أيها الناس، أيها الأخيار، أيها المربون، هل سمعتم بموظف يمكث مع أبناء المسلمين ساعات طوال؛ يعلمهم السنة والقرآن، والرياضيات والكيمياء، يعيش أفراحهم وأحزانهم، ويحسن إلى مجدهم، ويؤدب مهملهم، يقوم مقام الوالد في التربية والتوجيه، يغرس الأدب الحسن والخلق العالي، يعلمهم الفضيلة، ويجنبهم الرذيلة، يكشف النوابغ وينمي المواهب، ويزيد القدرات.
إن كان بارًا كان تلاميذه بررة، أدركوا نورًا وذكرًا وخيرًا، وإن كان ضارًا حملوا من خصاله السيئة صنوفًا وألوانًا. إن هذا الموظف قد استأمنته الأمة جمعاء على أبنائها وفلذات أكبادها، رأت فيه مثال المعلم الأمين والأب المشفق والداعية الناصح، فوهبته زهورها في أطباق من ذهب، سيماهم البراءة الصادقة والكلمة العذبة والبسمة الجميلة.
إن هذا الموظف قد توافرت له أسباب الإصلاح ومقوماته، فهو ثقة وفوق الثقة عند الآباء والأولياء، والتلاميذ راغبون متشوقون، والوقت معهم طويل، والعقول صاغية نقية، تنتظر ما يُملى عليها وما يقدم لها.
إنه يؤسس التوحيد وينشر الحق، ويربي ويهذب، ويأمر وينهى، قد جمع الله ذلك كله، والله إني لأعجب غاية العجب من جلالة هذه الوظيفة وضخامة محتوياتها وأسرارها.
لقد تقلد وظائف الرسالة ومهمات النبوة.
قـم للمعلـم وفِّـه التبجـيـلا كاد الْمعلم أن يكون رسـولا
أَعلمتَ أشـرف أو أجلَّ من الذي يبني وينشئ أنفسًـا وعقـولا
سبحانـك اللهـم خيـرَ معلـم علمـت بالقلم القرون الأولى
أرسلتَ بالتوراة موسـى مرشـدًا وابن البتول فعلّـم الإنجيـلا
وفجَّرت ينبـوع البيـان مُحمدًا فسقى الْحديث وناول التنزيلا
إنه المعلم مربي الأجيال ووالد النشء، وقدوة التلاميذ ومثال الناصحين، إن قال قيل بقوله، وإن تكلم أُنصت لكلامه، قد تلقى الجميع كلماته بالقبول التام، ولهو خليق أن يسمع له إذا أدى أمانة ما يحمل وما تحمل.
معاشر المسلمين، لقد بعث الله رسوله في أمة سيطرت عليها الجهالات ومزقتها العصبيات، فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا، فصنع ـ بإذن الله ـ أُمة رائدة حيّة، حاملة الهداية للبشرية أجمع، وضعت منهج العلم والتعلم والتفقه، فقد ضربت أطناب علمها وحضارتها مشارقَ الأرض ومغاربها.
ولقد وصف الله تعالى نبيه محمدًا بأنه معلم فقال: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [الجمعة:2].
وما أجمل ذلك الوصف وأبر ذلك القسم الذي نطق به معاوية بن الحكم السلمي كما في الصحيحين: فبأبي هو وأمي، والله ما رأيت معلمًا أحسن تعليمًا ولا تأديبًا منه.
أيها المسلمون، إن في سيرة النبي قواعد عظيمة وأسسًا متينة، يرتكز عليها علم التربية والتعليم، إنك تلحظ في هذه السيرة النيرة الحض المكثف على العلم والتعلم، وتطالع فيها التربية الجادة المثمرة، وتقرأ فيها الإرشاد الناضج بمختلف الوسائل التعليمية والتربوية. إنكم تظفرون في هذه السيرة المباركة بأصل تربوي كبير أغفله كثير من المربين والموجهين، ألا وهو الأدب والخلق.
كم هو قبيح ـ أيها التربويون ـ أن نخرج طلابًا يضبطون الدروس ويعون العلوم وقد تجرّدوا من الآداب والأخلاق.
إن السيرة النبوية ـ يا مسلمون ـ مدرسة تربية وتوجيه وإصلاح، فاقرؤوها فهي من خير ما قرأتم، وتعلموها فهي من أجلِّ ما تعلمتم.
أيها التربويون، اقرؤوا السيرة النبوية واستنيروا بها، وأفيدوا منها في الحياة كلها. وإنه ليؤسفنا بحق أن تكون ثقافة المعلم بقايا المقررات أو حارقات الأوقات، ولا يقرأ في شيء من ذلك، بل حتى في مجال تخصصه يصبح صفرًا إذا خرج عن المقرر.
وفي مجلة المعرفة الرائدة الصادرة عن وزارة المعارف ثقافة نافعة وفوائد هامة للمعلم، وفيها تصحيح لكثير من المفاهيم الخاطئة، ودعوة للقراءة والبحث والمشاركة، وفتح لباب الحوار والنقاش المنضبط. فلتكن ـ أيها المعلم الواعي ـ قريبًا منها ومنتفعًا بها، فهي على جادة السلامة والسلام، فشكر الله للمسؤولين اهتمامهم، وجزى الله القائمين عليها خير الجزاء.
أيها المعلمون، إن إعداد الجيل إعدادًا تربويًا صحيحًا لا يكون بالتعليم والتدريس فحسب، بل يكون بالعلم والقدوة والأخلاق ومحاسن الآداب؛ ولذلك ينبغي أن تكون مهمة المعلم أمرًا آخر أكبر من مجرد نقل المقرر إلى أذهان التلاميذ، أو ختم المنهج الدراسي في نهاية العام، أو تصحيح أوراق الإجابة، لينام بعد ذلك قرير العين، ظانًا أنه قضى رسالته التعليمية.
ألا تحب ـ أخي المعلم ـ أن تنقذ شابًا من براثن الشهوة إلى سبيل الطاعة والفضيلة؟! ألا تحب أن تبني تلميذًا بناءً علميًا وخلقيًا بحيث يحمل هم دينه وأمته؟! ألا يسوؤك أن تكتظ الشوارع والمقاهي بشباب الإسلام ممن تدرسهم أنت في حين يقلّ عددهم في المساجد والمحاضرات؟! ألا تحترق عندما ترى أبناء بلادنا يركضون وراء التفاهات والتقاليد الغربية، فلبسة خليعة ولفظ بذيء وفكر منحط؟! ألا تحب أن تتوالى عليك الدعوات المباركات والكلمات العطرات إذا كان من تلاميذك عالم فذ وطبيب حاذق أو داعية مؤثر ومسؤول أمين؟! يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا [الأحزاب:70].
|