.

اليوم م الموافق ‏23/‏ذو الحجة/‏1445هـ

 
 

 

أصحاب الظل

4943

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

أحاديث مشروحة, الموت والحشر, فضائل الأعمال

صالح بن محمد آل طالب

مكة المكرمة

1/8/1427

المسجد الحرام

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- حاجة الناس إلى الظل. 2- دنوّ الشمس من الخلائق يوم القيامة. 3- أصحاب الظل يوم لا ظل إلا ظل الله تعالى. 4- كيف الوصول إلى ظل الرحمن. 5- عدل داود وسليمان عليهما السلام. 6- عفّة يوسف عليه السلام وورعه. 7- فضل التقرب إلى الله بالنوافل.

الخطبة الأولى

أما بعد: فإنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة.

أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله عزّ وجل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. منِ اتَّقى الله وقاه، ومن كلِّ كربٍ أنجاه، وكلّ همٍّ كفاه، ثم جَعَل الجنّةَ مأوَاه ومَثوَاه.

عِبادَ الله، حينَ تنشُر الشّمس أشعَّتَها اللاّهِبَة ويلسع لهيبُها الأجسادَ المنهَكَة حين ينتصف الصيفُ ويشتدّ الحرُّ ويعرَق الناسُ في كلّ حركة وتنقُّلٍ ويبلغ الجَهدُ البدَنيّ والنّفسيّ بالنّاس مبلَغًا تضيق به نفوسُهم فإنهم يُهرعون إلى الظّلِّ وإلى وَسائل التّبريدِ، ورُبما بَلَغ بهمُ الجزعُ إلى الهُروبِ بعيدًا إلى البِلادِ البارِدَة والأجواءِ المعتَدِلَة؛ يتفيّؤون الظلال ويسكنون الجبالَ.

وبوقفةِ تأمّلٍ في شمسِنا المحرِقَة ـ خاصّةً في البلادِ الحارّة ـ حين يضيق بالإنسانِ نَفَسُه ويكاد يغلي كلُّ شيءٍ حولَه فإنَّ المسلمَ يتذكَّرُ وَقفةً عظيمة لا مناصَ عنها وكُربَةً شديدةً لا مفرَّ منها، وذلك حين يجمَع اللهُ الأوّلين والآخرين على صعيدٍ واحدٍ يُسمعهم الداعي ويَنفُذُهم البَصَر، حين تَدنُو الشمسُ من الرؤوسِ مقدارَ مِيل، فلا ماءَ ولا شجَر، ولا ظلَّ ولا مدر، ولا حتى حَجَر. إنها أرضُ السّاهرة، مستَوِيَةٌ مبسوطة، فأينَ المفرُّ؟! وإلى أين يكون المستقرّ؟! أإلى الجنّة أم إلى سقر؟ إنّه يوم تشتدّ فيه الكربةُ وتضيقُ النّفوس، وليس ذلك في شهرٍ أو شهرين، إنه يومٌ مقدارُه خمسون ألف سنَةٍ، حتى يقضي الله تعالى بين الخلائق. عنِ المقدادِ بن الأسودِ قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((تُدنى الشَّمسُ يومَ القيامَةِ مِنَ الخلقِ حتى تكونَ مِنهم كمِقدارِ مِيل، فيكون الناسُ على قَدرِ أعمَالهم في العَرَق، فمنهم من يكون إلى كَعبَيه، ومِنهم مَن يكون إلى رُكبَتَيه، ومِنهم من يكون إلى حقوَيه، ومنهم من يُلجِمُه العرَقُ إلجامًا))، قال: وأشار النبيّ بيدِه إلى فيه. رواه مسلم. وفي الصّحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((إنَّ العرقَ يومَ القيامة ليَذهَب في الأرضِ سبعينَ بَاعًا، وإنّه ليبلُغ إلى أفواهِ النّاس أو إلى آذانهم)).

أيّها المسلمون، وفي خِضَمِّ هذهِ الشّدائِدِ والكُرَب وبَينَما النّاسُ في همٍّ وغمٍّ وعذابٍ وضَنك إذَا بِفِئامٍ من المؤمِنين ممّن أكرَمَهم الله تعالى ليسوا مِن هذه الشدَّةِ في شَيءٍ؛ إنهم في ظِلِّ عرشِ الرّحمن، قد اصطَفَاهم الله فأكرَمَهم ورَعَاهم في كَنَفِه وأحاطَهم بلُطفه، فهم في ظلٍّ وارِف حتى يُقضَى بين العِباد. في الصحيحين أنَّ النبيَّ قال: ((سَبعةٌ يظِلّهم الله تعالى في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلُّه: إمامٌ عادِل، وشابٌّ نشَأ في عبادةِ الله، ورجلٌ قلبُه معلَّق في المساجد، ورجلان تحابَّا في الله اجتَمَعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجلٌ دعَته امرأةٌ ذاتُ منصِب وجمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجلٌ تصدّق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلَم شمالُه ما تنفِق يمينه، ورجلٌ ذكَر الله خالِيًا ففاضَت عيناه)).

أيّها المسلِمون، إنَّ الجامعَ بين هذه الأصنافِ السَّبعةِ هو خشيةُ الله تعالى بالغيبِ وتقواهُ في السرِّ والعلَن وتقديمُ أمرِ الله على هوَى النفس مع قُدرتهم على خِلافِه؛ فالإمام يعدِل مع قدرتِه على الحيفِ والظّلم، لكنه عظَّم الله في قلبِه وعلِم قدرتَه عليه ووقَر الإيمانُ في قلبِه، فاتَّقى الله في أمانتِه، ويدخُل فيه كلُّ مَن إليهِ نظرٌ في شيءٍ من مَصالح المسلمين مِنَ الوُلاةِ والحكّام كما قالَ النوويّ رحمه الله، وبَدَأ به لكَثرةِ مصالحِه وعمومِ نَفعِه. أمّا الشابُّ الذي نشَأ في عبادةِ الله فقَد شَبَّ وتَرَعرَع متلبِّسًا بالعِبادةِ مُلتَصِقًا بها، لم تُلهِهِ فُتوَّةُ الشّبابِ، ولم يَغُرَّه طولُ الأمَل، بل غلَب نفسَه في عُنفُوان شبابِه ومَلأَ قلبَه الإيمانُ والتّقوى، فنشأ في طاعةِ الله وعبادتِه، ليست له صبوةٌ ولا كَبوَة. وأمّا الذي تعلَّق قلبه بالمساجِد فهو شديدُ الحبِّ لها والملازمَة للجماعَة فيها، فقَلبُه مع الصّلاة وفِكرُه مشغولٌ بها، يتحيَّن وقتَها، ويترقَّب نِداءَها، ويتحرَّى إقامَتَها، لا يكادُ ينتهي مِن صلاةٍ حتى يشتاق للأخرى؛ إنّه الأنسُ بالله. أمّا الحبُّ في اللهِ فهو مِن أوثقِ عُرى الإيمانِ، وهو عملٌ قلبيّ يطَّلعُ عليه مَن يَعلَم خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصّدور، فهو سبحانَه أعلَمُ بمَن أحبَّ لله ووَالى في اللهِ، اجتَمَع المسلِمَانِ على المحبَّةِ والمودّة لله وفي الله، لم يجمَعهما عرَضٌ من الدّنيا زائِل، ولا طَمَعٌ في مالٍ ولا جَاه، بل هو الصِّدق والإخلاص. أمّا العفيفُ الوَرِع فمع اجتِماعِ أسبابِ المعصيَةِ وتوفُّر دواعِيها وقُدرتِه على الحرام في حالِ الخَلوَة والأمانِ إلا أنَّ خوفَ الله في قلبِه أعظمُ مِن هذه الفِتنةِ وأقوى من هذا البلاء. والمنفِقُ المتصدِّق بالغَ في الإخلاص وأبعَدَ عنِ الرّياء؛ يبتَغي بذلكَ وجهَ الله. والأخيرُ رَقيقُ القلبِ حاضِرُ الإيمان، إنّه المختَلِي بدمعَتِه، لم يُراءِ بها، إنَّ الإنسانَ ليقدِرُ علَى النشيجِ والصّراخ أمامَ الناس مجاراةً لهم أو تأثُّرًا بهم، لكن من الذي يذكُر الله في الخَلوةِ فتَفيضُ عينُه ويَهمل دَمعُه خشيةً وهيبةً ورجاءً وخوفًا ومحبّةً وشوقًا؟! إنّه الإيمانُ واليقين.

عبادَ الله، هذه المُثُل العاليةُ والمواقِف الجلِيلَةُ ليسَت سَهلَةَ المنال لكلِّ خوّارٍ أو بطَّال، إنها مَواقفُ يُؤثِر فيها المؤمِنُ رضا الله على رِضا غيرِه وإن عظُمَت فيه المحَن وثقُلَت فيه المُؤَنُ وضعُف عنه الطّولُ والبَدَن، وكم مِن غافلٍ يظنُّها يسيرةً هيِّنَة وما دَرَى أنّه لا يُوَفّق لها إلاّ المخلَصون، وقد يَرَى الإنسانُ نفسَه قادرًا على الصّمود لكنّه إذا فُتِن افتَتَن وإذا ابتُلِيَ فشل. وإنَّ الذي يبغِي النجاةَ والفلاح والعِصمةَ والنجاحَ ليتعاهَد إيمانَه حتى يتوصّلَ إلى الكَمَالاتِ ويمتَلِئ قلبُه بالإيمانِ واليقين والخوف من ربِّ العالمين والخشيةِ والإخلاص، عِندها تفيضُ النّفسُ بالأعمالِ الصّالحة وتَنزَجِرُ عنِ الرَّذائِل وتَثبُتُ عندَ الفِتَن، وهذا لا يحصُلُ مع التواني والكَسَل، فلا بدَّ مِن تفقُّد النّفسِ ومجاهَدَتها، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]؛ وذلك ليعلَمَ الله صِدقَكَ في طلَبِ الحقِّ والإيمانِ وصِدقَ رَغبَتِك في نيلِ الجنانِ والعِياذِ منَ النّيران.

وإذا ذُكِر المُلك والعَدل ذكِر أنبياءُ الله داود وسليمانُ عليهما الصّلاة والسّلام، وقد امتَدَحَهما الله بقوله: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، وقال سبحانه: وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:30]. هذه أهمُّ صِفَةٍ وصف الله بها النبِيَّين الملِكَين، إِنَّهُ أَوَّابٌ. إذًا كثرةُ التوبة والاستغفَار والأوبةِ والاعتِذار في اللّيلِ والنّهار مما يصطفي الله به عباده الأخيار، ويرتقِي بالمسلم إلى مصافّ الأولياءِ، ويحشُره في زُمرة الصّالحين والأنبِياء.

وعندَ ذِكرِ العِفّة والورَع يتقدَّم المِثال الطاهرُ نبيّ الله يوسفُ عليهِ السلام حين أنجاه الله من الفِتنةِ العظيمة وصاحَ صيحةَ مؤمنٍ: مَعَاذَ اللَّهِ [يوسف:23]، قال الله تعالى عنه: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]، وفي قراءَةٍ سَبعيّة: الْمُخْلِصِينَ. قال القرطبي رحمه الله: "وقد كان يوسفُ عليه السّلام بهاتَين الصِّفَتَين؛ لأنّه كان مخلِصا في طاعةِ الله، مستَخلَصًا لرسالة الله، وكذلك التضرعُ والدعاءُ والالتِجاءُ للهِ تعالى كما دعا يوسفُ ربَّه بأن يصرِفَ عنه كيدَ النِّسوَةِ، فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف:34]".

فاللّهمّ احشُرنا في زُمرة أوليائِك، وارزقنا مرافقَةَ أنبِيائك، وأظِلَّنا في ظلّ عرشِك يومَ لا ظلَّ إلاّ ظلّك.

بارَك اللهُ لي ولكُم في الكِتابِ والسّنّة، ونَفَعنا بمَا فيهمَا مِنَ الآياتِ والحِكمَة، أقول قولِي هذا، وأستَغفِر الله تعالى لي ولكم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرّحيم، مالكِ يوم الدين، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريك له الملِكُ الحقُّ المبين، وأشهَد أنَّ سيّدنا محمَّدا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيّها المسلمون، ممّا يرتقي بالمسلمِ في كمالاتِ الإيمان ويدخل المؤمنَ في كَنَف الرّحمن التقرُّبُ إلى الله تعالى بنوافِلِ العِبادات بعدَ أداءِ الفرائضِ والواجِبات، ففي صحيحِ البخاريّ أنَّ النبيَّ قال في الحديث القدسيّ الذي يرويه عن ربِّه عزّ وجل: ((وما تقرّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ ممّا افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدِي يتقرَّب إليَّ بالنَّوافل حتّى أُحبَّه، فإذا أحبَبتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمَع بِه، وبَصَرَه الذي يُبصِر به، ويَدَه التي يَبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشِي بها, وإن سَأَلني لأُعطيَنَّه، ولئِن استعاذَني لأعيذنّه)).

اللهُ أكبَر، هكذا فلتَكُن العِصمةُ والحِفظُ والصِّيانة، إنها درَجَةُ الوِلايةِ الحَقَّة، أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [يونس62-64].

أيّها المسلِمون، إنَّ ممّا يرقِّق القلوبَ ويُكسِبُها دُربَةً عَلَى الإخلاصِ ويَكسو الوجوهَ مَهابةً وجَلالاً وعِصمَةً وكَمَالاً الخلوةَ بالله تعالى في هَزيعِ اللّيل بين صلاة ودعاءٍ وتملُّقٍ وبكاءٍ، وفي صفاتِ الأولياء: كَانُوا قَلِيلاً مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17، 18]. إنَّ رُهبانَ اللّيل هم أقربُ الخلقِ للإخلاصِ وأَحرَاهُم بدَمعةٍ هطَّالةٍ تهملُ في بهيمِ اللّيلِ، فهنيئًا لمن وفَّقَه الله وأعانَه.

وأخيرًا فإنّ نقاءَ السّريرةِ وصفاءَ القلب وَسَلامةَ الصدرِ وتركَ الضّغينةِ على المسلمين شروطٌ لازِمَة لصلاحِ القلبِ لأن يحملَ المحبةَ الخالِصة لله والمودّةَ الحقّةَ فيه.

هذا وصلّوا وسلِّموا على خير البريّة وأزكى البشريّة محمّد بن عبد اللهِ الهاشميّ القرشيّ.

اللهمّ صلِّ على محمّد وعلى آل محمد، كما صلّيتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد، وبَارِك على محمّد وعلى آلِ محمّد، كما باركتَ على إبراهِيم وعلى آل إبراهيمَ في العالمين إنّك حميد مجيد...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً