أما بعد: فأوصيكم ـ عباد الله ـ ونفسي بتقوى الله، فمن رام خيرًا غفيرًا، ورزقًا وفيرًا، ومقامًا كبيرًا، فعليه بتقوى الله، فمن حققها حقق في الدنيا مجدًا أثيرًا، وفي الآخرة جنة وحريرًا، وروحا وعبيرًا.
أيها المسلمون، في ظل ازدلاف الأمة إلى عام جديد، وتطلعها إلى مستقبل مشرق رغيد، تبرز بجلاء قضايا حولية، وموضوعات موسمية، جديرة بالإشادة والتذكير، وحفية بالتوقف والتبصير، علّها تكون محركا فاعلاً يستنهض الهمم، ويشحذ العزائم لمراجعة الذات، وتدقيق الحسابات، وتحديد الرؤى والمواقف، وتقويم المسيرة، لتستعيد الأمة تأريخها المجيد، ومجدها التليد، وما امتازت به من عالمية فريدة، وحضارة عريقة، بوّأتها في الطليعة بين أمم الأرض قاطبة، والإنسانية جميعًا.
معاشر المسلمين، إن قضية المناسبة تكمن في وقفة المحاسبة، فاستقبال الأمة لعام جديد هو بمجرده قضية لا يستهان بها، وإن بدا في أنظار بعض المفتونين أمرًا هيِّنًا، لطول الأمل والغفلة عن صالح العمل، وإن في مراحل العمر وتقلبات الدهر وفجائع الزمان لعبرة ومزدجرًا، وموعظة ومدّكرًا، يحاسب فيها الحصيف نفسه، ويراجع مواقفه، حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرة، ويكون بعد ذلك عظة وعبرة. ولئن أُسدل الستار على عام مضى، فإن كل ماض قد يُسترجع إلا العمر المنصرم، فإنه نقص في الأعمال، ودنوٌّ في الآجال.
نسـير إلى الآجال في كل لحظـة وأيامنا تُطوى وهن مراحـلُ
وإذا كـان آخـر العمر موتـًا فسواء قصـيره والطـويلُ
فكم من خطوات مشيت، وأوقات صرفت، ومراحل قطعت، ومع ذلك فالإحساس بمضيّها قليل، والتذكر والاعتبار بمرورها ضئيل، مهما طالت مدتها وعظمت فترتها، ودامت بعد ذلك حسرتها.
إخوتي في الله، إن عجلة الزمن وقطار العمر يمضي بسرعة فائقة، لا يتوقف عند غافل، ولا يحابي كل ذاهل، كم ودّعنا فيما مضى من أخ أو قريب، وكم فقدنا من عزيز وحبيب، هزّنا خبره، وفجعنا نبؤه، حتى إذا لم يدع صدقه أملاً شرقتُ بالريق حتى كاد يشرق بي.
لقد كانوا زينة المجالس، وأُنس المجالس، سبقونا إلى القبور، وتركوا عامر الدور والقصور، فاللهم أمطر على قبورهم سحائب الرحمة والرضوان، واللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
فالله المستعان، وإلى متى الغفلة يا عباد الله؟! ماذا ران على قلوبنا؟! وماذا غشي أبصارنا وبصائرنا؟! إن الموفّق الواعي من سعى لإصلاح حاله ليسعد في مآله، وإن الكيِّس الملهم من أدام المحاسبة وأكثر على نفسه المعاتبة، وتفقّد رصيده الأخروي، وحاذر كل لوثة عقدية وفكرية وسلوكية ليحيى حياة السعداء، ويُبوَّأ نزل الشهداء، وما ذلك بعزيز على ذي المن والعطاء.
إخوة العقيدة، ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم وهي تتفيأ ظلال عام جديد مليء بالتفاؤل والتطلعات للخروج من الفتن والمشكلات، وتجاوز العقبات والأزمات، ومواجهة التحديات والنكبات، أن تقرأ تأريخها.
اقرؤوا التأريخ إذ فيه العبر ضل قومٌ ليس يدرون الخبر
اقرؤوا التأريخ لتدركوا كيف كانت أحداثه العظام ووقائعه الجسام نقطة تحول كبرى، لا في تأريخ الأمة الإسلامية فحسب، بل في تأريخ البشرية قاطبة، اقرؤوا التأريخ الإسلامي لتروا كيف كانت وقائعه العظيمة منعطفًا مهمًا غيّر مجرى التأريخ الإنساني برمّته، اقرئي ـ يا أمتي ـ تأريخك المجيد لتعلمي كيف أرست مصادره وأحداثه مبادئ الحق والعدل والأمن والسلام، وكم رسّخت وقائعه منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا من الزمان مضامين الحوار الحضاري الذي يتنادى به العالم اليوم.
أيتها الإنسانية الحائرة، لتسلمي من الأحكام الجزاف الجائرة، اقرئي تأريخ حضارتنا الإسلامية، لتَرَيْ بأم عينيك كيف كفل الإسلام حقوق الإنسان بجدارة، أزال الطبقات والعنصريات، وألغى الفوارق والتمايزات، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَـٰكُمْ [الحجرات:13]، في وحدة تتضاءل أمامها الانتماءات العنصرية، والأواصر والعلاقات الدنيوية، بل تضمحل بها كل دعاوى الجاهلية.
إخوة الإيمان، الارتباط التأرخي الوثيق، والانتماء الحضاري العريق يؤكد أن ليس غير العقيدة الإسلامية جامعًا للعقد المتناثر، ومؤلفًا للشتات المتناكر، وناظمًا للرأي المتنافر، فهل تعي الأمة ذلك بعد هذا التمزق المزري والتخلف المخزي والتيه في الأنفاق المظلمة وسراديب الغواية المعدمة؟!
إنه لا درب سوى الإسلام، ولا إمام غير القرآن، ولا نهج إلا نهج سيد الأنام عليه الصلاة والسلام، ألم تستيقن الأمة بعد طول سبات أن التخلي عن العقيدة والتساهل بأمر الشريعة والتفريط في الثوابت والمبادئ والتقصير في المثل والقيم مآله شقاء المجتمعات، وانتقاض الحضارات، وهلاك العباد، وخراب البلاد، وطريق البوار، وسبب الانهيار، وحلول التبار، وتحقق الدمار؟! فهل يدرك أصحاب الرأي والنظر في الأمة أن التحديات السابقة والمعاصرة وصور التصادم الحضاري والعداء الثقافي والفكري إنما مردُّه إلى ثوابت عند الغير، لا يتحقق الانتصار عليها إلا بالتمسك بموروثنا الحضاري العريق الذي ينضح خيرًا وسلامًا للبشرية، وأمنًا وإسعادًا للإنسانية في بُعد عن مسالك العنف والإرهاب العالمية، التي أقضَّت مضاجع الإنسانية، وهنا ينبغي أن يتنادى العقلاء والمنصفون في العالم بإعلاء القيم الحضارية والأخلاقية والمثل الإسلامية والإنسانية، والتأكيد على مبدأ الحوار الحضاري، بلا تميُّع ولا انهزامية.
اقرؤوا التأريخ ـ أيها المنهزمون من بني جلدتنا ـ لتدركوا أن الحوار مع الآخر يجب أن يُبنى أولاً على الإصلاح من الداخل، حين تمتلئ النفوس محبة ومودة وحنانًا، حينما توضع الكوابح المرعية، وترسم الضوابط الشرعية لحركة الانفتاح الفكري والثقافي والتربوي والإعلامي المتسارعة التي لا تعرف التمهّل، فقنوات وفضائيات، وتقانات وشبكات معلومات، واللهم حوالينا ولا علينا. يجب أن تُعاد الثقة إلى الذات، ويُعالج الانهزام النفسي لدى كثير من المعنيين في مجالات التربية والثقافة والإعلام، الذين لهثوا وراء عفن الأمم، عبُّوا منها طويلاً، فلم تغنهم ولم تغنِ أمتهم فتيلاً ولا نقيرًا ولا قطميرًا، وهنا يتأكد تعزيز جانب الحسبة في الأمة، حتى لا تغرق سفينة المجتمع، كما يجب الذبّ عن أهلها، وعدم الوقيعة بهم، وتضخيم هناتهم، والكف عن التمادي في اتهامهم، والطعون في أعراضهم، في وشايات مأفونة، أو مقالات مغرضة، أو أقلام متشفية، فأي شيء يبقى للأمة إذا انتقصت معالم خيريتها؟!
أمة الإسلام، حينما تتقاذف سفينة الأمة أمواج الفتن فإن قوارب النجاة وصمامات الأمان مرهونة بولاء الأمة لدينها وتمسكها بعقيدتها، وحينما يُجيل الغيور نظره في واقع أجيال من المنتسبين إلى أمتنا اليوم، ويرى التبعية والانهزامية أمام تيارات العصر الوافدة ومبادئ المدنية الزائفة، ويقارن بينهم وبين جيلنا التأريخي الفريد يدرك كم كانت وقائع تأريخنا المشرق الوضاء وحوادث سيرتنا العطرة سببا في عزة الأمة وكرامتها، وبذلها وتضحياتها، وإن تنكُّر فئام من الأمة لمبادئ دينهم ولهثهم وراء شعارات مصطنعة ونداءات خادعة لهو الأرضية الممهدة للعدو المتربّص، مما جرّأ علوج صهيون على العبث بمقدسات الأمة وممارسة إرهاب الدولة بكل ما تحمله من معنى الصلف والوحشية ضد إخواننا في الأرض المباركة فلسطين تحت سمع العالم وبصره.
كما أن من الدروس المستفادة لتحقيق مصالح الأمة جواز عقد المعاهدات والمهادنات، لا الاستسلام والمداهنات.
يا أمة التوحيد والتأريخ، في خضم هذه الظروف الحوالك، التي اختلطت فيها المسالك، يتأمل قُراء التأريخ ويتساءلون: أين دروس الهجرة وعبرها من شعارات العصر بإنسانيته الزائفة وديمقراطياته المزعومة التي تُحسب على دعاتها مغانم وعلى غيرهم مغارم، في غياب المنهجية الشورية المصطفوية؟! أين دروس التأريخ وعِبَر الهجرة وأخوة المهاجرين والأنصار من أناس مزّقهم التفرق والتشرذم، وأحلُّوا العداوة والخصام محلّ المحبة والوئام، وترسّبت في سويدائهم الأحقاد، وتأجج في قلوبهم سعير الحسد والبغضاء، والغل والشحناء، حتى تمزقت الأواصر وساد التفكك الأسري والاجتماعي في كثير من المجتمعات؟! فرحماك ربنا رحماك.
اقرؤوا التأريخ لتجدوا كم تحتاج العقيدة إلى دولة وسلطان ينافح عن كيانها، ويذود عن حماها، كما هي منة الله سبحانه على بلاد الحرمين ومدارج الهجرة وأرض التأريخ والرسالة حرسها الله. ألا فليتيقن دعاة الإصلاح في الأمة أن لا عقيدة ولا تمكين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بولاية، ولا ولاية إلا بسمع وطاعة، لتدرأ عن الأمة غوائل الشرور والفتن، وعاديات الاضطراب والمحن.
وفي الميدان التربوي يجب أن يقرأ التربويون تأريخنا ليروا كيف تربى المرء المسلم عبر كافة قنوات التربية على نصرة العقيدة والولاء للقيادة.
وليقرأ التأريخ شبابُنا المعاصر الذين خدع كثير منهم ببريق حضارة مادية، أفرزت غزوا في الصميم، تنكب من خلاله كثير من شباب الأمة طريق الهداية الربانية، وعاشوا صرعى حرب الشهوات، وضحايا غزوا التفرق والشبهات، ويبرز ذلك في مجال التشبه والتبعية والتقليد والمحاكاة للغير في كثير من المجالات، وقد قال فيما أخرجه أحمد وأبو داود: ((من تشبه بقوم فهو منهم)).
لتقرأ التأريخ وتستلهم دروسه وعبره المرأةُ المسلمة المعاصرة، لتدرك أن عزَّ المرأة ومكانتها في تمسكها بقيمها ومبادئها، حجابًا وعفافًا، احتشامًا وقرارًا، وأن وظائفها ومسؤولياتها التربوية والأسرية والاجتماعية في الأمة كبيرة التبعة، عظيمة الجوانب والآثار، لا كما يصوِّرها أعداؤها الذين يوحون إلى أوليائهم ومولياتهم أن الحجاب والعفاف فقدان للشخصية، وسلب للحرية، فأخرجوها دمية تفتش عن سعادة موهومة، وحرية مزعومة، كان من نتائجها دوس العرض والشرف، والعبث بالعفة والكرامة، من ذئاب مسعورة لا ترعى الفضائل، ولا تبالي باقتراف الرذائل.
تلك ـ أيها المسلمون ـ إلماحة عابرة إلى شيء من وقائع التأريخ ودروس السيرة وعبرها، تظهر في حدث الهجرة النبوية والتأريخ بها، تُقدَّم للأمة اليوم وهي تعيش مرحلة من أخطر مراحلها علّها تكون نواة لمشروع حضاري إسلامي، يسهم في صلاح الحال، وتقويم المسار لسعادة المآل، ويمثل بلسمًا شافيًا لعلاج الحملات الإعلامية المسعورة وسهام الحقد الطائشة ضد ديننا وأمتنا وبلادنا، التي ما فتئ أعداء الإسلام يصوبونها تجاهنا مستغلين نقاط الضعف في الأمة، متصيدين في الماء العكر أخطاء بعض أبنائها.
ألا ما أشد حاجتنا ـ ونحن نستشرف آفاق العام الهجري الجديد ـ إلى وقفات تأمل ومحاسبة، ومراجعة جادة لاستثمار كل ما يعزز مسيرة أمتنا، لتزدلف إلى عام جديد وهي أكثر عزمًا وأشد مضاءً لفتح آفاق جديدة لإسعاد الإنسانية لتتبوأ مكانتها الطليعية، ومنزلتها الريادية فوق هذا الكوكب الأرضي الذي ينشد سكانه مبادئ الحق والعدل والسلام، ويرومون الخير والأمن والوئام، ولن يجدوه إلا في ظل الإسلام، وتعاليم الإسلام، زادُنا في ذلك موروث حضاري وتأريخي وعقدي وقِيَمِي لا ينضب، ونهلٌ من مُعطيات العصر وتقاناته في خدمة دين الأمة ومُثُلها وقيمها.
والله المسؤول أن يجعل هذا العام عام خير وبركة، ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين، وعام أمن وأمان وعدل وسلام للإنسانية قاطبة، وأن يجمع فيه كلمة المسلمين على الحق والهدى، ويوحِّد صفوفهم، ويطهر مقدساتهم، وينصرهم على أعدائهم، وأن يجعل حاضرنا خيرًا من ماضينا، ومستقبلنا خيرًا من حاضرنا، إنه خير مسؤول، وأكرم مأمول، وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان، ورزقنا التمسك بسنة المصطفى من ولد عدنان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إِنَّ رَبّى لَطِيفٌ لّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ [يوسف:100]، وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبّى رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود:90].
|