.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

عندما ينطق الرويبضة

4895

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد

العلم الشرعي, الكبائر والمعاصي

سعيد بن عبد الباري بن عوض

جدة

سعد بن أبي وقاص

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- استهانة كثير من الناس اليوم بالفتوى. 2- فاسألوا أهل الذكر إن كنت لا تعلمون. 3- فتوى لبعض الرُّوَيْبِضة في زماننا. 4- وصف لحال المتعالمين.

الخطبة الأولى

عباد الله، ذكر بعض العلماء في كتبهم أن رجلاً كان يفتي كل سائل دون توقف، فلحظ أقرانه ذلك منه، فأجمعوا أمرهم لامتحانه بنحت كلمة ليس لها أصل هي (الخنفشار)، فسألوه عنها فأجاب على البديهة: بأنه نبت طيب الرائحة ينبت بأطراف اليمن، إذا أكلته الإبل عقد لبنها، قال شاعرهم:

لقد عقدت محبتكم فؤادي      كما عقد الحليبَ الخنفشارُ

وقال داود الأنطاكي في تذكرته كذا، وقال فلان وفلان، وقال النبي فاستوقفوه، وقالوا: كذبت على هؤلاء فلا تكذب على النبي ، وتحقق لديهم أن ذلك المسكين جِراب كذب وعَيْبة افتراء في سبيل تعالمه.

عباد الله، قد تبدو هذه للسامع وكأنها طرفة فيضحك منها، لكن الأمر كما قيل: شر البلية ما يضحك.

إن هذه القصة تمثل أنموذجًا من النماذج التي ابتليت بها هذه الأمة، من الذين يتكلمون في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ولئن كانت هذه القصة حدثت في الأزمنة الغابرة ففي زماننا هذا مئات القصص من مثل هذه القصة، بل عندنا ـ والله ـ ما هو أشد وأنكى من ذلك، وذلك كله عندما يتعلق الأمر بالكلام في دين الله وشرعه.

لقد أصبحت الساحة العلمية مباحة لكل من هب ودب، يصول فيها ويجول كل من اشتهى ولو لم يحمل سلاحًا ولا عدة، فإذا بنا نشاهد أطباء يفسرون القرآن، ومهندسين يصنفون في الحديث، بل وعمالاً ومهنيين عوام يُقصَدون للفتوى، وصحفيين يناقشون ويجادلون في أدق مسائل الدين! نعم، إن تدبر القرآن والتفقه في الدين ليس حِكرًا على طبقة من الناس، فلا رهبانية في الإسلام. إن تدبر القرآن والفقه في الدين مطلوبان من كل مسلم، لكن هذا شيء، والتصدر للفتوى والاجتهاد والتصنيف في علوم الشريعة شيء آخر، فكل ذلك حكر على أهله، وأهله هم كل من تحققت فيهم الأهلية العلمية حسبما يقرره أهل الاختصاص، وحسب القواعد والضوابط التي اصطلحوا عليها واستمر العمل بها إلى اليوم.

عباد الله، خرَّجَ الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه السلسلة الصحيحة حديثًا رواه ابن ماجه والحاكم والإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤْتَمَنُ فيها الخائن، ويُخَوَّنُ فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضة))، قيل: وما الرُّوَيْبِضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)). وعنون له الشيخ بقوله: "أليس هذا زمانه؟!". ويقال اليوم: بلى والله، إن هذا زمانه، وإنها السنين الخداعة التي نطق فيها الرُّوَيْبِضة. لقد أخبرنا بذلك رسولنا عليه الصلاة والسلام قبل مئات السنين، أخبرنا بظهور هذا الصنف من الناس، ودارت الأيام والسنون ونطق الرُّوَيْبِضة، وتكلم في أمر الدين وأفتى وأحل وحرم وليس هو من أهل العلم، بل ولم يُعرف بطلب العلم.

أيها الموحدون، إنه يجب علينا اليوم معرفة الكفء لهذه المهمة من أهل العلم الموثوقين المعروفين بالدين والصلاح والورع والعلم. وذلك أمر الله لنا عندما أمرنا بالتوجه لأولئك في حال الجهل وعدم العلم في شأن من شؤون ديننا، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]. إن الكثير من الأمة اليوم بحاجة إلى معرفة من هو المؤهل لأن يُسأل، وليس كل من تكلم في الدين أهل لأن يُسأل، إنما يعرف العالم باهتدائه بهدي الوحيين القرآن والسنة على فهم السلف الصالح القرون الثلاثة المفضلة، لا على فهم المتأخرين الذين إن تكلموا في الفقه فبالرأي، أو في التفسير فبما تمليه عقولهم وأفهامهم، حتى تسمع أحدهم يفسر الجزء من القرآن لا يذكر في تفسيره حديثًا واحدًا أو قولاً لأئمة المفسرين، من أمثال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة، أو من بعدهم من مثل مجاهد، ولا من أصحاب التفسير كالطبري وابن كثير وغيرهما، ممن فسروا القرآن تفسيرًا أثريًا مبنيًا على الآثار الواردة فيه من أحاديث وغيرها. ويعجب الكثير من المسلمين بقوله، وما عرفوا أن ذلك أبعد ما يكون عن تفسير كلام الله ومعرفة مراده. فمن يا ترى ـ بالله عليكم ـ يكون أعلم بمراد الله في الآيات من رسوله ؟! ومن يا ترى يكون أعلم بذلك من أصحابه من بعده؟! لكن مشكلتنا أننا نعجب ببهرجة الأقوال وزخرفتها، ولو خالفت الحق ما درى الكثير منا.

عباد الله، يقول ابن سيرين رحمه الله كما في مقدمة صحيح مسلم: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم".

من الواجب على كل مسلم أن يعرف من الذي يُستفتى، وليس كل من نصب نفسه لذلك فهو أهل. إن الدين يؤخذ من العلماء المشهود لهم بالعلم والتقوى والورع، الذين إذا تكلموا فبقول الله وقول رسوله لا بزخرف القول غرورًا. وما أحسن ما قاله ابن القيم في العلماء، قال رحمه الله: "ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الذين قاموا بالدين علمًا وعملاً، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه".

ولقد أصبح اليوم كتاب صحفيون يتكلمون في الدين، ومقدمو برامج في قنوات فضائية يفعلون ذلك. لكن يجب أن نعلم أننا لا نأخذ ديننا من كاتب محترف، ولا مذيع متكلم، ولا نأخذ ديننا من الصحف أو المجلات أو القنوات الفضائية، بل نأخذه من أفواه علمائنا الذين عرفوا بأهليتهم لذلك، لا من حملة شهادات عالية في مجالات دنيوية يحسبون أنهم بحملهم لهذه الشهادات مؤهلون للخوض في غمار المسائل الشرعية دقيقها وجليلها. إن هؤلاء ـ عباد الله ـ هم الرُّوَيْبِضة الذين ذكرهم رسول الله .

وإليكم بعض الأمثلة لبعض الرُّوَيْبِضة الذين كثروا في زماننا هذا. فقد قام أحدهم مثلاً بإنكار الشفاعة، وتكلم في ذلك وناقش بجرأة وجهل، وليس هذا شأنه لكنه متعالم، ويَضِلُّ المتعالم ويحار عندما يتكلم فيما ليس له فيه، فقد قال منكر الشفاعة مثلاً: "وتتواتر الأحاديث بهذا المعنى بصياغات مختلفة في البخاري وغيره، ويقف المسلمون أمام الاختيار الصعب بين النفي القرآني وبين ما جاء في السنة"، ويقول أخرى: "والنبي يشكو أمته في القرآن، ولا يتوسط لمذنبيها، فيقول لربه: يا رب، إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا، وهي شكوى صريحة وكلام مناقض لأي شفاعة".

ومثال آخر لرجل يصنَّف كاتبًا إسلاميًّا ومفكرًا، ذا مِبْضَع يدمل به جراح الأمة في تدينها المنقوص وأزمة وعيها الديني كما زعموا! فهذا الرجل الفقيه يقول: "إن علم الشريعة يتجاوز دارسي العلوم الشرعية ليشمل كل من حسن إسلامه، وتعمق في أي فرع آخر من فروع المعرفة الإنسانية والعلمية"، ويقول: "قلت للشاب الماليزي المتحمّس: إن الترويج للأغاني العربية الراقية لا يعد متعة مشروعة ومطلوبة فقط، ولكنه يؤدي رسالة أيضًا من حيث إنه يجذب الناس إلى اللغة العربية، ويعلمهم مفرداتها بمضي الوقت". هكذا يقول ويفتي في الغناء، نسأل الله العافية.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله على نبيه الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وصحبه وإخوانه.

وبعد: فعندما تكلم أمثال هؤلاء ـ عباد الله ـ ظهرت الأقوال الشاذة والآراء الغريبة، كالقول بجواز التأمين بشتى صوره، والقول بعموم (في سبيل الله) في مصارف الزكاة لبناء المساجد والمستشفيات خرقًا للإجماع كما قرره المفسرون. والقول بنفي فضيلة ماء زمزم، والقول بإباحة الغناء. وهكذا في سلسلة أقوال شاذة وآراء فجة يمسك المتعالم لها رواية ضعيفة أو خلافًا شاذًا أو فهمًا مرضًا، فيبني عليه فتوى مجللة بحلل البيان ونضد الكلام، لكنها عَرِيّة عن الدليل والبرهان. والله المستعان.

وبعضهم يستخدم التلفيق المذهبي وتتبع الرخص، فما لا يجوز في مذهب أحمد يجوز في مذهب الشافعي، وما لا يجوز في مذهب مالك يجوز في مذهب أبي حنيفة، وهكذا يكون الرائد والقائد في هذا هو هوى النفس لا رضا الرب، عافانا الله وإياكم.

وخرج منهم كذلك من يقول لنا: يجوز للمسلم أن يبدّل دينه كما يجوز للمسيحي أن يبدّل دينه، معارضًا بذلك قول رسول الله : ((من بدّل دينه فاقتلوه)) الذي ورد في صحيح البخاري وعند أصحاب السنن الأربعة.

عباد الله، إنها مجموعة هجمات شرسة على الفتوى، وجرأة فارهة، وانحدار بها واعتداء عليها من الأصاغر حينًا ومن صغار النفوس تارة أخرى، فاتحين بذلك في حصن الدين المحكم ثلْمًا، وفي السفينة ثقبًا، لتؤول حال المسلم مع هذه الجرأة إلى الضلال والانحراف. وهذه الهجمات تمنح الجهلة فرصة لاقتحام حمى الفتوى وتقويض بناء الدين والخوض في حرماته خوضًا غير مشروط بعلم ولا تخصص ولا تقوى، فإذا اشتهت أنفس هؤلاء تناول الفتوى فليمد يده ولسانه، وليقل ما يشاء بلا رقيب من نفسه ولا غيره.

وهكذا نطق الرُّوَيْبِضة، ومُكِّن من الكلام دون أثارة من علم، وصارت الصدارة للمتفيهقين والمتشدقين الذين يحملون الناس على فتاوى شاذة وغريبة، غاية ما تؤدي إليه الإدبار عن الدين والنفور عن المسلمين. وعندما نطق الرُّوَيْبِضة في مثل هذه الأزمان دفعنا إلى أمر تضج منه الحقوق إلى الله ضجيجًا، وتعج منه الفروج والأموال والدماء إلى ربها عجيجًا، تُبدّل فيه الأحكام، ويقلب فيه الحلال بالحرام، ويجعل المعروف فيه أعلى مراتب المنكرات, والذي لم يشرعه الله ورسوله من أفضل القربات, الحق فيه غريب، وأغرب منه من يعرفه، وأغرب منهما من يدعو إليه، وينصح به نفسه والناس.

يقول ابن القيم رحمه الله واصفًا حال المتعالمين: "انتكست عليهم قلوبهم، وعميَ عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوى الباطلة وشقاشق الهذيان، ولا ـ والله ـ ما ابتلّتْ من وَشَلِه أقدامهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهدى والحق منه وجوه الدفاتر إذ بلت بمداده أقلامهم، أنفقوا في غير شيء نفائس الأنفاس، وأتعبوا أنفسهم وحيروا من خلفهم من الناس، ضيعوا الأصول فحرموا الوصول، وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في مَهَامِه الحيرة وبيداء الضلالة".

ويقول رحمه الله: "وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي فقال: ما يبكيك؟ فقال: استُفتِي من لا علم له, وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال: ولَبعض من يفتي ها هنا أحق بالسجن من السُّرَّاق. قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا وإقدام من لا علم عنده على الفتيا، وتوثّبه عليها، ومد باع التكلف إليها، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها، مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو من بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب, ولا يبدي جوابًا بإحسان وإن ساعد القدر فتواه كذلك يقول فلان بن فلان.

يمدون للإفتاء باعًا قصيرة        وأكثرهم عند الفتاوى يُكَذْلِكُ

ونقل رحمه الله قولاً لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، فقال: "وقال علي بن أبي طالب لكميل بن زياد النخعي وهو حديث مشهور عند أهل العلم يستغني عن الإسناد لشهرته عندهم: يا كميل، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني, ومتعلم على سبيل نجاة, وهَمَج رَعَاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيؤوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق، ثم قال: آه! إن ها هنا علمًا ـ وأشار بيده إلى صدره ـ لو أصبت له حملة بل قد أصبت لقنًا غير مأمون، يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على معاصيه، أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به. وإن من الخير كله من عرفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلاً أن لا يعرف دينه".

عباد الله، ولخطورة هذه القضية صح عن رسول الله أنه قال: ((إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)) رواه أحمد.

فنسأل الله جل وعلا أن يرحم أمة محمد ، وأن يعصمها من إضلال المضلين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً