معاشر المؤمنين، وننتقل إلى أنموذج من هذه الأمة المباركة، أنموذج رائع من روائع هذه الأمة وثمرة من ثمار نبيها صلوات الله وسلامه عليه، ألا وهي أم المؤمنين عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها وعن أبيها. فقد أخبر القاسم بن محمد رحمه الله عنها قائلا: كنت إذا غدوت أبدأ ببيت عائشة ـ وهي خالته ـ أسلم عليها، فغدوت يوما فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]، وتدعو وتبكي وترددها، فقمت ـ يعني ينتظرها ـ حتى مللت القيام، فذهبت إلى السوق لحاجتي، ثم رجعت إليها فإذا هي قائمة كما هي تصلي وتبكي. رضي الله عنها وأرضاها. فهذه امرأة من الصالحات فهل نقارن ونقتدي؟!
وكذلك كانت أم حسان من السلف رحمها الله، وكانت زاهدة عابدة، دخل عليها سفيان الثوري رحمه الله وهو من أئمة المسلمين وساداتهم في زمانه، فلم ير في بيتها غير قطعة حصير، فقال لها: لو كتبت رقعة إلى بعض بني أعمامك ليغيروا من سوء حالك، فقالت: يا سفيان، لقد كنت في عيني أعظم وفي قلبي أكبر من ساعتك هذه، أما إني لم أسأل الدنيا من يملكها فكيف أسأل من لا يملكها، يا سفيان: والله ما أحب أن يأتي علي وقت وأنا متشاغلة فيه عن الله بغير الله، فبكى سفيان.
فهذه ـ يا رجال ـ امرأة لا كنساء اليوم، فلم تكن تعرف الجلوس أمام التلفاز ساعات، أو الحديث بالهاتف طول الأوقات، ولا قراءة مجلة ماجنة تثقل الميزان بالسيئات، أو التجول في الأسواق لقتل الأوقات، أو الجلوس في مجالس لتأكل فيها لحوم البشر وتقتات. كلا، ما كان هذا حالها، بل لم تكن ترضى بأن ينشغل وقتها بشيء غير ذكر الله، فرحمها الله من زاهدة عابدة.
وهذه امرأة ثالثة وحالها في مسألة تقاصر عنها الكثير من الناس رجالا ونساءً، وقضية أهملها العام والخاص، وهي من الأهمية بمكان في هذا الدين حتى عدها بعض العلماء الركن السادس من أركان الإسلام، ألا وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تلك الفريضة التي غابت اليوم إلا عند القليل.
فقد روت كتب السير عن السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنها أنها كانت سببا في توبة أحمد بن طولون حيث كان حاكما ظالما، فتوجه الناس إلى السيدة نفيسة يشكونه إليها، فقالت: متى يركب؟ قالوا: في غد، فكتبت رقعة ومضت بها في طريقه، وقالت: يا أحمد بن طولون، فلما رآها عرفها، فنزل عن فرسه وأخذ منها الرقعة وقرأها فإذا فيها: "ملكتم فأسرتم، وقدرتم فقهرتم، وخُوِّلتم فعسفتم، ورُدَّت إليكم الأرزاق فقطعتم، هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة، لا سيما من قلوب قد أوجعتموها وأكباد جوعتموها وأجساد عريتموها، فمحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم. اعملوا ما شئتم فإنا صابرون، وجوروا فإنا بالله مستجيرون، واظلموا فإنا إلى الله متظلمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون". فتاب ابن طولون من ساعته وأصبح عادلا. فلله درها من امرأة، ولا عجب فهي سليلة الشجرة النبوية المباركة، وفرع من دوحة البيت الطاهر رحمها الله رحمة واسعة ورضي عنها.
وأختم حديثي هذا بسيرة هذه المرأة المباركة والسيدة الشريفة، فقصتها في مرض موتها عجب من العجب. قال أهل السير: احتضرت السيدة نفيسة رحمها الله وهي صائمة فألزمها أهلها بالفطر وألحوا عليها وأبرموا، فقالت: واعجبا! منذ ثلاثين سنة أسأل الله تعالى أن ألقاه وأنا صائمة أأفطر الآن؟! هذا لا يكون. ثم قرأت سورة الأنعام وكان الليل قد هدأ، فلما وصلت إلى قوله تعالى: لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:127] غشي عليها ثم شهدت شهادة الحق وقبضت إلى رحمة الله.
هكذا تكون الحياة يا رجال، وهكذا يكون الممات، نساء عابدات زاهدات، آمرات بالمعروف ناهيات عن المنكر، باذلات للنفس في سبيل الله. ونحن اليوم نتمنى على بعض الرجال أن يحافظوا على خمس صلوات مفروضات في الجماعة، نود لو حافظ شبابنا على صلاة الفجر مع الجماعة في المسجد، ونود لو يحافظ آخرون على صيام رمضان، وأن يؤدي آخرون فريضة الحج والعمرة مرة في العمر. فلله ما أعطى ولله ما أخذ، وهو أعلم بمن يستحق كرامته ومن ليس أهلا لذلك. لا ضير أيها التارك للجماعة المضيع للصلوات، لا بأس أيها المتهاون بشعائر الله الوالغ في المحرمات، فقد خلق الله للجنة أهلها وخلق للنار أهلها، ولو أن أهل الأرض كلهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملك الله شيئا، ولو أن أهل الأرض كلهم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملك الله شيئا.
أيأبى من روحه من عند الله وهي بيد الله إن شاء أخذها متى شاء، أيأبى من يعيش في أرض الله ويأكل من رزق الله ويسكن في ملك الله ويسمع ويبصر بفضل الله، أيأبى من حاله هذه أن يطيع الله؟! كلا والله، لا يليق بك ذلك يا عبد الله، ولست أهلا لذلك.
هؤلاء نسوة أيها المؤمنون، نساء مؤمنات صالحات قانتات:
فلـو كن النسـاء كمـن ذُكِرْنَ لفضِّلت النساء علـى الرجال
فمـا التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكيـر فخـر للهـلال
وبعد: عباد الله، فهذه نماذج فأين المقتدون؟ وهذه منارات فأين الهتدون؟ وهذه مسالك فأين السائرون؟ فيا لله، أين نحن من هؤلاء؟!
لا تعرضن بذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالأعرج
|