عباد الله، اتقوا الله تعالى وأطيعوه، وراقبوه في السر والعلن ولا تعصوه.
واعلموا أن الذنوب والمعاصي تضر في الحال والمآل، وأن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، وما في الدنيا والآخرة شرٌ وداء إلا سببه الذنوب والمعاصي، فبسببها أُخرج آدم عليه السلام من الجنة، وأُخرج إبليس من ملكوت السماوات، وأغرق قوم نوح، وسلطت الريح العقيم على قوم عاد، وأرسلت الصيحة على قوم ثمود، ورفعت القرى اللوطية حتى سمعت الملائكة نباح كلابهم ثم قلبها الله عليهم فجعل عاليها سافلها، وأرسل على قوم شعيب سحاب العذاب كالظلل، فسبب المصائب والفتن كلها الذنوب والمعاصي، فالذنوب والمعاصي ما حلت في ديارٍ إلا أهلكتها، ولا في قلوبٍ إلا أعمتها، ولا في أجسامٍ إلا عذبتها، ولا في أُمةٍ إلا أذلتها، ولا في نفوسٍ إلا أفسدتها.
أيها المسلمون، للمعاصي آثارٌ وشؤم، فهي تزيل النعم وتحل النقم، قال علي بن أبي طالب : (ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة)، قال الله سبحانه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الأنفال:53].
إذا كنت في نعمةٍ فارعها فإن الذنوب تزيل النعم
يقول سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، ويقول سبحانه: فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء:160]، وروى أحمد عن ثوبان قال: قال رسول الله : ((إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه))، وفي الحديث الآخر: ((الذنوب تنقص العمر)).
ومن شؤم المعصية أنها تمنع القطر وتسلِّط السلطان، فعن ابن عمرٍ رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((لم ينقص قومٌ المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا))، وقال مجاهد في قوله تعالى: وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ [البقرة:159]، قال: "دواب الأرض تلعنهم، يقولون: يُمنع عنّا القطر بخطاياهم"، وقال عكرمة: "دواب الأرض وهوامها حتى الخنافس والعقارب يقولون: منعنا القطر بذنوب بني آدم"، وقال أبو هريرة : (إن الحبارى لتموت في وكرها من ظلم الظالم).
وشؤم المعصية هذا بلغ حتى البر والبحر، كما قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
ومن شؤم المعصية أنها تورث الذلّ وتُفسد العقل، وتورث الهم وتضعف الجوارح وتعمي البصيرة، وأعظم من ذلك كله تأثيرها على القلب، كما في حديث أبي هريرة عن النبي قال: ((إن العبد إذا أذنب ذنبًا نكتت في قلبه نكتةً سوداء، فإن تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه، وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله تعالى: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]))، وقال حذيفة : (القلب هكذا مثل الكف، فيذنب الذنب فينقبض منه، ثم يذنب الذنب فينقبض منه، حتى يختم عليه، فيسمع الخير فلا يجد له مساغًا)، وقال الحسن: "الذنب على الذنب ثم الذنب على الذنب حتى يغمر القلب فيموت، فإذا مات قلب الإنسان لم ينتفع به صاحبه". يقول عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخيْرٌ لنفسك عصيانُها
وأحسن من هذا قول الله عزّ وجل: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف:100]، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: (إن للسيئة سوادًا في الوجه، وظلمة في القبر، ووهنًا في البدن، ونقصًا في الرزق، وبُغضةً في قلوب الخلق)، وقال سليمان التميمي: "إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلّته".
ومن خطورة المعاصي أنها تُضعف الحفظ وربما أذهبته، وتحرم صاحبها العلم، كما قال الشافعي:
شكوتُ إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلـم نـورٌ ونور الله لا يعطاه عاصي
فاتقوا الله عباد الله، ولا تقترفوا الذنوب، ولا تستهينوا بها، قالت عائشة رضي الله عنها: (أقلّوا الذنوب فإنكم لن تلقوا الله عزّ وجل بشيءٍ أفضل من قلّة الذنوب)، قال بلال بن سعد: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت"، وقال بشر: "لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عزّ وجل"، وقال وهيب بن الورد: "اتق أن يكون الله أهون الناظرين إليك".
ومن خطورة السيئة وشؤمها فعل السيئة بعدها، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، قال أبو الحسن: "الذنب عقوبة الذنب". وقد بيّن الله عزّ وجل أن سبب كفر بني إسرائيل وقتلهم الأنبياء أنهم اقترفوا المعاصي، قال الله عزّ وجل: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [البقرة:61].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الذنب دَينٌ في ذمة فاعله لا بد من أدائه، قال أبو الدرداء : (البر لا يبلى، والإثم لا ينسى)، وقال الفضيل بن عياض: "ما عملت ذنبًا إلا وجدته في خُلُق زوجتي ودابتي"، ونظر أحد العبّاد إلى صبيٍ فتأمل محاسنه، فأُتي في منامه وقيل له: "لتجدنّ غِبّها بعد أربعين سنة"، وقال ابن سيرين حين ركبه الدين واغتمّ لذلك: "إني لأعرف هذا الغم بذنبٍ أصبته منذ أربعين سنة"، وقال أحد السلف: "نسيتُ القرآن بذنبٍ عملته منذ أربعين سنة".
ومن أضرار الذنوب والمعاصي أنها تُكْسِلُ صاحبها عن العبادة، كما قال رجلٌ للحسن: إني أبيتُ معافى وأحب قيام الليل وأعدّ طهوري فما بالي لا أقوم؟! فقال: ذنوبك قيّدتك. وقال أبو سليمان الداراني: "لا تفوتُ أحدٌ صلاة الجماعة إلا بذنب"؛ لذا فإن المؤمن العاقل يجتهد في البعد عن الذنوب، ويهجر أهل الذنوب والمعاصي، فإن شؤم معصيتهم يبلغه.
عباد الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|