أيها المسلمون، كان الحديث في الجمعة الماضية يدور حولَ المنافقين ودورِهم في الإصلاح، وعرفنا أن المنافقينَ يدّعون الإصلاح ولكنهم في حقيقة الأمر كما قال تعالى عنهم: أَلا إِنَّهُمْ هُمْ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12]، فهم أهلُ الخراب والفساد، فهم الملعونون الذين قال تعالى عنهم: مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً [الأحزاب:61]، وهم الذين ينبغي أن نحذرهم أشدَّ الحذر كما قال تعالى: هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].
أيها المسلمون، نحن الآن وفي هذا العصر نعيشُ بين عداوتين: عداوةٍ خارجية وهم أولئك الكفار من اليهود والنصارى والصليبيين الحاقدين الذين يخططون لغزو بلاد المسلمين دينيًا وفكريًا وسياسيًا، ونعيشُ كذلك بين عداوةٍ داخلية متمثلة في المنافقين والعلمانيين والحداثيين ونحوِهم الذين أخبرنا عنهم النبي أنهم من بني جلدتِنا ويتكلمون بألسنتنا، فينبغي أن نحذرَهم، ويبقى السؤال: ما واجبُنا وما دورُنا في مواجهةِ هاتينِ العداوتين؟
الجواب: أُلَخِّصه فيما يلي، ونسأل اللهَ الإعانةَ والسداد:
أولاً: إن هذه الأحداثَ الأخيرة ما هي إلا فتنةٌ وقانا الله شرها، وقد سلّمكم الله أن تقعوا فيها بأيديكم، فلا تقعوا فيها بألسنتِكم ولا بقلوبِكم، فهذه فتنةٌ عظيمة ولا بد أن نَضْبِطَ ألسنَتَنَا، وأن نُحَكِّم قلوبَنا وعقولَنا، وأن نبتعدَ أن نقع في مثلِ هذه الأمورِ بأيدينا، وقد نجانا الله من الوقوعِ فيها، وقد رُويَ في الحديث قولُه : ((إن السعيد من جُنّبَ الفتن)).
ثانيًا: المسلم لا يُستخف، قال تعالى: وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ [الروم:60]، ولا بدَّ من التَّثَبُّتِ وعدمِ الاستعجال؛ حتى لا نرمي بريئًا بذنب لم يَثْبُتْ عليه. تثبَّتوا ولا تَسْتَعْجِلوا، وانتبهوا لخطورةِ الإشاعات في مثلِ هذهِ الأيام، فعليكم بالتثبُّت، وهذا منهجٌ شرعيٌ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6].
ثالثًا: يَنْصَحُ أهلُ العلمِ بعدمِ الخوضِ في هذهِ المسائل إلا من أَجْلِ الاستفادةِ من الدروسِ والعبر والبيانِ للناس والوعظِ والإرشادِ والتحذيرِ مما قد يقع فيه المسلمون، وبخاصةٍ وأن المجالسَ اليوم شُغِلَتْ بكلامٍ قد لا يُفيد، بل يَضُر. فاحرصوا على إغلاقِ منافذِ الشرِ وسدِّ الذرائع، واحذروا من التأويلِ الفاسد.
رابعًا: أخي المسلم، لا تُقْدِمْ على أمرٍ أو على خُطورَةٍ إلا بَعْدَ أن تكونَ قد حَرَّرْتَها شرعًا، هل هي جائزة أو لا؟ فنحن لا نَتَعَبَّدُ اللهَ إلا بما شرع، فلا بد من الرجوع إلى العلماء الموثوقين، ولا بد أن نبحثَ المسائلَ شرعًا قبل الإقدامِ عليها، فبحثُ المسائل من الناحيةِ الشرعية يُجَنِّبُنَا الكثيرَ من الفتنِ والبلاءِ والمُشْكِلات. واعلموا ـ أيها الإخوة ـ أن التقليد في هذه المسائل لا يجوز، مسائل الغلو وقضايا التكفير، هذه قضايا كبرى لا يتصرَّف بها مجردُ أفراد، وإنما يُرْجَعُ فيها إلى العلماءِ، فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].
خامسًا: لا بد أن نَفْهَمَ معنى الوسطية التي جاء بها الإسلام فهمًا صحيحًا، فاللهُ عز وجل قد مدح هذه الأمة بقوله: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَّسَطًا [البقرة:143]، فالوسطية بمعناها الصحيح هي ما جاء به الرسول ، وليست الوسطية بمعنى التنازُل والتساهُل وتمييع القضايا، إنما منهجُ الوسطية كما بيَّنه القرآن الكريم وبينته سنة المصطفى ، وسطية هذه الأمة بين الأمم، وسطية هذه الأمة في عقيدتها وتشريعها ومعاملاتها وسلوكها وأخلاقها، فالقرآن الكريم من أوله إلى آخره يَرْسُمُ منهجَ الوسطية إما تصريحًا أو تلميحًا.
ومن أمثلةِ الوسطية في القرآن قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ، فحذَّرَنَا سبحانه أن نكونَ من المغضوبِ عليهم الذينَ يعلمون ولا يعملون، وحذرنا من الضالين الذين يعملون على جهل ولا يعلمون، واختارَ لنا المنهج الوسط الذي سماه بالصراط المستقيم، وهو سبيلُ المؤمنين الذين يعلمون ويعملون.
ومن الأمثلة أيضًا على منهج الوسطية الوسطيةُ في الأكلِ والشرب، قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف:31].
وأيضًا من الأمثلة على منهج الوسطية الاعتدال في الإنفاق، قال تعالى في مدح المؤمنين: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67]، وقال سبحانه في النفقة أيضًا: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ كناية عن البخل، ثم قال: وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ كناية على الإسراف والبذخ.
وكذلك القرآن بيَّن منهج الوسطية في التعامل مع الكفار المحاربين، ومع الكفار المعاهدين المستأمنين، فقال سبحانه: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:8، 9].
فمنهج الوسطية منهج متكامل، نحتاج أن نصوغَ عليه حياتَنا وأن نُرَبِّي عليه أبناءَنا, فالإسلام هو منهجُ التيسير كما قال تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ [البقرة:185]، وقال : ((إنما بعثتم ميسرين))، وقال: ((يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا))، فالتيسير هو سمةُ هذه الشريعة، فالتيسيرُ هو منهج الوسط، ومنهج الوسط هو منهج أهل السنة والجماعة، ومنهج أهل السنة والجماعة هو ما جاء به الرسولُ ، وهو المنهج الصحيح بعيدًا عن الإفراط والتفريط.
أيها المسلمون، ثم لماذا إذا تُكُلِّمَ يُتَكَلَّمُ عن الغلوِ وعن الإفراط ولا يُتَكَلَّمُ عن التفريط؟! لماذا إذا أُطْلِقَ لفظُ التطرُّفِ يُطْلَقُ على فئةٍ معينة؟! فلماذا دائمًا نُرَكِّزُ على طرفٍ ونَتْرُكُ الطرفَ الآخر؟!
نعم، أصحاب الغلو والإفراط عندهم تَطَرُّف، وكذلك أصحابُ المعاصي والتفريطِ عندهم تطرف، لماذا وسائلُ الإعلام إذا ذَكَرَتْ التطرّف لا تَذْكُرُ إلا أصحابَ الغلو فقط بينما الأمر له طرفان؟! فليس من العدل أن نَتَكَلَّمَ في طرفٍ ونتركَ الطرفَ الآخر، فأصحاب الغلوِ متطرّفون، وأصحابُ الذنوب والمعاصي كذلك متطرّفون، الذين يدعُون إلى التفجير داخل البلاد متطرّفون، والذين يدعون كذلك إلى العلمانية ونبذ الدين أيضًا متطرفون.
فإذًا أيها المسلمون، منهجُ الوسطية وتربيةُ الأمةِ على هذا المنهج باعتدالٍ واتزان يُبْعِدُهَا عن كثيرٍ من هذا البلاء، وعلى الآباء مسؤوليةٌ عظيمة تجاهَ أبنائهم وبناتهم، وعلى الإعلام والعلماء، وعلى المعلمين والمربين، وعلينا جميعًا أن نربّي النشء على طاعةِ اللهِ عز وجل وعلى البعد عن الانحراف أيًا كان، فالمسؤوليةُ جَمَاعية، ومسؤوليتُنا عن هؤلاءِ الشباب في المقاهي وفي الشوارع، مسؤوليتنا عن الشباب الذين يسافرون بحجة الجِهاد، وكذلك مسؤوليّتنا عن الشباب الذين يسافرون للدعارة والفساد، علينا أن نُشْغِلَ الشبابَ بالعلمِ والتعليم، وأن نُشْغِلَهُم بما يَنْفَعُهُم ليكونوا شبابًا مُنْتِجِين لأمتهم مدافعينَ عن دينهم حريصينَ على أمن بلادهم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|