أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها النّاس ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله رحمكم الله، وسارعوا إلى مغفرة من ربِّكم وجناتٍ، فلِلَّه أقوامٌ قاموا لربِّهم في الخَلَوات، وحافَظوا الألسُنَ من فضول الكَلِمات، ولم تشغَلهم الشّهواتُ ولا اللّذّات، أعانهم ربهم فأصلَحهم، وأثنى عليهم ومَدَحَهم: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:16-19]، أرضَوا ربَّهم، فزال نصبُهم، ونالوا نصيبَهم، لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:57، 58].
أيّها المسلمون، تُعرَف الأقوامُ في أوقاتِ المصائب والأزمات، وتُصنَع الأمَم بالمحَن والابتِلاءات، والزُّعماءُ يُعرَفون في الشدائِدِ، والحياةُ تُطلَب بالموتِ، ومَا ترَك قومٌ القوّةَ إلا ذلّوا، ولا رَكَنوا إلى طَلَب السّلامةِ إلاّ هانوا، والعظيمُ يخاطِر بعَظِيمَته، ومَن عَركَته المعارِكُ استَقَامَ أمرُه وصَلب عودُه، والأزماتُ والأحداث تجمَع الأمم وتوحِّد الشعوبَ والأقوام.
وإنَّ مِن أعظمِ الدّروسِ والعِبَر في الأَوضاعِ الأَخيرةِ في فِلسطينَ وفي لُبنانَ الشّقيقَتَين ونتائِجِها، إنَّ مِن أعظم ذلك هذا الانتقالَ النّفسيَّ مِن ثقافةِ الهزيمةِ والاستسلامِ وعُقدَةِ الضّعفِ والعَجز إلى الوقوف بقوّة أمام مشاريعِ الهيمَنَة والغَطرَسة والنّيل من كرامةِ الأمة. عِبرٌ ونتَائِجُ ومراجعاتٌ تبيِّن للأمّةِ الموقِعَ الصّحيح من القوَّةِ ومِن السّلام، بل تؤكِّد أنَّ الدّعوةَ إلى السَّلام وقَبول السلام لا تتعارض مع القوة وأخذِ الأُهبةِ والاستعداد.
للمتأمِّل أن يتساءَل: أين ذهبَت مسيرةُ السّلام وثَقافةُ السّلام وخارِطَةُ الطَّريق واتِّفاقاتٌ أُبرِمَت في مَدرِيد وغَيرها؟! هَل كانَت مجرَّدَ شِعاراتٍ استَخدَمها الخَصمُ لإخفَاء طموحاتٍ ظالمة؟!
دُروس كبرى بل مبَشِّرات لفجرٍ جديدٍ لا شَرق أوسَط جَديد، يترسَّخ فيه مفهومُ القوَّة بمعناهَا الشَّامِل؛ قوَّةُ الدين والإيمانِ، وقوَّةُ العِلمِ والفِكر، وقوّة الإرادةِ والتَّصميمِ والعَزم، وقوّة السلاح والعَسكَر والعُدّة، قوّةُ السياسة، وقوّةُ المفاوضات، وقوّة القناعة التامّة بالحقوق الكامِلة، وقوّة الردع والإباء، ((والمؤمن القويّ خيرٌ وأحَبّ إلى الله مِنَ المؤمِن الضَّعيف، وفي كلٍّ خيرٌ)) وصدَق نبيُّنا محمَّد .
دُروسٌ وبشائِرُ تؤكِّد أنَّ القوّةَ ليسَت نقيضًا للسّلام، بل هي جزءٌ مِنَ السّلام؛ سلامِ القوّةِ والشّجاعة. القُوّةُ رَديفَةُ السّلام ودَاعِمَتُه وحَاميَتُه، قوّةٌ وسَلامٌ مِن أجلِ أن لاَ نخسَرَ الحَربَ ولا السَّلامَ، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:59].
عِبرٌ ومُستَفَاداتٌ ووَضعٌ جَديدٌ أكَّد حيادِيَّةَ السّلاح والتّقَنِيات، النصرُ بإذنِ الله للحق والإيمان وقُدرات الرّجال، أما السلاح والعتاد فسَبَب من الأسباب. وضعٌ متغيِّر يؤكِّد أنّ القوّةَ المبنيَّةَ على الظلمِ والعُدوان مَآلُها الهزيمةُ مهما طالَ الزّمَن، قوّةُ الظالم قوّةٌ مادّيّة بحتَة، تدمِّر الماديات ولا تدمِّر الإيمان ولا هِمَم الرجال ولا حقوقَ الأمَم. قوّةُ الظالم محدودةٌ ضَعيفَة أمامَ إيمانِ صاحِبِ الحقِّ وثَباتِه وإرادته وصَبرِه وتَصميمِه، صبرٌ ومصابرة يزرَع الثقةَ ولا يسمح بالهزائمِ النفسيّة.
دروسٌ وعِبَر ومتغيِّراتٌ ومراجَعات أظهَرَت أنَّ الخصمَ لم يكن قوِيًّا بذاته، بل لِتقاعُسِ صاحبِ الحقِّ واستِكانتِه، ولا يمكن لأمّةٍ أو شَعب أن يبقى دائمًا ضعيفًا مُستكينُا مُهانًا.
مبَشِّرات ومراجعاتٌ تؤكِّد أنَّ قرار الأمّةِ وقرارَ القيادات أقوَى مِن أيّ قرارٍ دولي مجحِف، قرارُ الأمّة هو الأعلى بإذنِ الله ما دام عادِلاً. القرارُ الدَّوليّ نابعٌ مِن توازُن القوى، وَحينَما تَكون الأمَّة قَوِيّة في اجتِمَاعِها قوِيَّةً في إِرادَتها قوِيّةً في ترتِيبِها وتخطِيطِها، وقَبلَ ذلك وبعدَه قوِيَّةً في إيمانها وحقّها، حينئذ ينعكس هذا التوازن وتعدِل الكفّة لتسير في جانبِ الحقّ والعدل.
فجرٌ جديد لأنَّ قياداتِ الأمّة وولاةَ أمورِها كلَّها كانَت مع لبنان ومَع فِلسطين، واجتمعت في لُبنان مِن أجل القضيّة، اجتمعت وتضامنت وأثَّرَت في القرارِ الدوليّ؛ حتى جاء فيه من الاعتدالِ ما يرسُم الطريق لهذا الفجرِ الجديد.
فجرٌ جديدٌ يدرك فيه قادةُ العرب والمسلمين أنهم يملِكون من أسبابِ التضامُن والتعاون ومقدَّرات السياسةِ والاقتصاد والإعلامِ ما يحقّق تضامنَهم ويدعَم مطالبهم. على الأمّةِ أن لا تغيِّب تارِيخَها وقوّتها وجهادَها ووقوفَها أمام أعدائها والتّأكيد أنَّ الحروبَ والنِّزاعات تكونُ في نتائِجها سجالاً ودُوَلا، والعاقبةُ لأهلِ الحقّ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [محمد:4].
أيّها المسلمون، مع هذه الدّروسِ والعِبرِ والمراجَعاتِ تستَحضِر الأمّة مقوّمَاتها في إيمانها وعناصرَ فوزِها وانتصارِها.
فَجرٌ جديد يُؤكِّد أن الزّمَنَ مهما طال لن يُنسِيَ أصحابَ الحقِّ حقَّهم، وأنَّ الأجيال تتوارَثُ قوّتَها وثباتَها وإصرارَها. ويأسَف المتأمِّل أن يقولَ: وتتوارَث الأجيالُ أيضًا الكَراهِيةَ إذا كانَت بَواعِثُها قائِمَةً، فكَم ـ يَا تُرى ـ مرّ علَى قضيّةِ المسلِمين الكُبرى قضيّةِ فلسطين وبيتِ المقدس؟! فها هي الأجيالُ تِلوَ الأجيالِ تتواصَى في حقِّها وتَتوارَث الصبرَ والإقدامَ، لم يُنسها تعاقبُ الزّمن ولا مرورُ الأيّام ولا مخطّطاتُ الأعداء، لم ينسها حقها وتمسّكَها بقضيّتِها وتصميمَها وحماسها نحو قضيّتِها، فهي لا تقبَل المساوَمَةَ عليها، ولا يمكِن أن يكونَ مجرَّدُ مُضِيّ الزّمن مُنسِيًا حقَّها أو مُضعِفًا مَطَالِبَها أو موهِنًا عزمَها. كيف تنسى الأجيالُ وعوامِلُ الكُره وبواعِثُ البَغضاء تتكرَّر؛ مِن مجازر وقتلٍ واغتِيالات ومصادَرَات لكلِّ الحقوق، وكلُّ جريمةٍ يأتي بها العدوّ هي أكبَر مِن أختِها؛ مِن مجازِر دِير ياسين وحَريقِ المسجدِ الأقصى وصَبرَا وشتِلا وحريقِ المسجدِ الإبراهيميّ وقانا ثمّ قانا، مع كلّ صنوف التقتيل والاغتيال والاختِطاف، بل إنَّ من المؤكَّد أنّ تعاقُب الزمن ليس من مصلحة الأعداء والخصوم والظالمين والمغتَصبين.
فجرٌ جَديد لا تَسمَح فيه الأمّةُ أن تكونَ مُضغَةً في الأفواهِ. لِيُطلقوا ما شاؤوا من ألفاظٍ وأسماء ومصطلحات فيها ظلم واحتقارٌ وتشويه؛ مِن إرهابٍ وفاشيّة وأصولية وغيرها. إنَّ الذي تأمَل الأمّةُ أن لا يَكونَ مؤشِّر العُنفِ في تَصاعُدٍ، وأن لا يكونَ شِعار الحَربِ على الإرهابِ وفَّر أجواءً واسِعَة لتوسيعِ نِطاق الإرهابِ وَقَبوله وانتشاره والرضا عن أفعالِ أصحابه، بل إنَّ ما في المنطقة من عنف وإرهاب هو نتاجٌ للسّياسات الخاطئة من بعض القوَى الكبرى التي تنظُر إلى الإسلامِ نَظرةً خاطِئَة بِقصدٍ أو بغيرِ قصدٍ، وتصمّم خُططًا وبرامج مَغلوطة تقود إلى تعميقِ الكراهِيَة والظّلم وزيادةِ العنف، بل إنها سِياساتٌ وبَرامجُ تقدِّم متفَجِّراتٍ للمتطرِّفينَ والإرهابيِّين. إنَّ تكريسَ الرّبطِ بين الممارَسات الخاطِئَة من بعضِ المسلمين وبين الإرهابِ أو ما سمّوه بالفاشية وغيرها مِن شأنِه أن يؤصِّل العَدَاوةَ وينشُر الكراهِيَة ويوسِّع الفجوَةَ. وإذا كَان مَن قام بعملٍ إرهابيّ أو بعملِ عنفٍ يوصَف دينُه وأهلُه بأنهم فاشِيون فكيف الحالُ مع الصهايِنَةِ المحتلِّين وما يقتَرِفونَه من قتلٍ وتدميرٍ وإفسادٍ واعتقالات للصغير والكبير والوزراء والنُّوَّاب ؟! وكيفَ الحالُ مع السّجونِ والمعتقلات المعلَن منها والسريّ في مواقع من العالم؟! وكيف الحال مع إخوانِنا في العراقِ وفي أفغانستان؟!
وبعد: فنحن بإذنِ الله في إرهاصاتِ فجرٍ جديد يزرَع في الأمّة الثّقةَ بنفسِها بعد ربِّها، وتعتَمِد على وحدَتها وأبنائِها وسِياسَتِها الحكيمة، لا على المنظَّمات الدّوليّة والقرَاراتِ الدوليّة فحسب.
فجرٌ جديد تؤكِّد فيه أمّةُ العرب والمسلمين للعالم احترامَها واحترامَ دينِها وأمنِها ودمائها وحفظ حقوقها وعدالة قضيتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:104].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبِهديِ محمّد ، وأقول قولِي هذا، وأستَغفِر اللهَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين مِن كلّ ذنبٍ وخَطيئة، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
|