الحمد لله أهل الحمد والثناء، أحمده سبحانه وأشكره في السّراء والضراء، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأرض والسماء، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبد الله ورسوله سيد المرسلين وخاتم الأنبياء، صلى الله سلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه البرَرَة الأتقياء، والتابعين ومن تبِعهم بإحسان إلى يوم القضاء.
أما بعد: أيّها المسلمون، ونحن في استقبالِ العامِ وفي مفتَتَح عامِ الهجرة النبوية نستَذكِر الهجرةَ بصاحبها عليه الصلاة والسلام وبأحداثها، ومِن أبرز دروسِها ما خاطب الله سبحانه وتعالى هذه الأمّةَ في هذه الآية: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]. ويحسَب المتأمّلُ أنَّ الأمةَ اجتهدت في نصرةِ نبيِّها محمّد هذه الأيّام.
مِن حقِّ كل مسلِمٍ أن يعبِّر عن فرحتِه العامِرة وسعادتِه الغامِرَة بهذه الهبَّة الإسلاميّة مِنَ الأمة المحمّدية، دفاعًا رائعا عن خيرِ البرية سيّدنا ونبيّنا وإمامنا وحبيبنا محمّد ، روحٌ جديدة عظيمة تسرِي في جسد الأمة تذكِّر بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: ((مثَل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفِهم كمثل الجسَد الواحد إذا اشتكى منه عضو تَداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)). في هبّة الغيرة على حبِّ محمّد تكاتفَتِ الأمّة وتداعت إلى الحقّ، وكان لهذه البلاد بلادِ محمّد مولدِه ومبعثِه ومهاجره ومتنزَّل كتابِه ومهبَط وحيِه كان لها دورُ الرّيادة مما يستحقّ الثّناء والإشادة، ثم تبِعَهم إخوانهم وأشقّاؤهم دوَلاً وشعوبًا.
رُبَّ ضارّةٍ نافعة أيّها المسلمون، فالمسلمون بإذن الله لم يصِلوا مرحلةَ الغثاء، لقد صار بوسعِهم في زمنِ العوَلمة أن يأخذوا موقِفًا مشتركًا يعبر قارّات الدنيا كلَّها، لم يعد بوسعِ العالم أن يتجاهلَ هذه الأمَةَ ومشاعِرَها لِيَخشى هبَّتها ونهضتها ولتَفرِضَ هيبتها.
إنَّ الاعتذارات حين تحصُلُ من المخطئين والمسيئين ليس التزامًا بمعايير الأخلاق واعترافًا بالحقوق، بل إنّه حسابٌ للمصالح وتقديرٌ للعواقب وهيبَة لمن أساؤوا في حقه، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:95].
ولعلَّ فرحتَنا وبشائر آمالنا في أمّتنا تدعونا لأن نقفَ وقفةَ تأمّل أمام هذه الواقعة حادِثَة إفكِ العصر، لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [النور:11].
مِن هذه الوقفات والتأمّلات هذه المنزلة العظيمةُ للحبيب المصطفى الرّسول المجتبى، فحبُّه لا يبلى، ومنزِلته لن يُنالَ منها، فهو في المقام العالي والمكان الشامخ السامِق لدى أتباعِه إلى يوم الدين بأبي هو وأمّي ، حبٌّ عظيم وكأنّه بين أظهرِنا عليه الصلاة والسلام، ولعلَّنا إن شاء الله نَبلُغ منزلةَ إخوانِه الّذين أَخبر عنهم ولم يَرَهم وتمنَّى رؤيَتَهم.
ومِن هذه التأمُّلات والمواقِف اجتماعُ الأمّة بكلِّ مذاهبها واتِّحاد مشاعِرِها ومواقِفها وشعورِها بأنهم أتباعُ هذا النبيِّ وأتباع هذا الدينِ وأنَّ العدوَّ واحد وأنَّ الهدفَ واحد.
ومِن ذلك قوّةُ هذه الأمة وفاعِليّتها في شعوبها ودُوَلها.
ومِن ذلك افتضاحُ الأعداء النّاطقين منهم والصامِتين.
ومِن ذلك افتضاحُ المعايِيرِ، فمَن هو يا تُرَى المتَّهَم بالإقصاء؟! وَمَن هو المتَّهم بكرهِ الآخر وبُغض الآخر؟! ومَن هو المدعُو للتسامح؟!
ومِن باب افتضاحِ المعايير واضطِرابها ما قيل مِن حرّيّة الكلمة وحرّيّة الرأي وحرية التعبير، ومن المعلوم لدى العقلاءِ أنَّ الاستهزاءَ بالناس وقذفَهم والسخريةَ بهم ليس من الحرية في شيء، بل لا يمارِسها متّزنٌ فضلاً عن يقبَلها عاقل. ومِنَ المعلوم أنه حين كسِّرَت بعضُ التماثيل في بعضِ البلدان قامت قائمَتُهم ولم تَقعُد وأرجَفُوا بخَيلِهم ورَجِلهم واستكتَبوا أهلَ الشرق والغرب، وليس المقامُ هنا مقام تصويبِ ذلك أو تخطئَتِه، ولكنّه شاهدٌ لاضطرابِ المعايير وغَلَبة الأهواء وتوظيفِ الأحداث، ناهيكم بأمورٍ تواصَوا على منع الحديثِ عنها أو الكتابةِ فيها ضارِبين بما أسموه: حرّيّة الرأي وحريةَ التعبير عرضَ الحائط.
ومن هذه المواقفِ والدروس والتأمّلات عِظَم أثرِ الإعلام في إيجابياته وسلبيّاته، وما ينبغي أن يلتَفِت إليه القادرون من المسلمين من البذلِ في هذا المرفق وترشيده وتوجيهه لخدمة الأمّة، فالعصر عصرُ إعلام، والكلامُ للقنواتِ والفضائيات وشبكات المعلومات، فعلى القادرين من الأمّة وتجّارها وهم خير من يُدعَى وخير من يسمع: تِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ [التوبة:24]، حاشا بإذن الله، فأنتم أهلُ البذل والغَيرة والنّجدة.
ومِنها ضبطُ العواطف والسَّير في الموضوعِ برشادٍ ورَوِيّة، ويجب الرجوعُ إلى رجالِ الأمّة من أهل العلم والرأيِ والقَرار؛ حتى تؤتيَ الأعمال ثمارَها، ولا تكون الهبّةُ إثاراتٍ وعواطفَ لا أزمَّة ولا ضوابطَ، تُديرها هواتِفُ جوّالة وتحرِّكها عباراتٌ في شبكاتِ معلومات.
ومنها أنَّ نصرةَ نبيِّنا محمّد دينٌ يتقرَّب به المسلمون إلى ربهِم ونعمةٌ ينعِم بها الله عليهم، أما جانِب المصطفى فمحفوظ، وجانبه مَنصور، ولو تقاعس المسلمون وتخاذلوا فلقَد قال سبحانه: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ [التوبة:40]، وقال سبحانه: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ [محمد:38]، وقال في حقّه سبحانه: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ [المائدة:67]، وقال له سبحانه: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، وقال له: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، وقال له: فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [البقرة:137]، وقال له: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4].
هذهِ مواقفُ ودروس وعِبَر وبشائر، فاتقوا الله رحمكم الله، وتعلَّقوا بربّكم، وحاسبوا أنفسكم، واعملوا واجتهدوا وأخلِصوا وأبشروا وأمِّلوا، واستدركوا وأنتم في مستقبَلِ عامِكم وفي مستهلِّه، استدركوا أعمالَكم فرائضَ ونوافل، فأنتم في مقتَبَل هذا العامِ الجديد، فاستعتِبوا واستدركوا، وهذا هو شهر الله المحرَّم، فأروا الله من أنفسِكم خيرًا.
وإنَّ من خير ما تستَفتِحون به عامكم ما ندَبكم إليه نبيُّكم محمّد من صيام يوم العاشر وصيامِ يومٍ قبله أو يوم بعده، يقول ابن عباس رضي الله عنهما كما في صحيح مسلم: ما علِمتُ أنَّ رسول الله صام يومًا يطلب فضلَه على الأيام إلا هذا اليوم، يعني يوم عاشوراء الحديث. وفي الصحيح أيضا عن أبي قتادةَ رضي الله عنه أنَّ النبيّ قال: ((صوم يوم عاشوراء يكفر السنة الماضية)).
فبادِروا إلى الخيرات، وسارعوا إلى المكرُمات، ومن كان صائمًا فليصُم يوما قبله أو يومًا بعده، ومن صام شهر الله المحرّم كلَّه فهو خير إلى خير، فأفضل الصيام بعد رمضانَ شهرُ الله المحرم كما جاء بذلك الخبر.
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وأروا الله من أنفسكم خيرا، وصلوا على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى سيدنا ونبينا محمد خليل ربّه، فقد أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز قائلا عليما: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد النبي الأمي، وعلى آله الطيبين الطاهرين...
|