الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد: عباد الله، لقد عشنا في الأيام الماضية ذكرى حادثة عظيمة من حوادث تاريخنا الإسلامي، هذه الحادثة كانت إيذانا بعهد جديدٍ وتحوّل مهمّ في تاريخ الدعوة الإسلامية، تلكم هي هجرة رسول الله من مكة بيت الله الحرام إلى المدينة دار الهجرة، وقيامه ببناء الدولة الإسلامية وبناء الأمة التي تعبد الله وحده لا شريك له وتبلّغ دينه الحنيف إلى الناس جميعًا، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28].
لقد علمتنا الهجرة الشريفة أن الثقة واليقين بالله يقودان إلى نصره الموعود لعباده المؤمنين، وصدق الله العظيم: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، وصح أن رسول الله قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)).
فيا أخي المسلم، لئن فاتك ثواب الهجرة إلى الله ورسوله في زمن النبوة فقد شرع الله لك هجرة من نوع آخر، فيها الثواب العظيم، فاهجر المعصية إلى الطاعة، واهجر التفريط، وهاجر إلى الاستقامة، واهجر التمرد والآثام إلى الانقياد والاستسلام، واهجر الكسل والأمل الباطل إلى الجد والاجتهاد فيما يرضي مولاك، وهاجر بقلبك من الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها إلى الدار الآخرة والرغبة فيها، وفي صحيح مسلم أن النبي قال: ((عبادة في الهرج كهجرة إليّ)) يعني وقت الفتن.
وإن حادث هجرة المصطفى تمدّ المسلمين بالعبر والعظات والدروس والتوجيهات، وقد شاء الله تعالى أن تكون بأسباب مألوفة للبشر، يتزوّد فيها للسفر، ويركب الناقة، ويستأجر الدليل، ولو شاء الله لحمله على البراق، ولكن لتقتدي به أمته، فينصر المسلم دينه بما يسّره الله من الأسباب. وأعظم واجب عليك ـ أيها المسلم ـ أن تنصر دين الله في نفسك، بأن تستقيم على طاعة الله، وأن تنصره في بيتك، بالعمل به والدعوة إليه في مجتمعك والصبر عليه.
وإن حال المسلمين في العالم يوجب الاستفادة من معاني الهجرة النبوية، فلن يصلح حال المسلمين في هذا العصر إلا بالأمور التي صلح بها السلف الصالح، من الإيمان الحق والتوحيد الخالص والخلق الكريم والصدق مع الله والتوكل عليه والصبر على المكاره وإحسان العبادة على وفق ما جاء به النبي في السنة المطهرة.
وإننا لنؤمّل خيرًا في هذه الأمة بأن تعود إلى ربها ودينها حتى يكون لها التمكين والظهور على أعدائها، خاصة في هذه الأيام مع الهجمة الشرسة والسخرية والاستهزاء الذي يتعرّض له صاحب الهجرة ، ذلك أن من سنة الله فيمن يؤذي رسوله أنه إن لم يُجازَ في الدنيا بيد المسلمين فإن الله سبحانه ينتقم منه ويكفيه إياه، والحوادث التي تشير إلى هذا في السيرة النبوية وبعد عَهد النبوة كثيرة، وقد قال الله تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ [الحجر:94، 95]، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:3]. فكل من شنأه وأبغضه وعاداه فإن الله يقطع دابره ويمحق عينه وأثره. ومن الكلام السائر الذي صدقه التاريخ والواقع: "لحوم العلماء مسمومة"، فكيف بلحوم الأنبياء عليهم السلام؟! وفي الصحيح عن النبي أنه قال: ((يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة))، فكيف بمن عادى الأنبياء؟!
يا ناطح الجبل العالي ليثلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
إن من عقيدة أهل السنة أن من آذى الصحابة ـ ولا سيما من تواتر فضله ـ فإسلامه على شفا جرف هار، يجب ردعه وتأديبه، فكيف بمن آذى نبيًا من الأنبياء؟! فكيف بمن آذى محمدًا؟! إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، وقال سبحانه مبينا تكفّله بكفاية شر هؤلاء: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:136، 137]. فما أوسع البون بين أهل الإسلام الأتقياء الأنقياء الذين يؤمنون بجميع الرسل ويعظمونهم ويوقرونهم وبين غيرهم الذين ناصبوا رسلهم العداء قديمًا وحديثًا، وورثوه كابرًا عن كابر. ولا شك أن ساسة الدول الذين يغضّون الطرف عن سفهائهم الواقعين في أعراض الأنبياء ليسوا عن الذمّ بمعزل، فإن الله سبحانه تأذّن بإهلاك المدن والقرى الظالمة، ولعل من أظلم الظلم الاعتداء على الأنبياء وتنقصهم، فإن ذلك يخالف التشريعات السماوية، كما أنّه مخالف للنظم والقوانين الوضعية الكافرة الأرضية.
والدول الغربية إذا لم تقم العدل لم تبق من مقومات بقائها كثير أعمدة، ولعل وقيعة بعض الغربيين في النبي الكريم مشعِر بتهالك حضارتهم وقرب زوالها، فإنهم ما تجرؤوا ولا عدلوا إلى الانتقاص وأنواع الشتم إلاّ بعد أن فقدوا المنطق وأعوزتهم الحجة، بل ظهرت عليهم حجّة أهل الإسلام البالغة وبراهين دينه الساطعة، فلم يجدوا ما يجارونها به غير الخروج إلى حدّ السخرية والاستهزاء والسب والشتم، تعبيرًا عن حنقهم وما قام في نفوسهم تجاه المسلمين من المقت، وغفلوا أن هذا يعبّر أيضًا عما قام في نفوسهم من عجز عن إظهار الحجة والبرهان والرد بمنطق وعلم وإنصاف.
وإنك لتعجب من دول يعتذّر حكماؤها لسفهائها بحجة إتاحة الحريات، مع أن شأنهم مع من عادى السامية أو تنقصها يختلف! وإذا تقرر هذا فليعلم أن من واجب المسلمين أن يذبوا عن عرض رسول الله بما أطاقوا قولاً وعملاً، وأن يسعوا في محاسبة الظالم وفي إنزال العقوبة التي يستحقها به، كما قال الله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:9]، وقال عز وجل: إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40].
أيها الإخوة، كونوا على يقين أن الله منتقم لنبيه ، وأن المجرم إذا تداركته فلتة من فلتات الدهر في الدنيا فلم تمض فيه سنة الله في أمثاله فإن وراءه يوما عبوسا قمطريرا، شره في الخلق منتشر، عظيم الشأن، وحسبه من خزي الدنيا أن يهلك وألسنة المليار ومن ينسلون تلعنه إلى يوم الدين، فإنّ المسلمين قد ينسَون أمورًا كثيرة ويتجاهلون مثلها، ولكنهم لا ينسَون ولا يغفرون لمن أساء إلى نبيهم وإن تعلق بأستار الكعبة، وخاصة بعد موته ، وتاريخهم على هذا شاهد.
هذا، والله أسأل أن يعجل بالانتصار لنبيه ، وأن يعزّ الإسلام وأهله، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
|