يقول الله تعالى: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا [النساء:19].
عباد الله، حقيقة مهمّة ينبغي أن نعيَها، وهي أنه لا يوجد شرّ محض، فأيما شر وإن تعاظم واشتد فلا بد أن يحمل في طياته خيرا، حتى نار جهنم ـ عباد الله ـ فيها كما يقول أهل العلم نوع من الخيرية وهو إهلاك الكافرين وتعذيبهم انتقاما لأولياء الله عز وجل.
معاشر المسلمين، إن ما حمله لنا حدث الاستهزاء والنيل من أشرف البرية وأزكى البشرية عليه الصلاة والسلام من ألم في قلوبنا وجزع في نفوسنا شيء كبير خطير، غير أنه أثبت لنا بما لا يدع مجالا للشك أنه ما يزال في الأمة عِرق ينبض بالخير إلى قيام الساعة، وأن الأمة لا تزال بخير، نلمس ذلك ـ عباد الله ـ في تلك المسيرات الهائلة والتظاهرات الحاشدة التي عمت العالم الإسلامي بل والغربي مندّدة بتلك الجريمة النكراء، ومن ذلكم أيضا ما رأيناه من عرض ودراسة لسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام سواء في المساجد أو المنتديات وبعض مواقع الإنترنت أو غيرها من وسائل الإعلام.
ومن هذا الباب ـ عباد الله ـ نستكمل في هذة الخطبة المباركة وقفات مع سيرة المصطفى لنتطرّق إلى معجزاته بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
معاشر المؤمنين، اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنه ما بعث الله من نبي إلا جعل له من الآيات والمعجزات ما على مثله آمن الناس، فيأتي النبي ومعه المعجزة، فيراها الناس فيؤمنوا به وبما جاء به، ثم إذا مات النبي يأتي من بعده أقوام سمعوا به وبمعجزته فيؤمنوا، ثم يأتي جيل سمع ممن سمع ممن رأى فيؤمن، ثم يأتي جيل سمع ممن سمع ممن سمع ممن سمع ممن رأى وهكذا... ومع بُعدِ الفترة تضعف المعجزة، وينشط الشيطان فيغوي الناس، فيرسل الله نبيا آخر يجدّد للناس الدين ويقيم الملة ويصحّح الشريعة ويؤيّده بالمعجزات، ولما أراد المولى جل وعلا أن يختم الرسالة أرسلَ رسوله محمدا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وأيده تعالى بنوعين من المعجزات: معجزات حسية رآها من صحِبه وعاصره، ومعجزة أخرى أعجزت ذلك الجيلَ وهي معجزة خالدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ألا وهي القرآن الكريم، كتاب الله الكريم، وحبله المتين، وصراطه المستقيم، فيه نبأ الأوليين والآخرين، قال عنه رب العالمين: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، وقال سبحانه: وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص:88].
عباد الله، أيّد الله تعالى نبيَّه بكثير من المعجزات الحسية، والتي أثرت في أتباعه، فعلموا أنّ هذا الأمر لا يكون إلا من الله، فأسر ذلك القلوب قبل العقول، فكانت الثمرة ـ يا رعاكم الله ـ إيمانا صادقا ومحبة حقيقية لا ينازعها شك أثمرت: (نحري دون نحرك يا رسول الله)، أثمرت (كل مصيبة بعدك يا رسول الله جلل).
فمن معجزاته عليه الصلاة والسلام أنه كان يكلّم الموتى والبكم والجمادات، فقد جاء في الصحيحين وأبي داود عن أبي هريرة أن يهودية أهدَت للنبي بخيبر شاة مَصْلِيّة ـ مشوية ـ سمّتها، فأكل رسول الله منها وأكل القوم، فقال: ((ارفعوا أيديكم، فإنها أخبرتني أنها مسمومة))، فكلّمته الشاة وهي ميتة مشويّة. وكان النبي يخطب الجمعة إلى جذع نخلة في المسجد، فلما صنع له المنبر وقام عليه أوّل جمعة حن الجذع إلى رسول الله كما تحن العِشار، حتى نزل النبي إليه فوضع عليه يده يسكنه حتى سكن. ومن ذلك ما رواه البيهقي بسند مرسل رواته ثقات أن امرأة جاءت لرسول الله بابن لها قد تحرّك، فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا لم يتكلّم منذ ولد، فقال رسول الله: ((أدنيه))، فأدنته منه فقال: ((من أنا؟)) فقال الأبكم: أنت رسول الله.
ومن معجزاته ـ عباد الله ـ ما ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبيّ تفل في عينَي عليٍّ يوم خبير وكان رَمِدًا ـ أي: كان بعينيه مرض الرَّمَد ـ، فلما نفث النبي في عينيه أصبح بارئًا. وفي البخاري أن رسول الله نفث على ضربة بساق سلمة بن الأكوع يوم خبير فبرئت. وفي صحيح البخاري أن ساق عبد الله بن عتيك انكسرت، فمسح النبي على الكسر، قال عبد الله بن عتيك: فكأنما لم أشكها قط.
نعم يا رعاكم الله، هذا هو رسول الله طبّ القلوب وشفاؤها وروح الأرواح وريحانها.
ثبت في الصحيحين عن أنس قال: أصابت الناس سنة على عهد رسول الله، فبينما النبي يخطب في يوم الجمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع يديه وما تُرى في السماء قَزْعَة ـ أي: سحابة خفيفة ـ، فوالذي نفسي بيده، ما وضعها حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته، فمُطِرنا يومنا ذلك ومن الغد ومن بعد الغد حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله، تهدّم البناء وغرق المال فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: ((اللهم حوالينا ولا علينا))، فما يشير إلى ناحية من السّحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجَوْبة ـ أي: مثل الحفرة المستديرة الواسعة ـ، وسال الوادي قناة شهرًا، ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدّث بالجود، وفي رواية: ((اللهم على الآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر))، قال: فأقلعت، وخرجنا نمشى في الشمس.
وأتى أنس إلى رسول الله وهو في جملة من أصحابه قد عصب بطنه من الجوع، فذهب أنس إلى أبي طلحة وهو زوج أمّه فأخبره بما شاهد من النبي، فقال أبو طلحة لأم سليم زوجته: هل من شيء؟ قالت: نعم كسر من خبز وتمرات، إن جاء رسول الله وحده أشبعناه، وإن جاء معه آخر قلّ عنهم. قال أنس: فذهبت إلى النبي فنظر إليّ فقلت: أجب أبا طلحة، فقال النبي لمن معه: ((قوموا))، فإذا أبو طلحة على الباب، فقال: يا رسول الله، إنما هو شيء يسير، فقال: ((هاته، فإن الله سيجعل فيه البركة))، ثم أمر بسمن فصب عليه ودعا فيه ثم قال: ((ائذن لعشرة))، فقال: ((كلوا وسمو الله))، ثم أدخلهم عشرة عشرة ـ وكانوا ثمانين ـ حتى شبعوا، ثم أكل رسول الله وأهل البيت حتى شبعوا، وأهدوا البقية للجيران.
وجاء في مستدرَك الحاكم وصحّحه وأقرّه الذهبي أن سفينة مولى رسول الله سمّاه النبي بذلك، وسبب التسمية أنّ رسول الله خرج هو وأصحابه فثقل عليهم متاعهم لم يستطيعوا حمل أغراضهم، فقال رسول الله لسفينة: ((ابسط كساءك))، فبسطه، فجعلوا فيه متاعهم الذي لم يستطيعوا حمله، فحملوه على سفينة، ولم يكن هذا اسمه، فقال : ((احمل، فإنما أنت سفينة))، قال: فلو حملت من يومئذ وِقْر بعير أو بعيرين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة أو سبعة ما ثقل عليَّ إلا أن يَجْفُوَ، وذلك لأن النبي قال له: ((احمل، فإنما أنت سفينة)).
أيها الإخوة المسلمون، هذه جملة من معجزاته عليه الصلاة والسلام تبين بما لا يدع مجالا للشك صدقّ نبوته ووضوح رسالته، نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى.
|