أما بعد: أيها المسلمون، إن الله جل وتعالى أباح لعباده كلَّ نافع، وحرَّم عَليهم كلَّ ضارّ، فكُلُّ أمرٍ تحقَّقَ ضرَره وغلَب شرُّه وبَلاؤه فدينُ الإسلام حمَى المجتمعَ منه، فحرَّمه عليهم حمايةً لهم، وأَوجَب على المسلم المحافظةَ على نفسه، وحرَّم عليه التعدِّي عليها، قال الله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29]، وقال عز وجل: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فحرَّم عليه الاعتداءَ على أيِّ عضوٍ مِن أعضائه؛ لأنها ليسَت ملكًا له، بل هو مُؤتمَن عليها، وإنَّ التعدّيَ عَليها يُعد جريمة متوعد صاحبها بالعقاب من الله جل وتعالى.
أيها المسلمون، إن التغذّي بالطيبات له أثر حميد في صحة الإنسان وسلوكه، والتغذي بالخبائث يكون له أثر خبيث في الأبدان والسلوك كذلك.
ألا وإن من الخبائث التي ابتليت بها مجتمعات المسلمين اليوم ظاهرة التدخين الذي فشا شربه في العرب والعجم، والصغار والكبار، والأغنياء والفقراء، حتى النساء لم تسلم منه، وصار شُرَّابه يضايقون به الناس ويؤذون به الأبرياء من غير خجل ولا حياء؛ بحيث إن أحدهم يملأ فمه منه ثم ينفثه في وجوه الحاضرين من غير احترام لهم ولا مبالاة بحقهم، فيخيم على الحاضرين حوله سحابة قاتمة من الدخان الخانق الملوث بالريق القذر والرائحة الكريهة، ومصدر ذلك كله فم المدخّن، لا يراعي لمُِجَالسه حرمة، ولا يفكر في وخيم فعله، ولو أن إنسانًا تنفّس في وجه هذا المدخن أو امتخَط أمامه كم يكون تألمه واستنكاره لهذا الفعل، وهو يفعل أقبح من ذلك، ولكن الأمر كما جاء في الحديث: ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)).
أيها المسلمون، إن شرب الدخان حارق للبدن والدين والمال والمجتمع، ومعلوم أن نوعًا واحدًا من هذه المضار كافٍ، فكيف بها جميعًا؟!
أما ضرره على البدن فهو يضعفه بوجه عام، ويضعف القلب، ويسبب مرض سرطان الرئة ومرض السل ومرض السعال في الصدر، ويجلب البلغم والأمراض الصدرية، ويضعف العقل بحيث يصبح المدخن ذا حماقة ورعونة غالبًا، ويسبب صداع الرأس، ويقلل شهوة الطعام، ويفسد الذوق والمزاج، ويفتر المجموع العصبي، ويضعف شهوة النكاح، ويشوّه الوجه بحيث يجعله كالحًا وتظهر على صاحبه زرقة وصفرة تعم بدنه.
ولقد ذكر الأطباء السبب في إحداثه لهذه الأمراض ونحوها؛ وهو اشتماله على المادة السامة وهي النيكوتين، ومع هذا نجد الإصرار ممن يتعاطونه، لذلك يشكو مدمنو التدخين الأرق والقلق والتحسس والكآبة ووهن الإرادة وضعف الذاكرة، وقد يظهر عليهم الكسل والخمول والتعب والنصب وغير ذلك من العاهات المصاحبة له.
ولقد أكثر الأطباء والحكماء الكتابة في التدخين وما ينتج عنه، وانتشرت أقوالهم وطبعت مؤلفاتهم، وكلها تدندن حول أضراره الصحية للبدن.
وما دام قد ثبت أن التدخين من أعظم ما يجلب الأمراض للجسد وأن البعض يسميه بالانتحار البطيء فإنه يخشى أن يكون متعاطيه ممن قتل نفسَه ودخل في قول النبي : ((ومن تحسى سمًا فقتل نفسه فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا)) رواه البخاري ومسلم.
وأما ضرره على الدين فإن الله جل وتعالى يقول: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللهِ وَعنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]. ذكر الله تعالى أن من أسباب تحريم الخمر والميسر الصد عن الذكر وعن الصلاة، وهذه العلة تتحقق في الدخان؛ فإن شاربه في العادة يهرب عن حلق الذكر والقراءة، ويألف اللهو والباطل عادة، وهو غالبًا السبب الرئيس لبعد المدخنين عن حضور المساجد إلا من شاء الله، وهكذا سائر العبادات، وما كرّه العبدَ للخير فهو شر، وكذلك فهو يدعو متعاطيه إلى مخالطة الأراذل والسفهاء والابتعاد عن الأخيار، فهذا يكون سببًا لما هو أكبر منه وهو تعاطي المخدرات، نسأل الله السلامة.
وأما ضرره على المال فاسأل من يتعاطاه كم ينفِق فيه من الريالات، وقد يكون فقيرًا ليس عنده قوت يومه وليلته، ومع هذا فهو يقدّم الدخان على شراء غيره من الضروريات ولو ركبته الديون الكثيرة، ولو فكر هذا المسكين في ما ينفق في هذا السم الخبيث وصرف هذا المال لمستحقيه من إخوانه المنكوبين ليجدوا لقمة يسدون بها رمقهم لكسب بذلك الأجر والمغفرة من الله والمثوبة، لكن من يتذكر ويتعظ؟! فهل ترضى ـ أيها المدخن ـ بأن تودِع النار في صدرك بثمن تدفعه مقدمًا، وأن تشرب نارًا وتدفع مقابل ذلك دينارًا؟!
وأما ضرر شرب الدخان على المجتمع فإن شارب الدخان يسيء إلى مجتمعه، ويسيء إلى كل من جالسه وصاحبه؛ بحيث ينفخ الدخان في وجوه الناس، يخنق أنفاسهم ويضايقهم برائحته الكريهة حتى يفسد الجو من حولهم، امتد هذا الأذى فصار يلاحق الناس في المكاتب والمتاجر وفي السيارات والطائرات، حتى عند أبواب المساجد، بل إن بعضهم ما إن يخرج حتى يشعل السيجارة عند باب المسجد، بل إن التدخين يؤذي الملائكة الكرام ففي الصحيحين عن جابر أن النبي قال: ((إن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)).
ثم كيف يليق بعاقل أن ينفخ الدخان في وجوه من حوله وينفثه بحضرة من هم أكبر منه سنًا وأعلى قدرًا؟! بل كيف يرضى بنفثه في وجوه من يجلسون من أبنائه وبناته وزوجته ويكدّر عليهم صفو جلستهم؟! أليس من حق الزوجة أن لا تجد من زوجها إلا رائحة زكية طيبة أم أن الزوج لا يرى إلا بعين واحدة؟! كيف وقد أكدت آلاف التقارير الطبية أن التدخين يسبب الضرر لغير المدخنين الذين يعيشون مع المدخن مثل الزوجة والأطفال وزملاء العمل؟! والله قد نهى عن أذى الآخرين فقال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، وقال : ((من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله)) أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس بإسناد حسن. وإذا كان النبي قد نهى من أكل الثوم والبصل أن يغشى المجالس وأن يحضر صلاة الجماعة على أهميتها القصوى بسبب الرائحة فإن رائحة التدخين أشد من رائحة البصل والثوم؟! ناهيك عن أن البصل والثوم من المباحات والدخان ليس كذلك. وقد أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن جابر قوله : ((من أكل ثومًا أو بصلاً فليعتزلنا، وليعتزل مسجدنا، وليقعد في بيته)).
ومن مضار التدخين الاجتماعية أنه يستنزف ثروة الأمة وينقلها إلى أيدي أعدائها من الشركات التي تصدر هذا الأذى الخبيث. ومع الأسف تنشر في بلاد المسلمين وفي صحفهم ومجلاتهم دعايات وإعلانات تشجع الشباب والمراهقين على التدخين، ويكتب والخط العريض "تعالَ إلى المتعة". وأقبح من ذلك أن مروجي الدخان من الكفرة وأذنابهم يصوّرون للشباب أن شرب الدخان شعار للرجولة والفروسية، كما هو مشاهد في دعايات بعض أنواع الدخان، يصوّرون رجلاً على فرس يمسك بالسيجارة. فتعجب من قلب المفاهيم وتغيير الحقائق. الفرس الذي هو شعار الجهاد في سبيل الله والنبي قد نص على أن الخير معقود في نواصيها إلى يوم القيامة صار اليوم شعارًا للتدخين والعياذ بالله، لكن يزول عجبك إذا علمتَ أن الذي يمارس هذا العبث الإعلامي هم أعداء الله وأعداء رسوله من اليهود والنصارى وأذنابهم من العلمانيين والشهوانيين، عليهم من الله ما يستحقون.
لقد نجح أعداء الملة وخصوم الشريعة في نشر هذا السم بين المسلمين؛ لأنهم يعلمون أن التدخين يهدم القِوى ويضعف الأجسام ويقضي على الصحة ويفسد أخلاق الشباب ويستنزف الثروات ويقلل الحياء ويزرع في النفوس اللامبالاة بالآخرين، وكل هذا يصب في صالح الأعداء.
ومن مضاره أنه يسبب الحرائق المروّعة التي تذهب بالأموال وتخرّب البيوت، فكم حصل بسبب أعقاب السجائر التي تلقى وهي مشتعلة من إضرام حريق أتى على الأخضر واليابس وأتلف أموالاً وأنفسًا بغير حق، تولى كبرها ذلك المدخن الذي قذف بسيجارته دون مبالاة.
هذه بعض أضرار التدخين الدينية والاجتماعية والبدنية والمالية، فهل يستطيع المدخنون أن يذكروا لنا فائدة واحدة أو بعض فائدة في شرب الدخان تقابل هذه المضار؟! فيا أسفاه كيف غابت عقولهم وسفهت أحلامهم وضاقت صدورهم من قبول الحق؟! بل إن التدخين ليس له حسنة واحدة يمكن أن تقال فيه، بل على العكس فكله مضار كما ذكرنا.
والتدخين في الحقيقة هو سفه ودناءة، ولو رأى أحدنا إمامًا أو واعظًا أو رجلاً من أهل القدر والرفعة يشرب الدخان لاستنكر هذا الفعل، ولشهّر به في المجالس؛ وما ذاك إلا لأنه ليس من مقام المروءة ومكارم الأخلاق، ومن رأى مجالس المدخنين ومن يرتادها ومجالس الصالحين ومن يحضرها لعرف الفرق، يكفي أن المدخنين يدخلون دورات المياه لكي يقضوا وطرهم منه.
فيا من ابتليت بشرب الدخان أسأل الله لنا ولك العافية، إنني أدعوك بدافع النصيحة الخالصة أن تبادر بالتوبة منه، وأن تتركه طاعة لربك وحفاظًا على صحتك ومالك، ومن ترك شيئًا لله عوضه الله خيرًا منه. ولا تنس ـ أيها المدخن ـ أنك ستكون قدوة سيئة لأولادك إن كنت والدًا، ولتلاميذك إن كنت مدرسا، ولأصحابك ومخالطيك، فتكون قد جنيت على نفسك وعلى غيرك، وإذا تركته وتبت منه صرت قدوة حسنة لغيرك، فكن قدوة في الخير ولا تكن قدوة في الشر، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، ولا يحملنك التقليد الأعمى والمجاملة الخادعة أن تتعاطى هذا الدخان وقد عافاك الله منه أو تستمر فيه وقد عرفت أضراره وأمامك باب التوبة مفتوح، فبادر قبل أن يغلق.
وقد أفتى كثيرٌ من العلماء المحققين بتحريمه؛ لما يترتب عليه من الأضرار والمفاسد العظيمة، وقد أجمع العلماء على أن كل ما يؤدي إلى الضرر ويوقع في المهالك يجب اجتنابه، وفعله محرم، وقد قال : ((لا ضرر ولا ضرار)) رواه الإمام أحمد.
وكما يحرم شرب الدخان يحرم بيعه والاتجار به واستيراده، فثمنه سحت، والاتجار به مقت، وقد قال : ((إن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه)) رواه الإمام أحمد وأبو داود. وعلى هذا فالاتجار به لا يجوز، وثمنه يحرم أكله، ومن تاجر فيه ـ أي: باعه ـ بعد معرفته بالتحريم ففيه شبه من اليهود؛ لمّا حُرمت عليهم الشحوم أذابوها فباعوها وأكلوا ثمنها، فاستحقوا اللعن على هذا الفعل، فالذي يبيع هذا الدخان قد ارتكب جريمتين عظيمتين:
الأولى: أنه عمل على ترويجه بين المسلمين، فجلب إليهم مادة فساد.
الثانية: أن بائع الدخان يأكل من ثمنه مالاً حرامًا، ويجمع ثروة محرمة، فالحرام لا يدوم، وإن دام لا ينفع، وتكون عواقبه وخيمة.
فاتقوا الله عباد الله، وانظروا في العواقب، فإن في الحلال غنية عن الحرام، وقد ورد في الحديث عنه قوله: ((إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا يطلب إلا بطاعته)).
ولو سألت أيّ مدخن عن هذه السيجارة التي يمسكها بين إصبعيه: هل هي من الطيبات؟ لأجابك بكل صراحةٍ واقتناع بأنها ليست من الطيبات، وإنها لا تجلب له منفعة ينفرد بِها عن الآخرين، بل هي كابوس جاثم على صدره، تتولد منه أنواع المآسي والأضرار، يكفيك قبحًا فيه أن جميع من يشربه يود تركه. نسأل الله تعالى أن يعينهم على تركه.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
|