أما بعد: أيها الإخوة الكرام الأحبة، علينا ـ ونحن نودع عاما هجريًا ونستقبل عاما آخر ـ أن نتذكر معًا أحداث الهجرة النبوية الشريفة المباركة، فلقد شاء الله تعالى لخير عبادهِ أن ينصر دينهُ ويُمَكِّنَهُ لمعتنقيهِ ذَوِي الإيمانِ والعملِ الصالحِ، بعد أن امتحنَهُم سبحانه بالشَّدائدِ ومستهم البأساءُ والضَّراءُ وأُوذوا في سبيله وظُلموا فصبروا صبرًا جميلاً، وهان عليهم هِجرَةُ الوَطنِ وتركُ ما لهم فيه من متاعٍ ومالٍ، وكانوا أهلاً لحُسنِ الحال في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [النحل:41، 42].
لقد هاجر رُسُلُ اللهِ تعالى حرصًا على نشر دين الله تعالى وكسبِ رضاهُ الذي به عِزُ الدارين وَسَعْدُهُما، ولقد هاجر رسول الله بعدما أوذي في الله تعالى هو ومن معه من الصحابة الكرام، ففيما خرّجه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزور بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيأخذه فيضعه في كتفَي محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلما سجد النبي وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي مَنَعة طرحته عن ظهر رسول الله ، والنبي ساجد ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلاته رفع صوته ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثا، وإذا سأل سأل ثلاثا، ثم قال: ((اللهم عليك بقريش)) ثلاث مرات، فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، ثم قال: ((اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط))، وذكر السابع ولم أحفظه، فوالذي بعَث محمدا بالحق لقد رأيت الذين سمّى صرعى يوم بدر، ثم سحِبوا إلى القليب قليبِ بدر.
وروى البخاري في صحيحه عن عروة بن الزبير قال: سألت ابن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون بالنبي ؟ قال: بينا النبي يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ودفعه عن النبي قال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟!
كانت هذه الاعتداءات على رسول الله ، وتلك هي بعض صنوف الأذى لقيها رسول الله من القوم في سبيل الدعوة إلى الله تعالى.
وأما الصحابة الكرام رضي الله عنهم فقد لقوا ما لا يخطرُ على بال؛ كان الرجل إذا أسلم وله شرفٌ في قومه يأتيه أبو جهل فيقول: إما تعودَنّ إلى عبادة اللات والعزى أو لنسفّهن حلمك ولنقبِّحن رأيك ولنضعنّ من شرفك. وهذه هي ـ يا عباد الله ـ حرب التُّهم والإشاعات والأباطيل. وإذا كان الرجل ذا مال قال له أبو جهل: لتعودنّ إلى عبادة اللات والعزى أو لنخسِّرن تجارتك ولنهلكنّ مالك. وهذه ـ يا عباد الله ـ هي حرب السرقة والنّهب. أما إذا كان المسلم ضعيفا فحدث ولا حرج عن النار يُكوَى بها ظهره، وعن الغاز الناشئ من حصير يلفّ فيه ثم تحرق عليه من طرفَيها كما حدَث للزبير بن العوام ؛ إذ قيّدوه بالحبال وألقَوة في الحصير، ثم علّقوه على الحائط، ثم أوقدوا تحته نارًا فأحرقت أنفه.
حدّث ولا حرج عن القلوب القاسية التي تأتي بجمر يحمي ثم يلقى على المؤمن فلا ينطفئُ الجمر إلا بدهن ظهر المؤمن كما حدث لخبّاب بن الأرت؛ فكانوا يشدّون برجله الحبل ثم يجرّونه على الأرض، ويأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذبا، ويلوون عنقه ثم يضجعونه على فحام ملتهبة، ثم يضعون عليه حجرًا حتى لا يستطيع أن يقوم.
حدث ولا حرج عن النفوس المريضة التي تأتي بالمؤمنين فيعذبونهم بالسياط التي تلهب الصدور وبالرمال الساخنة التي تشوي الظهور وبالحجارة الثقيلة التي توضع على الصدر كما حدث لبلال، فكان أمية بن خلف يضع في عنقه حبلاً، ثم يسلمه إلى الصبيان يطوفون به في جبال مكة حتى أثر الحبل في عنقه، وكان أمية يشده شدًا ثم يضربه بالعصا، وكان يكرهه على الجوع، وكان يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا والله، لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، وبلال يقول صابرا محتسبًا: أحَدٌ أحد.
حدث ولا حرج عن العقول الخرِبة التي تأتي بالحراب، فتشقّ بها البطون وتغرسُ في فروج النساء الأبرياء كما فعل بسمية أم عمار وبزوجها ياسر؛ كانوا يأخذون عمارًا وأباه وأمه وأخته فيقلبونهم ظهرًا لبطن، فيمر بهم رسول الله وهو يقول: ((اصبروا آل ياسر؛ فإنَّ موعدكم الجنة)) رواه الطبراني. وماتت سميةُ أمُ عمار التي رفضت أن تنطق بكلمة الكفر واستعلَت بدينها وبإيمانها على طغاة الأرض، والتي كانت من السبعة الأوائل الذين أظهروا الإسلام، فكانت أوّلَ قتيل في الإسلام في ذات الله تعالى. هكذا كانت المرأة في الإسلام تدافع عن عقيدتها بثبات ويقين، فهذه أول شهيدة قدمت دمها وحياتها في سبيل الله تعالى.
حدّث ولا حرج عن تتابع الظلم والاضطهاد بالمسلمين والقطيعة، ففي أول ليلة من شهر الله المحرم من السنة السابعة من مبعثه اجتمعت قريش، اجْتَمَعُوا على أَنْ يَكْتُبُوا فِيْمَا بَيْنَهُمْ على بَنِي هاشِمٍ وبَنِي المُطَّلِبِ أَنْ لا يُنْكِحُوهُمْ ولا يَنْكِحُوا إلَيْهِمْ، ولا يُبَايِعُوهُمْ ولا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ؛ حتى يهلكوا عن آخرهم أو يسلموا لهم محمّدا، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، وعَمَدَ أبو طالبٍ فأدْخَلَهُمُ الشِّعْبَ، شِعْبَ أبي طالب في ناحيةٍ من مَكَّةَ، فأقاموا به ثلاث سنين تلوّوا جوعًا وعطشًا وعريًا، ولحقتهم مشقّة عظيمة، فكانوا يضعون الحجارة على بطونهم اتقاءً للآلام التي تنهش في أمعائهم، كانوا يبحثون عن الخرق البالية يعصبون بها رؤوسهم لتخفيف الأوجاع، تحملوا البرد القارس والصقيع القاتل في تلك الشعاب، فكانوا يلتحفون السماء ويفترشون الغبراء، يقول سعد بن أبي وقاص وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة: ولقد رأيتني مع رسول الله فخرجت من الليل أبول، وإذا أنا أسمع قعقعة شيءٍ تحت بولي، فنظرت فإذا قطعة جلد بعير، فأخذتها فغسلتها ثم أحرقتها فرضختها بين حجرين ثم استففتها، فشربت عليها ماء، فقويت عليها ثلاثًا.
هؤلاء هم السادة الذين طردتهم قريش ظلمًا وعدوانًا حتَّى جَهِدُوا جَهْدًا شديدًا، ثم إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ أَرْسَلَ على صحيفةِ قريشٍ الأَرَضَةَ لتأكل صحيفة المقاطعة، فلم تَدَعْ فِيْهَا اسمًا لِلَّهِ إلا أَكَلَتْهُ وبَقِيَ فِيْهَا الظُّلْمُ والقطيعةُ والبُهْتَانُ، وقيل: أكلت الصحيفة ولم تبق منها إلا "باسمك اللهم"، وصدق الله العظيم: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر:31]. وبذلك عاد المسلمون إلى مكة ليمارسوا الدعوة إلى الله تعالى، وانتهت المقاطعة الظالمة، ولكن المشركين عادوا إلى طغيانهم وظلوا على باطلهم واجتهدوا في إيقاع الإيذاء بالمسلمين، واجتمعت قريش في دار الندوة يبحثون عن أنجع الوسائل للقضاء على رسول الله ، ففي يوم الخميس من شهر صفر من السنة الرابعة عشر من النبوة اجتمع كفار قريش في دار الندوة، وبعد أن تكامل الاجتماع بدأ عرض الاقتراحات والحلول، فاتفقوا على قتل النبي .
هكذا ـ يا عباد الله ـ كان البلاء يصب على رسول الله وعلى أصحابه صبا، ولكنهم صبروا في ذات الله عز وجل حتى كانت الهجرة المباركة التي أنقذ الله تعالى بها عباده من الاضطهاد والظلم والطغيان.
|