أما بعد: فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي ـ وربي ـ سبيل الخلاص من كل هَمٍّ وغَمٍّ يلمّان بالعبد، وذلك لا يقتصر على هموم وغموم الدنيا، بل يمتد إلى الآخرة، فالتقوى عظيمة الشأن، لا يلازمها إلا الموفَّقون.
أيها المؤمنون، ما أجمل وأحلَى الساعات التي يقضيها المسلم مع آيات من الذكر الحكيم، أو أحاديث سيد الأنبياء والمرسلين، أو مع سيرة أحد الخلفاء الراشدين. وفي هذا اليوم سنعيش مع قصة إسلام سيدنا أبي بكر الصديق، السابق إلى التصديق، الملقب بالعتيق، المؤيد من الله بالتوفيق، صاحب النبي في الحضر والأسفار، ورفيقه الشفيق في الغار، وضجيعه بعد الموت في الروضة المحفوفة بالأنوار، الذي أنزل الله في حقه قرآنا فقال: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا [التوبة:40]، وقال عنه: الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى [الليل:18]، وبشره بقوله: وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل:21].
وهو خليفة رسول الله ، اسمه عبد الله، وكنيته أبو بكر. كان الصديق قبل إسلامه يجلس طويلا عند قس بن ساعدة الإيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، وهؤلاء انعقدت أواصر قلوبهم على دين إبراهيم الخليل عليه السلام، وانسابت من أفئدتهم كلمات التوحيد للواحد الأحد وسطَ الهجير الوثني المستعر، كانوا يغنون للنبي القادم، كانوا يبشرون بالفجر الطالع، وفي ضياء حكمتهم الوثقى وهداهم المكين أبصرت روحه الطاهرة موكب النبوة يقترب، فجلس ينتظر ويُعدّ نفسه لأيام الهدى واليقين، وإنه ليمرّ بالناس متحلّقين حول أصنام لهم وجاثين أمامها فتكسو وجهه سحابة أسف مرير، ويسأل نفسه: أيمكن أن يكون هذا صوابا وهدى؟! أناس ينظرون ويسمعون ويعقلون، يخرون سجدا أمام حجارة مرصوصة لا تسمع ولا تبصر، ولا تملك لأنفسها ضرا ونفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا!
وقبل أن يطول التردد بأبي بكر تلتمع خواطره فيرى القدوة الحسنة والمثل الأعلى، يرى محمد بن عبد الله الصادق الأمين، فحرص على صحبته، فكان خدا لمحمد وصفيا له، وتمضي الأيام طاوية أشواق الذين يؤمنون أو يحسّون أنهم على موعد مع الغيب، ويصبر أبو بكر حتى يأتي أمر الله، ويقبل على شأنه وتجارته، وإذ يحين أوان رحلة جديدة إلى الشام، وفي الشام يسمع نفس اللّحن العذب المبشر بمقدم النبي العربي القرشي الخاتم.
عباد الله، إن أبا بكر لينتظر الرسول المقبل في لهفة غلابة، لا لأنه سيهتدي به وحده إلى الحق المبين، بل لأن الناس جميعا سيهتدون به من ضلالة ويفيقون به من غفلة.
كانت الخواطر تغدو وتروح على هذا النحو في وجدان أبي بكر وعقله، والآن وقد أنجز أعماله في الشام فإنه يتهيأ للعودة إلى وطنه وبلاده، وقبيل رحيله بأيام قليلة يرى رؤيا في منامه، يرى القمر وقد غادر مكانه في الأفق الأعلى، ونزل على مكة حيث تجزأ إلى قطع وأجزاء، تفرقت على جميع منازل مكة وبيوتها، ثم تضامت هذه الأجزاء مرة أخرى، وعاد القمر إلى كيانه الأول واستقر في حِجر أبي بكر. صحا من نومه وللرؤيا على وعيه سلطان مبين، وسارع إلى أحد الرهبان المتقين الذين ألفهم، وعقد معهم صلات الروح ما تقر به عينه، وقص عليه الرؤيا، فتهلل وجه الراهب الصالح، وقال لأبي بكر: لقد أهلّت أيامه، ويتساءل أبو بكر: من تعني؟ النبي المنتظر؟! ويجيبه الراهب: نعم، وستؤمن به وستكون أسعد الناس به.
كانت رؤياه بشرى من الحق جلّ جلاله لروحه المتطلّعة للنبي الخاتم، ومع الصباح شَدَّ أبو بكر رحاله مع القافلة العائدة إلى مكة، ومضت القافلة إلى غايتها تقطع الفيافي والقفار، تبيت إذا سترها الليل، وتنطلق إذا ناداها الصباح، لقد مضى زمن طويل منذ غادروا مكة إلى الشام، تُرى ماذا جَدَّ هناك من أمور؟!
كانت جماعة من قريش تنتظر القافلة، وحينما رأوها من بعد تنادوا وتجمّعوا لاستقبالها، وكلما اقترب القافلة من المنتظرين أحست منهم لغطا كثيرا واضطرابا، تُرى ما الذي حدث؟! والتَقى القادمون والمستقبلون في عناق ومودة تعالت خلاله الأصوات بالجديد الغريب من الأنباء.
ألا تعلمون أن قريشا منذ فارقتموها لا تنام الليل؟! وبدأ أبو جهل الحديث فقال: أوَحدَّثوك عن صاحبك يا عتيق؟ وكان أبو بكر قبل إسلامه يسمّى عتيقا، فأجابه أبو بكر: تعني محمدًا الأمين؟! قال أبو جهل: نعم، أعني يتيم بني عبد المطلب، يقول: إن في السماء إلها أرسله إلينا لنعبده ونذر ما كان يعبد آباؤنا، وقال: إن الله أوحى إليه وإن جبريل أتاه في غار حراء. في تلك اللحظات تألق وجه أبي بكر كأن الشمس قد اختصّته بكل ضيائها وسناها، وقال في هدوء مجلجِل: إن كان قال فقد صدق، ودارت الأرض بأبي جهل وتلعثمت خطواته وكاد جسمه يتهاوى فوق ساقيه المهزولتين، وتناقل الناس كلمة أبي بكر من واحد إلى آخر حتى صار لهم بها دوي كدوي النحل.
كلمة فذة جامعة: (إن كان قال فقد صدق). أجل، فهذه العبارة الأمينة المضيئة هي التي ستشكل كلّ حياته المقبلة، وستجعل من صاحبها أستاذًا للبشرية بعد رسول الله في فنّ الإيمان وفن الخلافة وفي كل خلق إسلامي عظيم.
انظروا إن موضوع الرسالة لم يكن جديدًا على أبي بكر، فهو بكل ما معه من ذكاء وفطرة قد قلب كل وجوه النظر السديد في هذه القضية، وانتهى إلى أن الله لن يترك عباده حيارى.
غادر أبو بكر الصديق داره إلى دار رسول الله تسبقه أشواقه، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام مقيمًا في داره مع زوجه خديجة رضي الله عنها، خديجة التي كانت أول العالمين إسلاما معه وإيمانًا به، قرع أبو بكر الباب ونادى، فتألق بشر الحياة جميعه على محيا رسول الله ، وقال مناديا خديجة: ((إنه عتيقٌ يا خديجة))، وسارع الرسول إلى لقاء صاحبه، وجرى الحديث بينهما في مثل سرعة الضوء وصفائه، قال أبو بكر: أصحيح ما أنبأني به القوم يا أخا العرب؟ أجاب الرسول سائلا: ((وماذا أنبؤوك؟))، قال أبو بكر: قالوا: إن الله أرسلك إلينا لنعبده ولا نشرك به شيئا، فقال رسول الله : ((وماذا كان جوابك لهم يا عتيق؟)) قال: قلت لهم: إن كان قال فقد صدق، وفاضت عينا رسول الله من الدمع فرحا وسرورا وعانق صاحبه، ومضى يحدثه كيف جاءه الوحي في غار حراء، وقرأ له أول ما أنزل من القرآن الكريم: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5]، وخفض أبو بكر رأسه في خشوع وبكاء تعظيما للآيات الكريمة التي سمعها من فم رسول الله ، ثم رفع رأسه وشدّ بكلتا يديه على يمين رسول الله وقال: أشهد أنك صادق أمين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله. هكذا أسلم أبو بكر في هدوء ويقين وقوة.
لقد تحدث الرسول فيما بعد كثيرًا عن أبي بكر، وكان مما قال عنه: ((ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافيناه ما خلا أبا بكر، فإن له عندنا يدًا يكافيه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذًا خليلاًً لاتخذت أبا بكر خليلاًً، ألا وإن صاحبكم خليل الله)) رواه الترمذي (3661)، وفي رواية: فبكى أبو بكر وقال: هل أنا ومالي إلا لك يا رسول الله؟! رواه ابن ماجه.
وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله : ((دخلت الجنة فسمعت فيها خشفةً بين يدي، فقلت: ما هذا؟ قال: بلال، قال: فمضيت فإذا أكثر أهل الجنة فقراء المهاجرين وذراري المسلمين، ولم أر أحدًا أقل من الأغنياء والنساء، قيل لي: أما الأغنياء فهم ها هنا بالباب يحاسبون ويمحصون، وأما النساء فألهاهن الأحمران الذهب والحرير، قال: ثم خرجنا من أحد أبواب الجنة الثمانية، فلما كنت عند الباب أتيت بكفة فوضعت فيها، ووضعت أمتي في كفة، فرجحت بها، ثم أتي بأبي بكر فوضع في كفة، وجيء بجميع أمتي في كفة فوضعوا، فرجح أبو بكر)) رواه أحمد.
أقول قولي هذا...
|