أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله في السر والعلن، وطاعته في المنشط والمكره، وذكره في الرخاء والشدة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:18-20]. طوبى لمن اتقى الله حق التقوى، فحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبِلَى، وترك زينة الحياة الدنيا، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70].
أيها المسلمون، تمر الجنائز بالناس بين حين وآخر، يجهزونها ويصلون عليها، ويسيرون خلفها ويشيعونها، فتراهم يلقون عليها نظرات عابرة خاطفة، وربما طاف بهم طائف من الحزن يسير، أو أظلهم ظلال من الكآبة خفيف، فيشفقون على الميت ويأسفون عليه، ويتذكرون أنهم صائرون إلى ما صار إليه، وأن كل نفس ذائقة الموت، وأنّ كل من عليها فان، لكنهم ما يكادون ينفضون أيديهم بعد أن أهالوا التراب على ميتهم ودفنوه، حتى ينفضوا عقولهم مما كانوا فيه وينسوه، فيرجعون إلى سابق غفلتهم وسالف نومتهم، فلا العاصي منهم يرجع أو يتوب، ولا المقصّر يتدارك ما بقي من عمره أو ينيب، وإنما هم كغنم عدا الذئب عليها وأكل إحداها، فهي لا تزال في روعة هجمته لحظات معدودة، ثم ما تلبث أن تنسى فترتع في مرعاها، حتى يأتي الذئب مرة أخرى ليروعها ويخيفها، ثم تعود إلى ما ألفته وإلى ما كانت عليه، وتظل على تلك الحال حتى يقتنصها الذئب واحدة تلو الأخرى. هكذا الدنيا وهكذا هم أهل الغفلة، يجمعون ولا ينتفعون، ويبنون ما لا يسكنون، وينقضون ويبرمون، ويأملون ما لا يدركون، لا يشبعون مهما جمعوا، ولا يحسنون الزاد لما عليه قد قدموا، أعمارهم عليهم حجة، وأيامهم تقودهم إلى شقوة، يسيئون في الاكتساب ويسوفون في المتاب، يهجم الموت على من حولهم فلا ينتبهون، ويقتنص أحبابهم فلا يعتبرون، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99، 100]، فأنّى له الرجوع وقد انتهى أجله وانقضت مدته؟!
فيا أيها المسلمون، هل يليق بنا أن نكون كالبهائم فلا نعتبر؟! أيجدر بنا أن ننسى الموت الذي هو ملاقينا طال العمر أم قصر؟! أعاقل ينسى هاذم اللذات ومفرق الجماعات؟! ألبيب يغفل عن ذكر مصيبة الموت؟! قال : ((أكثروا ذكر هاذم اللذات الموت، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه)). ولقد وقف مرةً على شَفِير قبر فبكى حتى بَلَّ الثرى ثم قال: ((يا إخواني، لمثل هذا فأعدوا)). وسأله عليه الصلاة والسلام رجلٌ فقال: من أكيس الناس وأحزم الناس؟ فقال: ((أكثرهم ذكرًا للموت وأكثرهم استعدادًا للموت، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة)).
يا أهل الغفلة، يا أيها المسلمون، يا أبناء الأموات ويا آباء الأموات، ويا إخوان الأموات ويا أبناء عم الأموات، أكثروا من ذكر هاذم اللذات ومفرق الجماعات، وايم الله ليوشكن الحي منا ومنكم أن يموت فيبلى، والمقيم منا ومنكم أن يرحل فيُنسَى، وأن تأكل الأرض لحومنا وتشرب دماءنا، كما مشينا على ظهرها وأكلنا من ثمارها وشربنا من مائها. أين الآباء والأمهات؟! أين الأجداد والجدات؟! أين الإخوان والأبناء؟! أين الأمراء والوجهاء؟! أين الضعيف وأين القوي؟! أين الفقير وأين الغني؟! لقد أتى على الجميع أمر الله، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب: 38].
أتى على الكُلِّ أمرٌ لا عَزَاءَ له حتى قضوا فكأنَّ القومَ ما كانوا
لقد أخذ الجميعَ هاذمُ اللذات ومفرّق الجماعات، فاستبدلوا بظهر الأرض بطنًا، وبالأهل غربة وبالنور ظلمة، مساكنهم اللحود وأنيسهم الدود، التراب أكفانهم والرفات جيرانهم، لا يجيبون داعيًا ولا يسمعون مناديًا، كانوا أطول أعمارًا وأكثر آثارًا، فما أغنى عنهم ذلك من شيء لما جاء أمر ربك، فأصبحت بيوتهم قبورًا، وصار ما جمعوا بُورًا، وانتقلت أموالهم للوارثين، وزُفَّت أزواجهم إلى قوم آخرين، حل بهم رَيبُ المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون، أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
سل الدهرَ هل أعفى من الموت شائبًا غداةَ أدارَ الكـاسَ أم ردّ أَمْرَدَا
وهل أبقتِ الأيـامُ للعلم والعُـلا وبذل الندى ذاك المليـكَ المؤيّدا
هـو الموتُ مـا منه مَلاذٌ ومهربُ متى حُطَّ ذا عن نَعْشِهِ ذاك يركبُ
نشـاهد ذا عيـنَ اليقين حقيقـة عليه مضـى طفلٌ وكَهْلٌ وأَشْيَبُ
يقول الحسن رحمه الله: "إن الموت قد فضح الدنيا، فلم يدع لذي لُبّ بها فرحًا"، و يقول يونس بن عبيد: "ما ترك ذكر الموت لنا قرة عين في أهل ولا مال"، ويقول مُطَرِّف بن عبد الله: "إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيمًا لا موت فيه".
أيها المسلمون، اذكروا الموت والسكرات، وحَشْرَجَة الروح والزفرات، اذكروا هول المطلع وشدة المفزع؛ فإن من أكثر ذكر الموت أكرمه الله بثلاث: تعجيل التوبة وقناعة القلب ونشاط العبادة، ومن نسي الموت ابتلي بثلاث: تسويف التوبة وترك الرضا بالكفاف والتكاسل في العبادة. والله، ما فينا مرض أشد من الغفلة، ولا داء هو أدوى من طول الأمل، يكبر أحدنا فيكبر معه أمله، ويدنو أجله ولا يزداد عمله، عمره في نفاد وحرصه في ازدياد، يبني القصور المُشْمَخِرّات، ويلهو بالتجارة والعقارات، يغشّ ويرابي، ويكذب ويخادع، ويجادل ويخاصم، يهجر قريبه ويقطع أخاه، ويفسد دينه بإصلاح دنياه، اليوم في المحكمة مع المتخاصمين، وغدًا في الشرطة مع المتنازعين، لا القليل يقنعه، ولا الكثير يشبعه، لو كان له واد من ذهب لابتغى ثانيًا، ولو كان عنده اثنان لتمنى ثالثًا، قال الله تعالى: جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:2، 3].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، واحفظوا الله ما استحفظكم، وكونوا أمناء على ما استودعكم، فإنكم عند ربكم موقَفون، وعلى أعمالكم مجزيون ومحاسبون، وعلى تفريطكم وزلاتكم نادمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].
|