المنكرات وترك الواجبات. ومن تلك الآثار القبيحة الخطيرة على الفرد والأسرة والمجتمع ما يأتي:
أ- شقاوة في الحياة وضنك في المعاش، قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124].
ب- نزول العذاب ومباغتته، ولا يجد العاصي معينا ولا منجى ولا ملجأ، قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ.
ج- الحسرة والندامة يوم القيامة على التفريط في دين الله، وهو وقت لا ينفع فيه الندم.
د- تمني العودة والكرة إلى الدنيا لاستدراك ما فات، وهو أمر ممتنع ولا شك، قال تعالى: أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
|