أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله حيثما كنتم، وقوموا بالأمر الذي من أجله خُلقتم؛ وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]. أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115].
أيها المسلمون في مستفتح العام يحسن التذكير. وما يتذكر إلا من ينيب، من غفل عن نفسه تصرمت أوقاته، واشتدت عليه حسراته. لا بد من وقفةٍ صادقةٍ مع النفس في محاسبةٍ جادةٍ، ومساءلةٍ دقيقةٍ، فوالله لتموتن كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتجزون بما كنتم تعملون. هل الأعمار إلا أعوام؟ وهل الأعوام إلا أيام؟ وهل الأيام إلا أنفاس؟ وإن عمراً ينقضي مع الأنفاس لسريع الانصرام.
أفلا معتبر بما طوت الأيام من صحائف الماضين؟ وقلَّبت الليالي من سجلات السابقين؟ وما أذهبت المنايا من أماني المسرفين؟ كل نفس من أنفاس العمر معدود. وإضاعة هذا ليس بعده خسارة في الوجود.
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا [آل عمران:30].
هذه يد المنون تتخطف الأرواح من أجسادها. تتخطفها وهي راقدة في منامها. تعاجلها وهي تمشي في طرقاتها. تقبضها وهي مكبة على أعمالها. تتخطفها وتعاجلها من غير إنذار أو إشعار. فَإِذَا جَآء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَـئَخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ [النحل:61].
ها هو ابن آدم يصبح سليماُ معافى في صحته وحُلَّته، ثم يمسي بين أطباق الثرى قد حيل بينه وبين الأحباب والأصحاب.
ويلٌ للأغرار المغترين. يأمنون الدنيا وهي غرارة. ويثقون بها وهي مكارة. ويركنون إليها وهي غدارة. فارقهم ما يحبون، ورأوا ما يكرهون. وحيل بينهم وبين ما يشتهون. ثم جاءهم ما يوعدون. ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون.
إنها الدنيا: تُبكي ضاحكاً، وتضحك باكياً. وتُخيف آمناً، وتؤمن خائفاً، وتفقر غنياً، وتغني فقيراً. تتقلب بأهلها، لا تُبقي أحداً على حال. العيش فيها مذموم، والسرور فيها لا يدوم، تُغيِّر صفاءها الآفات، وتنوبها الفجيعات، وتفجع فيها الرزايا، وتسوق أهلها المنايا. قد تنكرت معالمها، وانهارت عوالمها.
أيها الإخوة: لا يعرف حقيقة الدنيا بصفوها وأكدارها، وزيادتها ونقصانها إلا المحاسب نفسه. فمن صفَّى صُفِّيَ له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله. ومن سرَّه أن تدوم عافيته فليتق الله ربَّه، فالبر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان. وإذا رأيت في عيشك تكديراً وفي شأنك اضطراباً، فتذكر نعمةً ما شُكرت، أو زلة قد ارتكبي فجودة الثمار من جود البذار، ومن زرع حصد، وليس للمرء إلا ما اكتسب، وهو في القيامة مع من أحب.
يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: من عرف أنه عبدٌ لله وراجعٌ إليه فليعلم أنه موقوف. ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليُعد لكل سؤال جواباً. قيل: يرحمك الله فما الحيلة؟ قال: الأمر يسير. تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى. فإنك إن أسأت فيما بقي أخذت بما مضى وما بقي.
أيها الإخوة: وهذه وقفة محاسبة مع النفس، بل مع أعز شيء في النفس، مع ما بصلاحه صلاح العبد كله، وما بفساده فساد الحال كله. وقفةٌ مع ما هو أولى بالمحاسبة وأحرى بالوقفات الصادقة يقول نبيكم محمد : ((ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)). ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه)).
ويقول الحسن رحمه الله: داوِ قلبك؛ فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، ولن تحب الله حتى تحب طاعته.
أيها المسلمون: من عرف قلبه عرف ربَّه، وكم من جاهل بقلبه ونفسه، والله يحول بين المرء وقلبه. يقول ابن مسعود رضي الله عنه: هلك من لم يكن له قلبٌ يعرف المعروف وينكر المنكر.
أيها الإخوة: لا بد في هذا من محاسبةٍ تَفُضُّ تغاليق الغفلة، وتوقظ مشاعر الإقبال على الله في القلب واللسان والجوارح جميعاً.
من لم يظفر بذلك فحياته كلها والله هموم في هموم، وأفكارٌ وغموم، وآلامٌ وحسرات. بل إن الله لم يبعث نبيه محمداً إلا بالمهمتين العظيمتين: علم الكتاب والحكمة وتزكية النفوس. هُوَ ٱلَّذِى بَعَثَ فِى ٱلأُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَلٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
بل لقد علَّق الله فلاحَ عبده على تزكية نفسه وقدم ذلك وقرره بأحد عشر قسماً متوالية؛ اقروؤا إن شئتم وتأملوا: وَٱلشَّمْسِ وَضُحَـٰهَا وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلـٰهَا وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلَّـٰهَا وَٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَـٰهَا وَٱلسَّمَاء وَمَا بَنَـٰهَا وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَـٰهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّـٰهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّـٰهَا [الشمس:1-10].
أيها الإخوة: إن في القلوب فاقةً وحاجةً لا يسدها إلا الإقبال على الله ومحبته والإنابة إليه، ولا يلم شعثها إلا حفظ الجوارح، واجتناب المحرمات، واتقاء الشبهات.
معرفة القلب من أعظم مطلوبات الدين، ومن أظهر المعالم في طريق الصالحين. معرفة تستوجب اليقظة لخلجات القلب وخفقاته، وحركاته ولفتاته، والحذر من كل هاجس، والاحتياط من المزالق والهواجس، والتعلق الدائم بالله؛ فهو مقلب القلوب والأبصار. جاء في الخبر عند مسلم رحمه الله من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: ((سمعت رسول الله يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل كقلب واحد يصرفه حيث يشاء. ثم قال رسول الله : اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك)).
ولا ينفع عند الله إلا القلب السليم: يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى ٱللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88-89]. ومن دعاء رسول الله : ((وأسألك قلباً سليماً)).
والقلوب – أيها الإخوة – أربعة: قلب تقي نقي فيه سراج منير فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلف مظلم؛ فذلك قلب الكافر: وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [البقرة:88]. وقلب مرتكس منكوس؛ فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي: فَمَا لَكُمْ فِى ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُواْ [النساء:88]. وقلبٌ تمده مادتان؛ مادة إيمان، ومادة نفاق فهو لِما غلب عليه منهما. وقد قال الله في أقوام: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإيمَـٰنِ [آل عمران:167].
وفي القلب قوتان: قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل. وقوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل. فمن لم يعرف الحق فهو ضال، ومن عرفه وآثر غيره عليه فهو مغضوب عليه. ومن عرفه واتبعه فهو المنعم عليه السالك صراط ربه المستقيم. يقول ابن القيم رحمه الله: وهذا موضع لا يفهمه إلا الألبّاء من الناس والعقلاء، ولا يعمل بمقتضاه إلا أهل الهمم العالية والنفوس الأبية الزاكية.
ورجل الدنيا وواحدها هو الذي يخاف موت قلبه لا موت بدنه، وأكثر الخلق يخافون موت أبدانهم، ولا يبالون بموت قلوبهم.
إذا كان الأمر كذلك أيها الأحبة. فاعلموا أن صاحب القلب الحي يغدو ويروح، ويمسي ويصبح وفي أعماقه حسٌ ومحاسبة لدقات قلبه، وبصر عينه، وسماع أذنه، وحركة يده، وسير قدمه، إحساس بأن الليل يدبر، والصبح يتنفس، والكون في أفلاكه يسبح بقدرة العليم وتدبير الحكيم؛ كُلٌّ يَجْرِى لاجَلٍ مُّسَمًّـى [لقمان:29]. قلب حي تتحقق به العبودية لله على وجهها وكمالها، أحب الله وأحب فيه. يترقى في درجات الإيمان والإحسان فيعبد الله على الحضور والمراقبة، يعبد الله كأنه يراه، فيمتلئ قلبه محبةً ومعرفةً، وعظمةً ومهابةً وأُنساً وإجلالاً. ولا يزال حبه يقوى، وقربه يدنو حتى يمتلئ قلبه إيماناً وخشية، ورجاء وطاعة، وخضوعاً وذلة؛ ((ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)). كلما اقترب من ربه اقترب الله منه: ((من تقرب إليّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً)). فهو لا يزال رابحاً من ربه أفضل مما قدم، يعيش حياة لا تشبه ما الناس فيه من أنواع الحياة: فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]. ((من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه)). من بذل شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، وجازاه أفضل ما قدم.
أصحاب القلوب الحية صائمون قائمون، خاشعون قانتون، شاكرون على النعماء، صابرون في البأساء، لا تنبعث جوارحهم إلا بموافقة ما في قلوبهم، تجردوا من الأثرة والغش والهوى. اجتمع لهم حسن المعرفة مع صدق الأدب، وسخاء النفس مع مظانة العقل. هم البريئة أيديهم، الطاهرة صدورهم، متحابون بجلال الله، يغضبون لحرمات الله، أمناء إذا ائتمنوا، عادلون إذا حكموا، منجزون ما وعدوا، موفون إذا عاهدوا، جادون إذا عزموا، يهشون لمصالح الخلق، ويضيقون بآلامهم، في سلامة من الغل، وحسن ظن بالخلق، وحمل الناس على أحسن المحامل. كسروا حظوظ النفس، وقطعوا الأطماع في أهل الدنيا.
جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: ((يدخل الجنة أقوام أفئدتهم مثل أفئدة الطير))، فهي سليمة نقية، خالية من الذنب، سالمة من العيب. يحرصون على النصح والإخلاص، والمتابعة والإحسان. همتهم في تصحيح العمل أكبر منها في كثرة العمل: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]. أوقفهم القرآن فوقفوا، واستبانت لهم السنة فالتزموا، يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبّهِمْ رٰجِعُونَ [المؤمنون:60].
رجال مؤمنون، ونساء مؤمنات، بواطنهم كظواهرهم بل أجلى، وسرائرهم كعلانيتهم بل أحلى، وهمتهم عند الثريا بل أعلى. إن عُرفوا تنكَّروا، تحبهم بقاع لأرض، وتفرح بهم ملائكة السماء.
هذه حياة القلوب وهذه بعض آثارها.
أما القلوب المريضة فلا تتأثر بمواعظ، ولا تستفزها النذر، ولا توقظها العبر. أين الحياة في قلوب عرفت الله ولم تؤد حقه؟؟ قرأت كتاب الله ولم تعمل به. زعمت حب رسول الله وتركت سنته. يريدون الجنة ولم يعملوا لها، ويخافون من النار ولم يتقوها.
رُب امرئ من هؤلاء. أطلق بصره في حرام فحُرم البصيرة، ورب مطلق لسانه في غيبة فحرم نور القلب، ورب طاعم من الحرام أظلم فؤاده، لماذا يُحرم محرومون قيام الليل؟ ولماذا لا يجدون لذة المناجاة؟ إنهم باردو الأنفاس، غليظو القلوب، ظاهرو الجفوة؟؟.
القلب الميت: الهوى إمامه، والشهوة قائده، والغفلة مركبه، لا يستجيب لناصح، يتَّبع كل شيطان مريد. الدنيا تُسخطه وترضيه، والهوى يصمه ويعميه. ماتت قلوبهم ثم قبرت في أجسادهم، فما أبدانهم إلا قبور قلوبهم. قلوب خربة لا تؤلمها جراحات المعاصي، ولا يوجعها جهل الحق. لا تزال تتشرب كل فتنة حتى تسود وتنتكس، ومن ثم لا تعرف معروفاً ولا تنكر منكراً.
عباد الله. غفلة القلوب عقوبة، والمعصية بعد المعصية عقوبة، والغافل لا يحس بالعقوبات المتتالية ولكن ما الحيلة؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ [الأنفال:24-25].
|