أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، ففيها الزاد، وعليها بعد الله جل وعلا الاعتماد، وبها النجاة بعد رحمةِ الله يومَ المعاد، وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:71، 72].
عبادَ الله، إنَّ ممّا لا شكَّ فيه أنَّ تعاقُبَ الفِتنِ وتكاثُرَها وطَلَبَ بعضِها بعضًا طَلَبًا حثيثًا لهو من سِمَات عصرِنا الحاضِر الذي علَت فيه الحضَارةُ المادّيَّة وسَمَا فيهِ رُقِيُّه المعلُوماتيّ، كلُّ ذلكَ كانَ نَظيرَ سقوطٍ حادٍّ في الجانِبِ الرّوحِيّ والصَّفاءِ الإنسَانيّ؛ حتى أصبَحنَا نَعيش أجواءً مُلتاثةً لا تُتيحُ إبَّانَه رِياحُ الأهواءِ والإِحَن والحروبِ والفِتنِ لأيِّ رَمادٍ أَن يجثِمَ مَكانَه، ولاَ لأيِّ جمرةٍ أن ينطفِيَ وميضُها؛ [ممّا سهّلَ] إذكاءَ النار بالعيدان في هذا الزمن، وما أسرَعَ اشتعالَ نارِ الحروب وفتيلِ الفِتن. ولا جَرَم حينئذٍ ـ عِبادَ الله ـ أَن يتَزلزَلَ كِيانُ المجتمَعاتِ المسلِمةِ ويُقوَّضَ بُنيانُها على حِين غِرَّةٍ بعدَ تراكُمِ التَّداعِياتِ بعضِها على بَعض؛ لِيَخِرّ على شعوبِها سَقفُ الاستِقرار والسّلامَة مِن فوقِهم، وتأتيَهم الطوارقُ في عَسعَسة الليل أو تنفُّس الصباح، من حيث يشعرون أو لا يَشعرون. والواقِعُ ـ عبادَ الله ـ أنَّ ذلكم كلَّه لم يكُن بِدعًا من السّنَن الإلهيّة، وليس هو طَفرةً لا يسبِقها مقدِّمات ولا مسبِّبات، وإنما هو شَرَرُ وميضِ جمرٍ كان يُرَى خِلالَ الرّماد وَسْطَ ميدان الأمّة الإسلاميّة في الوقتِ الذي بُحَّت فيه أصواتُ الناصِحين وأَسِفَت له قلوبُ المشفِقين على أمَّتِهم ومجتمَعاتهم، غيرَ أنَّ أمّةَ الإسلام ـ وا أسفاه ـ لم تَستَبِنِ النّصحَ إلاّ ضُحَى الغَد ولاتَ حينَ مَناص، فلا حولَ ولا قوّة إلا بالله.
ألاَ إِنّه غيرُ خافٍ علينا ـ معاشرَ المسلمين ـ ما يحلّ ببعضِ المجتمعاتِ المسلمة بين الحينِ والآخر من فتنٍ ورزايا وحروبٍ طاحنة تَلسَع عمومَ أمّة الإسلام بلهِيبِها على مرأَى ومسمَعِ العالم أجمع؛ ما يَستدعِي إِيقَاظَ الضميرِ المسلِم الوَسنان وإذكاءَ الغَيرةِ الإسلاميّة لدَى الشعوبِ المسلِمة حُكّامًا وعلماء ومُصلحين على مَا يواجِهُه بنو الملّة من عَنَتٍ وَلأْيٍ وشدائد جراءَ تلكم الحروب التي اجتاحَت حِياضَهم ومَشارِبَهم واستأصَلَت شأفَتَهم وجعَلَتهم مَذعورين شذَر مَذَر. وإنَّنا في الوقتِ الذي يَحمَد الله فيه كلُّ مجتمعٍ مسلِم لم تَنَله تِلكم الحروبِ الفتّاكة ولم يكتوِ بِلهيبِها حِسّيًّا وإن اكتَوَى بها معنويًّا، نَعَم إنهم في الوقت الذي يحمَدون الله فيه على السّلامةِ ليستعيذون بوجهِه الكريم أن تَطَالَهم تَبِعاتُها أو أن تَقَع في شَرَكها وهُوَّتها. وإنّه لينبغي لنا ـ عبادَ الله ـ كلّما لاحَت في الأفقِ غَيَايةُ فِتنة أو شَرارَة حَربٍ أن نتَذكَّر ما كانَ يَتَمثَّل به سلفُنا الصّالح رضي الله عنهم حينما تقبِل الفتنُ أو تُشَمّ رائحة الحروب، فقَد روى البخاريّ في صحيحِه عن ابنِ حوشَب أنَّ السلَف رحمهم الله كانوا يقولون عند الفتن:
الحـربُ أوّلَ مـا تكـون فتيّـةً تسعى بزينتهـا لكلّ جهـولِ
حتى إذا اشتعَلَت وشَبَّ ضِرامُهـا ولّت عجوزًا غيرَ ذات خليـلِ
شَمطـاء يكرَه لونُهـا وتغيَّـرت مكروهـةً للشَّـمِّ والتقبيـلِ
أيها المسلمون، إنّه ينبغي علينا أن نسبر الأحداثَ والمدلهمّات بعقلِ المستبين سبيلَ المجرمين، وأن نحلِّلَها على وجهِ الإنصاف وطلب الحقّ والنصحِ للمسلِمين، فإنَّ الاكتفاءَ بمجَرَّدِ التَّلاوُم وإلقاءِ التَّعِلّة على الغَير والرّميِ بالدّاء ثم الانسِلال مِنه لهو حجّة العاجز القانط، وإنَّ لكلِّ رامقٍ بعين النقدِ أن يَرَى التَّراشُقَ بالتُّهَمِ قد بلَغَ تَكاثُرًا زَاحمَ الهدَفَ الأساسَ للخروجِ مِن كلِّ أزمةٍ بعقلٍ صحيح وأفُقٍ نيِّر. ومِن المؤسفِ أن لا نَجِدَ إلاّ لائمًا للعلماء فحَسب، أو لائمًا للمصلِحين والمثقَّفين فحسب، أو لائِمًا للساسة والقادةِ فحسب، وما القادةُ والساسة والعلماءُ والمصلحون إلا جزءٌ من كلٍّ، ولا استقلالَ باللّومِ على صِنفٍ دونَ آخَر، غيرَ أنّ الأنصِبَةَ في ذلكم تتفاوَتُ بحسَب موقعِ كلٍّ من المسؤوليّة التي ألقاها الله على عاتِقِ كلِّ مسلِم مكلَّف، حيث يقول المصطفى : ((ألاَ كلُّكم راعٍ، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته)) رواه البخاري ومسلم.
ألا إنّ من المقرَّر عقلاً أن إلقاءَ كلّ واحد باللاَّئمة على الآخَر ليلزَم منه أنه ليس ثمّةَ أحد ملوم، فيلزَم من ذلكم الدورُ وهو ممنوعٌ عند جميع العقلاء. ورحم الله مالكَ بنَ دينار فقد وعظ أصحابه موعظةً وجلوا منها وارتفع بكاؤهم، وبَينَا هم كذلك إذ فَقَد مصحفَه الذي بين يدَيه، فالتفتَ إليهم وقال: "وَيحكم! تَبكون جميعًا، فمن الذي سرَقَ المصحَفَ إذًا؟!".
فلأجلِ ذا ـ عبادَ الله ـ كان لِزامًا علينا أن نوقنَ جميعًا بأن غيرَ المسلمين لم ينتصِروا علينَا بجيوشِهم وخَيلِهم ورَجِلهم قَدرَ ما انتصروا علينا بفراغ قلوبِنا وفَقدنا لهويَّتنا وإخلادِنا إلى الفوضَى وإخلادِنا إلى الأَرضِ والنَّأي بالأنفسِ عن المسؤوليّة وافتقارِنا إلى ما يجمَعُنا لا ما يفرِّقُنا وإلى ما نعتزّ به لا ما نستحي منه، حتى صِرنا بعد ذلك خاضِعين لغيرِنا طوعًا أو كرهًا، من خِلال ما أصبَحنا بِسبَبِه عالةً علَى فَلسفَةِ غير المسلمين ومادَّتِهم وسِيادتهم، فكانت النتيجة الحتميّةُ أن كثُرَت آلامُنا ونُكِئَت جِراحُنا واستُبيحت حرمَاتنا وتجرّعنا تلكم الجراحات في صياصينا ولا نكادُ نسيغها وقُذِف في قلوبنا الرّعبُ والوهن، حتى أزّنا أعداؤنا أزًّا إلى أن نُقِرَّ كارهين حينًا ومستَسلمين أحيانا بأنَّ باطلَ غيرِنا حقٌّ وحقَّنا باطِل على تخوّف ومضض، ليصدُق فينا قولُ القائل:
إذا مرِضنا أتيناكم نعودكمُ وتخطِئون فنأتيكم ونعتذرُ
والوَيلُ كلُّ الوَيل لأمّة الإسلام حينَما تقِف حَاميةً عن حِياضها مجاهِدةً عن عِرضها ومالها ونفسِها ودافعةً بقوّتها المتواضِعَة أفتكَ أنواعِ السّلاح؛ فإنها سَتلاقي صيحاتٍ وشَنشَناتٍ أَخزميّةً تقولُ للملأ: "المسلِمون معتَدُون، المسلِمون إرهابيون"، ومِن ثمّ يكون هذا تَبريرًا لِصَبِّ جامِّ الغَضَب بِكلّ أنواع الأسلحة المدمّرةِ، وسيظلّ مثلُ هذا الإفكِ لا ينقَطِع ما دامَت هذه حالنا، وسيبقَى الادِّعاءُ بأنَّ المسلِمين إرهابيّون أكذوبَةً كبرَى، فهي كما يقول علماءُ النفس: ذلك نوعٌ من الإسقاطِ الذي يدفَع المرءَ إلى اتِّهام غيره بما في نفسِه هو مِن شرٍّ، وقديما قيل: "كلُّ إناءٍ بما فيه ينضَح". وستظلّ تلكُم القوّة الغاشمة تحمِل في ظاهِرِها صورَةَ الحمَلِ الوديع الذي يمثِّل الحضارةَ المادّيّةَ المعاصِرة، وهي في حَقِيقتِها شَخصُ ذئبٍ مُكشِّرٍ أنيابَه يقتَرِف الكبائرَ وهضمَ الحقوق وإهدارَ الحرّيّات باسمِ العدل والحضارَة، ويصنع من خلالِ ذلك فروقًا في الدماء والطبقاتِ والألوان، فلا نجِد الضمانات التي تمثِّلها مواثيقُ العدل العالميّة المزعومة عندَهم للمحافظةِ على أمن جميع الشعوبِ إلاّ فيما لم يكن المسلمون أو العرَب فيه طرفًا في صراعٍ ما، وإلا أمسى للقضيّة لونٌ آخر؛ ولهذا نجِدُهم يلاطِفونَ غيرَ المسلمين بروحٍ أطيَب ونفسٍ أهدَأ، فصارَت مِثلُ هذه التصرّفات مؤسَّسةً على مبدأ المصلحة الوطنية والقوّة، فهو كمَبدَأ العلاقةِ مع الآخَر لدى قُطّاع الطريق أو لدى أيّ تجمّعٍ مفترس في الغابة، فهل يُهزَأ بالمنكوبِ حينئِذٍ إذا أساء بالحضارة المعاصرة ظنَّه وعضَّ عليها الأناملَ من الغيظ، ولقد صدق الله: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العَظيم، ونفعَني وإيّاكم بما فيهِ من الآياتِ والذّكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمِنَ الله، وإن خطأً فمن نفسي والشَّيطان، وأستغفِر الله إنّه كَانَ غفّارًا. |