أما بعد:
أيها الناس: إنكم تستقبلون في هذه الأيام السفر إلى بيت الله الحرام ترجون من ربكم مغفرة الذنوب والآثام وتؤملون الفوز بالنعيم المقيم في دار السلام وتؤمنون بالخلف العاجل من ربكم.
أيها المسلمون: إنكم تتوجهون في زمان فاضل إلى أمكنة فاضلة ومشاعر معظمه تؤدون عبادة من أجلّ العبادات لا تريدون بذلك فخرا ولا رياءً ولا نزهة ولا طربا وإنما تريدون وجه الله والدار الآخرة فأدوا هذه العبادة كما أمرتم من غير غلو ولا تقصير ليحصل لكم ما أردتم من مغفرة الذنوب والفوز بالنعيم المقيم في جنات عدن.
قوموا في سفركم وإقامتكم بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة وغيرهما من شعائر الدين.
فإذا وصلتم الميقات فاغتسلوا وتطيبوا في أبدانكم في الرأس واللحية والبسوا ثياب الإحرام غير مطيبة إزارا ورداءا أبيضين للذكور وللنساء ما شئن من الثياب غير متبرجات بزينة.
والأنساك ثلاثة: التمتع، والقران، والإفراد.
فالتمتع: أن يحرم بالعمرة وحدها في أشهر الحج فإذا وصل الحاج إلى مكة طاف وسعى سعي العمرة وحلق أو قصر فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم بالحج وحده وأتى بجميع أفعاله.
وأما القرآن: هو أن يحرم بالعمرة والحج معا ولا يحل من إحرامه إلا يوم النحر.
والإفراد: هو أن يحرم الحاج بالنسك الذي يريد يقول: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، يرفع بها الرجل صوته بدون تلبية جماعية والمرأة تقول بقدر ما يسمع من بجوارها، وينبغي للمحرم أن يكثر من التلبية خصوصا عند تغيير الأحوال والأزمان، لأن بعض الناس عندما يبدؤون بالسير إلى مكة بعد إحرامهم يستمعون للأغاني ويشربون الدخان ويخوضون في القيل والقال كالغيبة والاستهزاء بالآخرين ونحوها يبقى هذا شأنهم حتى يصلون إلى مكة وهذا لا يليق وهو من الفسوق فكيف يريد أن يرجع من حجه كيوم ولدته أمه إذا كان هذا شأنه؟
فإذا بلغ الحاج البيت الحرام فليطف به سبعة أشواط مبتدأ بالحجر الأسود يشير إليه أو يستلمه أو يقبله حسبما تيسر قائلا: بسم الله والله أكبر، اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك .
ثم يأخذ الحاج ذات اليمين ويجعل البيت عن يساره فإذا بلغ الركن اليماني استلمه من غير تقبيل فإن لم يتيسر فلا يزاحم عليه ولا يشير إليه إن لم يستلمه ويقول بين الركنين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه قائلا: الله أكبر.
ويقول في طوافه ما أحب من ذكر ودعاء وفي طواف القدوم يفعل شيئين أحدهما: الاضطباع من بداية الطواف حتى انتهائه وصفته أن يجعل وسط ردائه داخل إبطه الأيمن وطرفيه على كتفه الأيسر.
الأمر الثاني: الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فقط والرمل هو سرعة المشي مع مقاربة الخطوات وأما الأشواط الأربعة الباقية ليس فيها رمل وإنما يمشي كعادته، فإذا تم الطواف سبعة أشواط تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ثم يصلي ركعتين خلفه يقرأ في الأولى بعد الفاتحة قل يا أيها الكافرون وفي الثانية قل هو الله أحد فإذا فرغ من صلاة الركعتين رجع إلى الحجر الأسود يستلمه إن تيسر له ثم يخرج إلى المسعى فإذا دنا من الصفا قرأ إن الصفا والمروة من شعائر الله ثم يرقى الصفا حتى يرى الكعبة فيستقبلها ويرفع يديه فيوحد الله ويكبره ثلاثا ويقول: (لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده) ثم يدعو بين ذلك ويكرر هذه الصيغة من الدعاء ثلاث مرات.
ثم ينزل من الصفا إلى المروة ماشيا فإذا بلغ العلم الأخضر ركض ركضا شديدا بقدر ما يستطيع ولا يؤذي فإذا بلغ العلم الأخضر الثاني مشى كعادته حتى يصل إلى المروة فيرقى عليها ويستقبل القبلة ويرفع يديه ويقول مثل ما قاله على الصفا حتى يكمل سبعة أشواط، وفي نهاية الشوط السابع لا يرفع يديه ولا يدعو بل ينصرف.
فإذا تم سعيه حلق رأسه أو قصر إن كان متمتعاً والمرأة تقصر من كل قرن قدر أنملة أما القارن والمفرد فإنه لا يقصر ويبقى على إحرامه حتى يوم النحر وبهذا تمت العمرة.
فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة أحرم المتمتع بالحج ضحى من مكانه الذي أراد الحج منه فينوي الإحرام بالحج ويلبي لبيك اللهم حجا، ثم يخرج الحاج إلى منى فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء وفجر يوم عرفة قصراً بلا جمع، فإذا طلعت الشمس يوم عرفة سار من منى إلى عرفات فإذا زالت الشمس صلى الظهر والعصر ركعتين يجمع بينهما جمع تقديم، ثم يتفرغ بعد الصلاة للذكر والدعاء والتضرع إلى الله عز وجل ويدعو بما أحب رافعا يديه مستقبلا القبلة وعرفة كلها موقف.
وقال : ((أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)).
وروى الإمام مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن رسول الله قال: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء؟)).
ولا يدفع الحاج من عرفات إلى مزدلفة إلا بعد غروب شمس يوم عرفة فإذا غربت الشمس سار إلى مزدلفة فإذا وصلها صلى المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ثم يبيت بها ويصلي الفجر ويقعد بعد الصلاة يذكر الله عز وجل حتى يسفر الصبح جدا، ويجمع سبع حصيات ثم يدفع قبل طلوع الشمس إلى منى فإذا وصلها رمى جمرة العقبة بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة فإذا فرغ إن كان متمتعا أو قارنا ذبح هديه ثم يحلق أو يقصر ثم ينزل مكة فيطوف طواف الإفاضة ويسعى إن كان متمتعا ثم يرجع بعد ذلك إلى منى فيبيت بها ليلتي الحادي عشر والثاني عشر ويرمي الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس في اليومين المذكورين يبدأ بالصغرى التي تلي مسجد الخيف ثم الوسطى ثم جمرة العقبة ويكبر مع كل حصاة.
فإذا أتم رمي الجمار في اليوم الثاني عشر فإن شاء تعجل ونزل من مني، وإن شاء تأخر وبات بها ليلة الثالث عشر ورمى الجمرات بعد الزوال فإذا أراد الحاج الخروج من مكة إلى بلده طاف طواف الوداع لقوله : ((لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت)).
أيها المسلمون: هذا تفصيل لكيفية أداء مناسك الحج وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني مناسككم))، فينبغي للحاج الذي يشكل عليه شيء من أمور الحج أن يسأل أهل العلم فيما أشكل عليه حتى لا يقع في المحظور ويكون حجه وفق السنة الصحيحة.
فإذا رجع الحاج إلى بلاده فليشكر نعمة ربه على توفيقه له بأن يسر له الحج ووفقه له ولا يرجع إلى المعاصي والسيئات بعد أن محيت بالحج. قال تعالى: الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب . |