أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى واعرفوا نعمة الله عليكم بما أمد به رسوله وأصحابه من النصر العزيز والفتح المبين، وهذه سنة الله التي لا تبديل لها فمن ينصر الله ينصره إن الله لقوي عزيز. أيها المسلمون في هذا الشهر، أعني شهر شوال من السنة الخامسة من الهجرة كانت وقعة الخندق التي اجتمع فيها أحزاب الشيطان على أولياء الرحمن، وذلك أن يهود بني النضير حين أجلاهم النبي من المدينة أرادوا أن يأخذوا بالثأر من رسول الله فذهب جمع منهم إلى قريش وغطفان وحرضوهم على حرب النبي فتحزب الأحزاب لقتال رسول الله فخرجت قريش بأربعة آلاف مقاتل وخرجت غطفان ومعهم ألف فارس وخرجت بنو مرة وهم أربعمائة وخرجت بنو أشجع وبنو سليم في نحو سبعمائة مقاتل وخرجت بنو أسد وكان عدد الأحزاب عشرة آلاف مقاتل فلما سمع بهم النبي استشار أصحابه أيخرج إليهم أم يبقى في المدينة، فأشار عليه سلمان الفارسي أن يحفر خندقا على المدينة يمنع العدو، عنها فأمر بحفرة شمالي المدينة من حرتها الشرقية إلى حرتها الغربية وشاركهم في حفره وكان المسلمون ثلاثة آلاف رجل وقد لحقهم من الجهد والجوع ما يصفه جابر بن عبد الله قال: كنا نحفر يوم الخندق فعرضت كدية شديدة فجاءوا إلى النبي فقالوا يا رسول الله: هذه كدية عرضت في الخندق فقام وبطنه من الجوع معصوب بحجر، فلبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذواقا فأخذ النبي المعول فضربه فكان كثيبا مهيلا قال جابر فاستأذنت النبي فأتيت أهلي وقلت لامرأتي لقد رأيت بالنبي شيئا ما كان عليه من صبر، فهل عندك من شيء قالت صاع شعير وعناق وهي الصغيرة من المعز فذبحتها وطحنت الشعير فأتيت النبي فقلت: يا رسول الله طعيّم لي فقم أنت ورجل أو رجلان معك فقال: ((ما هو)) فقلت: شعير وعناق فقال: ((كثير طيب)) ثم دعا النبي المهاجرين والأنصار وقال: ((ادخلوا ولا تزاحموا)) فجعل يكسر من هذا الخبز ويجعل عليه من اللحم وكلما أخرج شيئا من اللحم غطى القدر ومن الخبز غطى التنور، فما زال كذلك حتى شبع المهاجرون والأنصار وبقيت بقية.
واشتدت الحال بالمسلمين وكان مما زاد الأمر أن يهود بني قريظة وكانوا شرقي المدينة نقضوا العهد الذي بينهم وبين النبي فضاق الأمر بالمسلمين كما قال تعالى إذ جاءوكم من فوقكم يعني الأحزاب ومن أسفل منكم يعني بني قريظة وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [الأحزاب:10-11]. وانقسم الناس إلى قسمين فالمنافقون والذين في قلوبهم مرض قالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا والمؤمنون قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما.
ومكث الأحزاب محاصرين للنبي قريبا من شهر فدعا النبي عليهم فأرسل الله عليهم ريحا شديدة قوية أسقطت خيامهم وأطفأت نيرانهم وزلزلت بهم، وفي ذلك يقول الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا [الأحزاب:9].
وبعد تفرق الأحزاب توجه النبي إلى بني قريظة الذين نقضوا عهده فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة، حتى طال عليهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فلما اشتدت بهم الحال طلبوا من النبي أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ وكان سيد الأوس الذين هم حلفاء بني قريظة في الجاهلية وكان سعد قد أصيب بسهم يوم الخندق في أكحله فدعا الله تعالى أن لا يميته حتى يقر عينه من بني قريظة الذين نقضوا العهد فاستجاب الله دعاءه فطلبه النبي من المدينة ليحكم في بني قريظة فلما أقبل قال : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فلما جلس إلى النبي قال له النبي : ((إن هؤلاء وأشار إلى اليهود قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت ))، قال: وحكمي نافذ عليهم؟ قال: ((نعم)) وقال: وعلى من هاهنا وأشار إلى الجانب الذي فيه رسول الله قال: ((نعم)) قال: إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم فقال النبي لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة.
ثم أمر رسول الله بالأخدود فخدت فجيء باليهود مكتفين فضربت أعناقهم وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة رجل وسبيت ذريتهم ونساؤهم وأموالهم وهكذا انتهت هذه الغزوة العظيمة بهذا النصر العزيز، بعد أن لحق المسلمين ما لحقهم من المشقة والبلاء فكانت العاقبة لهم لأنهم يقاتلون لله وبالله لا يقاتلون رياءً ولا سمعة ولا عصبية ولا يقاتلون بإعجاب بأنفسهم واعتماد على قوتهم دون الله عز وجل وإنما يقاتلون دفاعا عن الحق وإذلالا للباطل وإعلاءً لكلمة الله وصيانة لدين الله فكان الله معهم يتولاهم بولايته ويعزهم بنصره وهو نعم المولى ونعم النصير وكانت النتيجة كما قال تعالى ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قديرا .
أقول قولي هذا وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته ويجمع المسلمين على الحق وأستغفر الله لي ولكم. |