.

اليوم م الموافق ‏04/‏ربيع الأول/‏1446هـ

 
 

 

الابتلاء بالمعاصي

4803

الرقاق والأخلاق والآداب, العلم والدعوة والجهاد, سيرة وتاريخ

آثار الذنوب والمعاصي, الفتن, القرآن والتفسير, القصص

محمد بن سليمان الحماد

الرياض

جامع التركي

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- الاعتبار بقصص القرآن. 2- قصة الذين اعتدوا في السبت. 3- دروس وعبر من القصة.

الخطبة الأولى

عباد الله، إليكم هذه القصة التي وثّقها لنا ربنا في كتابه العزيز؛ لنقف معها ونتدبّرها، فإن القصص في القرآن ما قصّها الله إلا للعبرة والتفكر، فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176]، يقول الله تعالى في سورة الأعراف: وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [الأعراف:163-166].

ذكر ابن كثير وغيره عن ابن عباس أن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم يوم الجمعة، فخالفوا إلى السبت، فعظموه وتركوا ما أمِروا به، فلما أبوا إلا لزوم السبت ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحلّ لهم في غيره، وكانوا في قرية حاضرة البحر يقال لها: أيلة بين مدين والطور، فحرم عليهم في السبت الحيتان صيدها وأكلها، فكانوا إذا كان السبت أقبلت عليهم إلى ساحل البحر شُرَّعا ظاهرة، حتى إنها لتخرج خراطيمها من الماء، فإذا كان يوم الأحد لزمت مقل البحر كشأن الأسماك، فلم ير منها شيء.

فكانوا كذلك حتى طال عليهم الأمد، فعمد رجل منهم فأخذ حوتا سرّا يوم السبت، فحزمه بخيط ثم أرسله في الماء وأوتد له وتدا في الساحل، فأوثقه ثم تركه حتى إذا كان الغد جاء فأخذه أي: إني لم آخذه يوم السبت، فانطلق به فأكله ولعله شواه، فوجد الناس رائحته، حتى إذا كان يوم السبت الآخر عاد لمثل ذلك، فوجد الناس ريح الحيتان، فتتبّعوا حتى عثروا على صنيع ذلك الرجل، ففعلوا كما فعل، وصنعوا ذلك سرا زمنا طويلا، فلم يعجّل الله عليهم العقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها في الأسواق، فقال لهم طائفة منهم من أهل البقيّة: وَيحَكم اتقوا الله، ونهوهم عما كانوا يصنعون، فأجابوهم: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فصاحوا فيهم: إنما صيدكم يومَ وثقتموه، فقالت طائفة ثالثة قد سكتوا عن النهي والإنكار قالوا للطائفة الناهية الواعظة: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا أي: إنهم ارتكبوا جرما عظيما قد نهاهم الله عنه، وسنة الله فيمن خالف أمره معروفة، فقالوا: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ أي: إعذارا إلى الله وقياما بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أي: لعلهم يذكرون ويتوبون ويقلعون عن معصيتهم.

فلما أبوا وبغوا قال البقية: والله لا نساكِنكم، فقسموا القرية بجدار، وجعلوا لهم بابا، وللمعتدين بابا آخر، فبينما هم على ذلك أصبحت ذات يوم البقية في أسواقها ومساجدها ولم يروا المعتدين، فذهبوا ينظرونهم في قريتهم وحصنهم فإذا هم يتعادون ويثِب بعضهم على بعض قردة لهم أذناب، ففتحوا عليهم الباب فانتشروا في الأرض، فصار الأنسيّ لا يعرف نَسبَه من القردة، والقِردة تعرف أنسابها من الأناسي، فتأتي القردة إلى قريبها من الأنس، فتشمّ ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم؟! فتقول برأسها: بلى، وكان عددهم سبعين ألفا، وأنجى الله الذين ينهون عن السوء والمنكر، فمكث المعتدون ثلاثة أيام لا يأكلون ولا يشربون، ثم أماتهم الله جميعا.

الوقفة الأولى: لقد ابتلى الله أهل تلك القرية بنوع من البلاء قد غفل عنه الكثير من الناس اليوم؛ حيث إن الناس يحسبون الابتلاء نوعين: إما بالخير ورغد العيش، وإما بالشر والمصائب، ويستشهدون بقول الله: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، ويجهلون معناها، والحق أن هناك نوعا ثالثا هو أشد الأنواع وأخطرها، وقد رتب الله على من أخفق وخسر فيه عقوبة شديدة، ألا إنه الابتلاء بالمعاصي والفتن، فأولئك القوم قد نهاهم الله عن صيد السمك يوم السبت، فصار السمك في حقهم في ذلك اليوم معصية وإثما، ثم قربه الله إليهم ويسره لهم ليبتليهم ويختبرهم.

وقد قرر الله ذلك في آية أخرى، ومع قوم آخرين، لكنهم نجحوا في هذا الامتحان فكانوا خيرا من اليهود، وهم المسلمون أصحاب الرسول ، لما كانوا محرِمين بعمرة الحديبية ابتلاهم الله بالصيد وهو محرَّم على المحرِم، يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنْ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ[المائدة:94].

يقول ابن سعدي: "لقد ذكر الله الحكمة من ذلك الابتلاء فقال: ليعلم الله علما ظاهرا للخَلق يترتّب عليه الثواب والعقاب مَن يخافه بالغيب فيكف عمّا نهى الله عنه مع القدرة عليه وتمكنه منه فيثيبه الله الثواب الجزيل ممن لا يخافه بالغيب فلا يرتدع عن معصية تعرِض له فيصطاد ويقترف ما تمكن منه... والاعتبار بالخوف من الله بالغيب وعدم حضور الناس، وأما إظهار مخافة الله عند الناس فقد يكون لأجل مخافة الناس، فلا يثاب على ذلك".

وتأملوا حالنا اليوم، كيف فتح الله علينا الدنيا فيسّر الله لنا اكتساب الأموال حلالها وحرامها، فكثر تجّار الربا ومثلهم تجار الحلال، ولقد تيسّرت لنا المعاصي اليوم بخلاف الأمس، فكثرت النساء المسيّبات مما أدّى إلى سهولة الزنا بأنواعه: زنا العين والرجل والفرج ونحوها، حتى صار الكثير منا يقول: لا ملامة علينا وعلى الشباب، أو إن الخرق اتّسع على الراقع، ونحو ذلك من الحجج الواهية الباطلة. وهذا والله عين الابتلاء، فلنحذر ولْنعِ الأمر ولننظر إلى الواقع نظرة صحيحة، فهل تحبون أن تكونوا كاليهود خسروا وفشلوا في الامتحان فأنزل الله بهم أشد العذاب أم تحبون أن تكونوا من المسلمين فتنجحوا وتفوزوا في الامتحان فيثيبكم الله الثواب الجزيل ويخفف عنكم ويرفع البلاء عنكم؟!

الوقفة الثانية: ضرورة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعدم السكوت عن المنكر بحجة أن النهي لا ينفع أو أن الأمر والنهي قد فات أوانه. ولقد مدح الله في هذه القصة الناهين عن السوء، وبين أنه تعالى أنجاهم من العذاب وشرّفهم بفضله، وسكت عن الساكتين الذين يقولون للواعظين: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا.

يقول ابن كثير: الجزاء من جنس العمل، فلما سكتوا عن الإنكار سكت الله عنهم، فلم يمدحهم ولم يذمهم، واختلف العلماء في حالهم: هل نجوا أم عوقبوا؟ فيقول ابن سعدي في المسألة: "والظاهر أنهم كانوا من الناجين؛ لأن الله خص الهلاك بالظالمين؛ لأن الأمر والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، فاكتفوا بإنكار أولئك، ولأنهم أنكروا عليهم بقلوبهم وببغضهم لصنيعهم حين قالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا، فأبدوا من غضبهم عليهم ما يقتضي أنهم كارهون أشد الكراهة لفعلهم" اهـ.

ولابن سعدي كلام جميل حول هذه الآيات وما بعدها، فيحسن مراجعته، وتأملوا هذا الموقف الجليل من الصحابي الجليل حبر هذه الأمة وترجمان قرآنها ابن عباس، فقد أخرج البيهقي في سننه عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في آخر هذه القصة: (أرى الذين نهوا قد نجوا، ولا أرى الآخرين ذكِروا، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها)، وكأنه رضي الله عنه يعاتب نفسه ويخوفها من عذاب الله على سكوته، فقال له عكرمة: جعلني الله فداك، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم وقالوا: لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ؟! قال: فسري عن ابن عباس واطمأنت نفسه، وطمع في رضا ربه، فأمر به فكسِي ثوبين غليظين.

وعليه يكون الساكتون نجَوا بفضل الله، ثم بسبب إنكارهم بقلوبهم واكتفائهم بإنكار أصحابهم والله أعلم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله...

 

الخطبة الثانية

الوقفة الثالثة: لقد عذب الله اليهود الذين احتالوا على أمره وخادعوه وظنوا أنهم ناجون بذلك، وما علموا أن الحرام حرام ولو احتالوا عليه، ولقد حذرنا الرسول أن نكون مثلهم فقال: ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل)) قال ابن كثير: "إسناده جيد، ورجال ثقات".

ولقد احتال بعض الناس اليوم على ما حرّم الله في كثير من الأمور كالرياء والزنا والسفر المحرم، واحتالوا لأنفسهم لترك الدعوة إلى الله أو الحسبة أو الجهاد ونحو ذلك، فيجب الحذر حتى لا يصيبنا ما أصاب أهل أيلة.

عباد الله، وأما الوقفة الرابعة والأخيرة: فهي مع أولئك القوم الذين مسخهم الله قردة، هل تناسلوا أم لا؟ وكم مكثوا أحياء؟ يقول ابن كثير: روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: (إنما كان الذين اعتدوا في السبت فجعلوا قردة فواقا ـ أي: فواق ناقة، وهو مقدار حلب الناقة ـ ثم هلكوا، وما كان للمسخ نسل).

يقول ابن كثير: "ولقد خلق الله القردة والخنازير وسائر خلقه في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابة، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وهي معروفة قبل والله أعلم"، وبهذا يعلم خطأ قول القائل عن اليهود أحفاد القردة والخنازير، والصحيح أن يقال: إخوان القرَدة والخنازير تشبيها لأفعالهم، والله أعلم.

هذا وصلوا وسلموا...

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً