أما بعد: فتقوى الله للمؤمن خير زاد، وبحسبها تتفاوت غدًا منازل العباد، وبها يتفاضل الخلق عند ربّ العباد، واقرؤوا قول ربكم: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ [البقرة:197]، وقوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [الحجرات:13].
إخوة الإسلام، بهذا الدين أكرمنا الله جل شأنه، فكانت لنا سعادة الدنيا والآخرة، وببعثة سيد المرسلين كان العهد الجديد للبشرية التي خرجت من ظلمات التيه ومن سراديب الشرك وغوايات الضلالة إلى رحاب الإيمان الفسيح ونور الحق الأبلج الذي حمل مشعله رسول الله ، ولقي في سبيل ذلك من الأذى والعَنت ما لقي، حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، فحمل الرسالة وبلّغ الأمانة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فهدى الله به من الضلالة، وبصّر به من العمى، وأخرج الناس به من الظلمات إلى النور، ولم يزل شفيقًا على أمته عطوفًا مريدًا كل الخير لأمته، كما نعته ربه: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، حتى إذا كان يوم القيامة سعى دونهم ودعا وشفع، فأكثر من يدخل الجنة من الخلائق أمتهُ، بل يدخلون الجنة ولا يدخلها قبلهم أحد.
فتالله، ما أسعد هذه الأمة بنبيها، وما أحظاها بشرفه وبركته ، بل ما أعظم حقه على أمته بعد أن بذل وضحّى لأجلها كل ذلك، حتى حاز لها سعادة الدنيا والآخرة؛ ومن أجل ذلك فلقد صار من مقتضى الشهادتين التي ينطق بها كل مسلم حبُّ رسول الله وطاعته ونصرته وتعزيره وتوقيره، كما قال ربكم سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:8، 9]، ولن يستقر إيمان عبد حتى تتربّع محبّة رسول الله على عرش قلبه، كما قال هو : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).
معشر المسلمين، إن الصراع بين الحق والباطل محتدم إلى قيام الساعة، وإنما الواجب على عباد الله المؤمنين الذين أكرمهم الله بهذا الدين فنطقوا بالشهادتين وأحبوا الله ورسوله أن يذودوا عن حياض دينهم، وأن يحموا حمى شريعتهم؛ دفاعًا عن دينهم، وقيامًا بالواجب عليهم، كلٌّ حسب استطاعته، الرئيس منهم والمرؤوس، الأمير والمأمور، الراعي والرعية.
هذا، وإننا لفي زمن يشهد عداءً سافرًا وهجومًا شرسًا حاقدًا على الإسلام وأهله، حربيًا ونفسيًا واقتصاديًا ودينيًا، اجتمع فيه علينا الشرق والغرب، لم يجمعهم إلا كراهية هذا الدين وأهله، والغرب النصراني الحاقد بكل دوله يتزعم راية هذه الحرب السوداء، وها قد أعادوها حملات صليبية على بلاد الإسلام قهرًا واستعبادًا وظلمًا واضطهادًا، يسوقهم حقدهم، ويدفعهم كيدهم، وصدق الله: لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، ويومًا بعد يوم في ظل صمت الأمة العاجزة، يتطاول العداء ليمسّ عقائدنا وأصولَ ديانتنا ليصل إلى مقام الألوهية الجليل ومقام النبوة الشريف، لتخطّ أقلام النصارى الحاقدين سخرية واستهزاءً وشتمًا وانتقاصًا لسيّد البشر وإمام الأنبياء والمرسلين ، في صحافتهم التي توزّع بالملايين كلَّ يوم. أما إن بلاد الأمة قد احتلّوها، وخيراتها قد اغتصبوها، وأعراضها انتهكوها، ودماءها قد سفكوها، فلم تحرّك الأمة في ذلك ساكنًا، ولم يَلْوِ المسلمين على شيء، وسكتوا على دمائهم وأعراض نسائهم وخيرات بلادهم ودمار منازلهم، لكن أن يصل البغي إلى عِرض رسول الله فتظلّ الأمة صامتة!! فماذا بقي لنا من ديننا ومن حياتنا أجمع بعد كتاب ربنا وسنة نبينا ؟! ولئن سكتنا الآن فمتى نتكلم؟!
ألا مِن حقٍّ لله ولرسوله يؤخَذ من هؤلاء النصارى الحاقدين وعلى رأسهم دولة الدانمرك التي تبنّت في صحافتها ذلك السيل القذر في شتم المصطفى منذ ثلاثة أشهر أو أكثر؟!
ألا فلتعلمي ـ أمّة الإسلام ـ أن علماء الملة قد أجمعوا على أن مَن سبّ النبي فحدُّه القتل، قال إسحاق بن راهوية: "أجمع المسلمون على أن من سبّ الله أو سبّ رسوله أو دفع شيئًا مما أنزل الله عز وجل أو قتل نبيًا أنه كافر بذلك، وإن كان مقرًّا بكل ما أنزل الله"، وقال الخطابي: "لا أعلم أحدًا من المسلمين اختلف في وجوب قتله"، وقال محمد بن سحنون من علماء المالكية: "أجمع العلماء على أن شاتم النبي والمتنقص له كافر، والوعيد جاء عليه بعذاب الله له، وحكمه عند الأمة القتل، ومن شك في كفره وعذابه كفر"، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن السابَّ إن كان مسلمًا فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وإن كان ذِمِّيًّا فإنه يُقتل أيضًا في مذهب مالك ومذهب أحمد وفقهاء الحديث".
وجاء في كتاب الله عز وجل وعيد عظيم، قال الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا [الأحزاب:57]، وقال سبحانه: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة:61]، وقال: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ [التوبة:63].
فأين صدق المحبة لرسول الله معشر المسلمين يومَ اكتفينا بمطاعمنا ومشاربنا وملابسنا وسائر شؤون حياتنا، ولم يتغيّر قلب أحد ولا وجهه لما يُصيب رسولنا وهو أعظم البشر حقًا علينا؟! ولو أن أحدنا نيل من عرضه وسمعته أو شرف أمّه وأبيه لما أطاق لذلك صبرًا، ولهانت عليه الحياة بعد ذلك، أنسمع ونرى ذلك التطاول المُعلن على مرأى العالم أجمع في حقّ نبي الأمة ثم لا يؤثر فينا ذلك؟! فلنراجع إيماننا إذًا، فوالله إنه لغير صحيح.
وإني مُسمعُكم ـ أصلحكم الله ـ طرفًا من مواقف أقوام ذوي إيمان حقّ، كيف أصابهم لما نيل من عرض رسول الله ومكانته:
قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصفّ يوم بدر إذ التفتُّ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان صغيران، فكأني لم آمن بمكانهما ـ أي: خشيت عليهما ـ، إذ قال لي أحدهما سرًا من صاحبه: يا عمّ، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، فما تصنع به؟! قال الفتى: أُخبرتُ أنه يسبّ رسول الله ، قال: والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجَل منا، فتعجّبتُ لذلك. قال: وغمزني الآخر فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟! هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، قال: فانطلقا إليه فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، وهما: معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء، ثم انصرفا إلى رسول الله فقال: ((أيكما قتله؟)) فقال كل واحد منهما: أنا قتلته يا رسول الله، فقال: ((هل مسحتما سيفيكما؟)) قالا: لا، فنظر إلى السيفين وقال: ((كلاكما قتله)).
وأخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبي وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان ذات ليلة جعلت تقع في النبي وتشتمه، فأخذ المِغْول ـ كالسيف القصير ـ فوضعه في بطنها واتّكأ عليه فقلَتها، فلما أصبح ذُكر ذلك للنبي، فجمع الناس فقال: ((أنشد رجلاً فعل ما فعل، له عليَّ حقٌ إلا قام))، فقام الأعمى يتخطّى الناس وهو يتزلزل حتى قعد بين يدي النبي فقال: يا رسول الله، أنا صاحبها، كانت تشتمك وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتِمك وتقع فيك، فأخذتُ المِغْول فوضعته في بطنها واتَّكأت عليه حتى قتلتُها، فقال النبي : ((ألا اشهَدوا أنَّ دمها هَدَرٌ)).
وقد أمر النبي بقتل جماعة ممّن كان يؤذيه بالقول ويهجوه بالشعر أو ينتقص منه، مثل كعب بن الأشرف اليهودي الذي قال فيه النبي : ((من لكعب بن الأشرف؟ فإنه قد آذى الله ورسوله))، فقال محمد بن مسلمة: أنا يا رسول الله، أتحب أن أقتله؟ قال: ((نعم))، فقتله محمد بن مسلمة في قصة بطولية رائعة.
وكقصة المرأة الخَطْمية عصماء بنت مروان التي كانت تؤذي النبيّ وتهجوه، وتعيب الإسلام وتحرِّض على النبي ، فقال عمير بن عدي من قومها: اللهم إنّ لك عليَّ نذرًا لئن رددتَ رسول الله إلى المدينة لأقتلنَّها، ورسول الله آنذاك ببدر، فلما رجع انطلق عمير بن عدي في جوف الليل فدخل عليها بيتها وحولها نفر من ولدها نِيام، منهم من ترضعه في صَدرها، فحسّها بَيده، فوجد الصبيّ ترضعه، فنحّاه عنها ثم وضع سيفه على صدرها حتى أنفذه في ظهرها، ثم خرج حتى صلّى الصبحَ مع النبيّ ، فلما نظر إليه قال: ((أقتلتَ بنت مروان؟)) قال: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وخشِي عُمير أن يكون افتأت على رسول الله بقتلها، فقال: هل عليَّ في ذلك شيء يا رسول الله؟ قال: ((لا ينتَطح فيها عنزان))، فالتفت النبي إلى من حوله فقال: ((إذا أحببتم أن تنظروا إلى رجل نصر الله ورسوله بالغيب فانظروا إلى عمير بن عدي)).
ورُفع إلى المهاجر بن أبي أمية ـ وكان أميرًا لأبي بكر على اليمامة ـ امرأتان مغنّيتان، غنّت إحداهما بشتم النبي فقطع يدها ونزع ثناياها، وغنت الأخرى بهجاء المسلمين فقطع يدها ونزع ثنيّتها، فكتب إليه أبو بكر: بلغني الذي فعلتَ بالمرأة التي تغنّت بشتم النبي، فلولا ما قد سبقتني لأمرتك بقَتلها، لأن حدّ الأنبياء ليس يشبه الحدود، فمن تعاطى ذلك من مسلمٍ فهو مرتدّ، أو معاهد فهو محاربٌ غادر.
ولم يقل الفقهاء أنه يُستتاب، والسبب أن ذلك حقّ للنبي، وقد كان له أن يعفو عمّن شمته حال حياته، أما بعد مماته فليس للأمة كلّها أن تعفوَ عن ذلك، ولذلك فإنه يُقتل وإن تاب.
فاتقوا الله ربكم، وانصروا نبيَّكم، وذودوا عن حياض دينكم، واستغفروا الله ربكم، إنه غفور رحيم.
|