عباد الله، ذكر بعض العلماء في كتبهم أن رجلاً كان يفتي كل سائل دون توقف، فلحظ أقرانه ذلك منه، فأجمعوا أمرهم لامتحانه بنحت كلمة ليس لها أصل هي (الخنفشار)، فسألوه عنها فأجاب على البديهة: بأنه نبت طيب الرائحة ينبت بأطراف اليمن، إذا أكلته الإبل عقد لبنها، قال شاعرهم:
لقد عقدت محبتكم فؤادي كما عقد الحليبَ الخنفشارُ
وقال داود الأنطاكي في تذكرته كذا، وقال فلان وفلان، وقال النبي فاستوقفوه، وقالوا: كذبت على هؤلاء فلا تكذب على النبي ، وتحقق لديهم أن ذلك المسكين جِراب كذب وعَيْبة افتراء في سبيل تعالمه.
عباد الله، قد تبدو هذه للسامع وكأنها طرفة فيضحك منها، لكن الأمر كما قيل: شر البلية ما يضحك.
إن هذه القصة تمثل أنموذجًا من النماذج التي ابتليت بها هذه الأمة، من الذين يتكلمون في دين الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، يقولون ما لا يعلمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ولئن كانت هذه القصة حدثت في الأزمنة الغابرة ففي زماننا هذا مئات القصص من مثل هذه القصة، بل عندنا ـ والله ـ ما هو أشد وأنكى من ذلك، وذلك كله عندما يتعلق الأمر بالكلام في دين الله وشرعه.
لقد أصبحت الساحة العلمية مباحة لكل من هب ودب، يصول فيها ويجول كل من اشتهى ولو لم يحمل سلاحًا ولا عدة، فإذا بنا نشاهد أطباء يفسرون القرآن، ومهندسين يصنفون في الحديث، بل وعمالاً ومهنيين عوام يُقصَدون للفتوى، وصحفيين يناقشون ويجادلون في أدق مسائل الدين! نعم، إن تدبر القرآن والتفقه في الدين ليس حِكرًا على طبقة من الناس، فلا رهبانية في الإسلام. إن تدبر القرآن والفقه في الدين مطلوبان من كل مسلم، لكن هذا شيء، والتصدر للفتوى والاجتهاد والتصنيف في علوم الشريعة شيء آخر، فكل ذلك حكر على أهله، وأهله هم كل من تحققت فيهم الأهلية العلمية حسبما يقرره أهل الاختصاص، وحسب القواعد والضوابط التي اصطلحوا عليها واستمر العمل بها إلى اليوم.
عباد الله، خرَّجَ الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه السلسلة الصحيحة حديثًا رواه ابن ماجه والحاكم والإمام أحمد في المسند عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((سيأتي على الناس سنوات خدّاعات، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويُؤْتَمَنُ فيها الخائن، ويُخَوَّنُ فيها الأمين، وينطق فيها الرُّوَيْبِضة))، قيل: وما الرُّوَيْبِضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلم في أمر العامة)). وعنون له الشيخ بقوله: "أليس هذا زمانه؟!". ويقال اليوم: بلى والله، إن هذا زمانه، وإنها السنين الخداعة التي نطق فيها الرُّوَيْبِضة. لقد أخبرنا بذلك رسولنا عليه الصلاة والسلام قبل مئات السنين، أخبرنا بظهور هذا الصنف من الناس، ودارت الأيام والسنون ونطق الرُّوَيْبِضة، وتكلم في أمر الدين وأفتى وأحل وحرم وليس هو من أهل العلم، بل ولم يُعرف بطلب العلم.
أيها الموحدون، إنه يجب علينا اليوم معرفة الكفء لهذه المهمة من أهل العلم الموثوقين المعروفين بالدين والصلاح والورع والعلم. وذلك أمر الله لنا عندما أمرنا بالتوجه لأولئك في حال الجهل وعدم العلم في شأن من شؤون ديننا، قال تعالى: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]. إن الكثير من الأمة اليوم بحاجة إلى معرفة من هو المؤهل لأن يُسأل، وليس كل من تكلم في الدين أهل لأن يُسأل، إنما يعرف العالم باهتدائه بهدي الوحيين القرآن والسنة على فهم السلف الصالح القرون الثلاثة المفضلة، لا على فهم المتأخرين الذين إن تكلموا في الفقه فبالرأي، أو في التفسير فبما تمليه عقولهم وأفهامهم، حتى تسمع أحدهم يفسر الجزء من القرآن لا يذكر في تفسيره حديثًا واحدًا أو قولاً لأئمة المفسرين، من أمثال ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة، أو من بعدهم من مثل مجاهد، ولا من أصحاب التفسير كالطبري وابن كثير وغيرهما، ممن فسروا القرآن تفسيرًا أثريًا مبنيًا على الآثار الواردة فيه من أحاديث وغيرها. ويعجب الكثير من المسلمين بقوله، وما عرفوا أن ذلك أبعد ما يكون عن تفسير كلام الله ومعرفة مراده. فمن يا ترى ـ بالله عليكم ـ يكون أعلم بمراد الله في الآيات من رسوله ؟! ومن يا ترى يكون أعلم بذلك من أصحابه من بعده؟! لكن مشكلتنا أننا نعجب ببهرجة الأقوال وزخرفتها، ولو خالفت الحق ما درى الكثير منا.
عباد الله، يقول ابن سيرين رحمه الله كما في مقدمة صحيح مسلم: "إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم".
من الواجب على كل مسلم أن يعرف من الذي يُستفتى، وليس كل من نصب نفسه لذلك فهو أهل. إن الدين يؤخذ من العلماء المشهود لهم بالعلم والتقوى والورع، الذين إذا تكلموا فبقول الله وقول رسوله لا بزخرف القول غرورًا. وما أحسن ما قاله ابن القيم في العلماء، قال رحمه الله: "ورثة الرسل وخلفاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم الذين قاموا بالدين علمًا وعملاً، وهم بمنزلة الطائفة الطيبة التي زكت فقبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وهؤلاء هم الذين جمعوا بين البصيرة في الدين والقوة على الدعوة، فبالبصائر يدرك الحق ويعرف، وبالقوة يتمكن من تبليغه وتنفيذه والدعوة إليه".
ولقد أصبح اليوم كتاب صحفيون يتكلمون في الدين، ومقدمو برامج في قنوات فضائية يفعلون ذلك. لكن يجب أن نعلم أننا لا نأخذ ديننا من كاتب محترف، ولا مذيع متكلم، ولا نأخذ ديننا من الصحف أو المجلات أو القنوات الفضائية، بل نأخذه من أفواه علمائنا الذين عرفوا بأهليتهم لذلك، لا من حملة شهادات عالية في مجالات دنيوية يحسبون أنهم بحملهم لهذه الشهادات مؤهلون للخوض في غمار المسائل الشرعية دقيقها وجليلها. إن هؤلاء ـ عباد الله ـ هم الرُّوَيْبِضة الذين ذكرهم رسول الله .
وإليكم بعض الأمثلة لبعض الرُّوَيْبِضة الذين كثروا في زماننا هذا. فقد قام أحدهم مثلاً بإنكار الشفاعة، وتكلم في ذلك وناقش بجرأة وجهل، وليس هذا شأنه لكنه متعالم، ويَضِلُّ المتعالم ويحار عندما يتكلم فيما ليس له فيه، فقد قال منكر الشفاعة مثلاً: "وتتواتر الأحاديث بهذا المعنى بصياغات مختلفة في البخاري وغيره، ويقف المسلمون أمام الاختيار الصعب بين النفي القرآني وبين ما جاء في السنة"، ويقول أخرى: "والنبي يشكو أمته في القرآن، ولا يتوسط لمذنبيها، فيقول لربه: يا رب، إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورًا، وهي شكوى صريحة وكلام مناقض لأي شفاعة".
ومثال آخر لرجل يصنَّف كاتبًا إسلاميًّا ومفكرًا، ذا مِبْضَع يدمل به جراح الأمة في تدينها المنقوص وأزمة وعيها الديني كما زعموا! فهذا الرجل الفقيه يقول: "إن علم الشريعة يتجاوز دارسي العلوم الشرعية ليشمل كل من حسن إسلامه، وتعمق في أي فرع آخر من فروع المعرفة الإنسانية والعلمية"، ويقول: "قلت للشاب الماليزي المتحمّس: إن الترويج للأغاني العربية الراقية لا يعد متعة مشروعة ومطلوبة فقط، ولكنه يؤدي رسالة أيضًا من حيث إنه يجذب الناس إلى اللغة العربية، ويعلمهم مفرداتها بمضي الوقت". هكذا يقول ويفتي في الغناء، نسأل الله العافية.
|