أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله الذي خلقكم ورزقكم من الطيبات، واشكروه على مزيد فضله ووافر نعمه، واحذروا أسباب غضبه وعقابه.
أيها المسلمون، إن من عظيم آلاء الله وجميلِ إحسانه أن كرَّم بني آدم على جميع مخلوقاته لما حباهم به من عقل هو مناط التكليف وما أنزل عليهم من وحيٍ هو الدليل لهم إلى كلّ سعادة والقائد لهم إلى كلّ خير والسائق لهم إلى كلّ هدى والمنقذ لهم من كلِّ ضلال. ولمّا كان الإنسان مدركًا بعقله قيمةَ الحياة الاجتماعيّة متبيِّنًا ضرورَتَها متيقّنًا لزومها وشدّةَ الحاجة إليها؛ فحيثما وجِد الإنسان وُجِدت، بها تنتظم أموره وتستقيم حياتُه ويبلغ غاياته، وإذا كان الناس قد تواضعوا بينهم على إقامة روابطهم وإنشاء صِلاتهم على قواعدَ وطرائق شتّى يرون أنها السبيل الأمثل الذي تتحقّق به مصالحهم ويطيب به عيشهم فإنّ الله تعالى جعل رابطةَ المؤمنين على أساس العقيدة والأخوّة في الله، فأخبر سبحانه عن ذلك المعنى بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ الآية [الحجرات:10]، وهو إخبارٌ منه بما يجب أن يكون واقعًا ملموسًا، لا مجالَ لجَعله كلامًا وأمانيَّ لا رصيد لها؛ لأنّ المؤمنين حين آمنوا بربّهم وصدّقوا برسوله وبما جاءهم به من عنده توحّدت وِجهتهم واجتمعت قلوبهم، ولا تنافر بين قلوب اجتمعت على إيمانٍ بالله وعَمَرها حبٌّ شديد لله؛ لأنّ الإيمانَ قوّة جاذبة تبعث أهلَها على التقارب والتعاطف، وذلك هو التآلفُ الذي أشار إليه سبحانه بقوله: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:63].
وبذا كان هذا البناء المؤتلف المحكَم جديرًا بهذا الوصف النبويّ البليغ الوارد في قوله صلوات الله وسلامه عليه: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا)) أخرجه مسلم في الصحيح، وكان هذا التآلف القائم على العقيدة والأخوّة في الله جديرًا أيضا بهذا المثل النبويّ المشرق الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى)) أخرجه مسلم في الصحيح. ولقد كانت تلك المؤاخاة العظيمة ثمرةَ الغراس النبويّ الذي غرسه رسول الله عقِبَ هجرته إلى المدينة، تلك المؤاخاة التي جعلت من المسلم الأنصاريّ يقتسم مع أخيه المهاجر كلَّ شيء، حتى إنّه لينزل عن إحدى زوجتيه فيطلّقها ليتزوّجها أخوه المسلم المهاجر من مكّة، كانت هذه المؤاخاة أوضح دليل وأقوى برهان على أنّ رابطةَ الأخوّة في الله أمست في ضياء القرآن وهدي النبوّة واقعًا مشهودًا لا ريبَ فيه وحقيقة ماثلة لا يوجد مدافع لها؛ ولذا كانت هذه الأخوّة نعمةً امتنّ الله بها على عباده، فقال في مقام التذكير بآلائه والتعداد لنعمه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران:103].
قال بعض أهل العلم في التعليق على هذه الآية وبسط مدلولاتها: "لقد وثّق الله صلات المسلمين خاصّة بلحمةٍ أقوى من النسب، هي وحدة العقيدة بما ينشأ عنها من وجدان مشترك وتآلفٍ وتعاطف وتعاونٍ وإخاء؛ لأنّ صلةَ الدم أو الجنس قد يمسّها فتور وهي أشدّ ما تكون قرابة، أما وحدة العقدة فهي قرابة قويّة دائمة متجدّدة، يذكرها المسلمون وهم ينطقون بالشهادتين في سرّهم وجهرهم، ويذكرونها في صلاتهم وصيامهم وزكاتهم وحجّهم، ويذكرونها في طاعتهم لله وخضوعهم له واستعانتهم به، ويذكرونها في كلّ لمحة عين أو خفقة قلب أو تردّد نفَس؛ لهذا أمرهم القرآن الكريم أن يعتصموا بوحدتهم في ظلال عقيدتهم، وحذّرهم الفرقة لأنّها تقوّض هذه الوحدة. وفي حضّه على الوحدة صوّرها صورةً تحبِّبها إلى نفوسهم فسمّاها حبل الله، ثم امتنّ عليهم بنعمة من ربهم هي الألفة التي جمعتهم فصيّرتهم إخوة يربطهم الحبّ والتعاون والاتحاد ووحدة الهدف والمصير بعد أن كانوا أعداء يسطو بعضهم على بعض ويقتل بعضهم بعضًا، حتى لقد كاد يُفني بعضهم بعضًا، حتى لقد كادوا يتفانَون كأنّهم على حافة حفرة تلتهب نارًا، يوشكون على التردي فيها لولا أن لطف الله بهم فأنجاهم من التردّي المهلك" انتهى كلامه.
وإذا كانت هذه الأخوّة المباركة نعمةً أنعم الله بها على هذه الأمّة فلا عجبَ إذًا أنه سبحانه لم يربطها بمصالحَ دنيويّة ولم يردّها إلى عوامل واعتبارات متغيّرة بتغيّر الزمان والمكان، بل أراد لها أن تتّسم بسمة البقاء والاستمرار إلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها، حتى تكون الأخوّة في الله رابطةً بين المسلم وبين من سبق من أجيال وما سوف يتلوه أيضا من أجيال في سِلسِلة متّصلة يربط ويقوّي ما بين حلقاتها هذه الأخوّة المباركة.
عباد الله، إنّ استشعار هذه النعمةِ يستوجب كمالَ العناية بأمرها وتمامَ الرعاية لحقوقها والحرصَ على صيانتها من كلّ ما يعكّر صفوها أو يوهن عُراها أو يتصدّع به بناؤها؛ إما من اتصافٍ بما يقبح من الصفات وما يضرّ من الأعمال، أو بالتخلِّي عن الأخ المسلم عند حاجته، وكلّ ذلك مما جاء بيانه في الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي قال: ((إياكم والظنَّ؛ فإنّ الظنَّ أكذب الحديث، ولا تجسّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، بحسب امرئ من الشرّ أن يحقر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضُه))، وفي رواية: ((ولا يسلمه)) أي: لا يتخلّى عنه عند حاجته إليه. ولما كانت الأثرة التي يُمنى بها بعض الإخوة في الدين حقيقةً واقعة لا مجال لإنكارها يستجيبون لها بدرجات مختلفة وتوقع بينهم العداوةَ والبغضاء شرع الله سبيل الوقاية التي تحجزهم عن التنكّر لحقوق هذه الأخوة وتدرأ عنهم سوء العاقبة المترتّبة على ذلك؛ بأن أمرهم بالاحتكام إلى شرع الله وسنة رسول الله ؛ لأنه الطريق الذي يحقّق الخير ويضمن العدالة، فتطمئنَّ له القلوب وتذعن له النفوس، فقال عز من قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النساء:59]، وقال عز وجل: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9] .
فاتقوا الله عباد الله، واذكروا نعمة الله عليكم المتمثّلةَ في هذه الأخوّة التي ربط الله بها بين قلوبكم، وارعوا حقّها، وحذار من التنكّر لها؛ تكونوا من المفلحين الفائزين الذين قال الله فيهم: فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17، 81].
نفَعني الله وإيّاكم بهديِ كتابهِ وبسنّة رسوله ، أقول قَولي هَذَا، وأَستَغفِر الله العَظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسائر المسلِمين مِن كلّ ذنبٍ فاستغفروه، إنّه هوَ الغَفور الرَّحيم.
|